ج1. جامع الآثار في السير ومولد المختار
1. تصنيف الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي البقاء الشافعي
المتوفى سنة 842 هـ
تحقيق أبي يعقوب نشأت كمال دار الفلاح الطبعة الأولى
1431 هـ - 2010 م
#61#
&بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي&
الحمد لله الذي أبدى محمدا صلى الله عليه وسلم أزكى العالمين عشيرا، وأطلعه فردا في المرسلين، ولم يجعل له نظيرا، وأرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، قرب أتباعه إليه زلفى، وقوّم به قوما عوجا، ورقق منهم جلفا، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، فوحدوا الله توحيدا خالصا خطيرا.
أحمده بجميع محامده كلها على مديد نعمه دقها وجلها حمدا يفرض لنا الكثير من نفلها.
وأشكره شكرا دائما غزيرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، التامة كلمته، السابغة نعمته، العظيمة قدرته، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا معينا ولا وزيرا.
وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده المنعوت بالسيادة، ورسوله المبعوث بالسعادة، ونبيه المخصوص بالشهادة، القائم يوم القيامة مقاما محمودا كبيرا، صلى الله عليه وعلى آله السادة الأكرمين، وأصحابه العلماء العاملين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
#62#
فإن قلوب المؤمنين وأفئدة المتقين وأرواح المحبين تحيا عند نشر الأحاديث النبوية، وتنير بسماع السيرة المحمدية، وتتشوق إلى وصف أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم الشريفة، وتتشوف إلى نعت أوصافه الجليلة المنيفة، وتتشرف ببث آدابه الجليلة اللطيفة، وترتاح في كل عام إلى سماع حديث مولده عليه أفضل الصلاة والسلام.
#63#
وقد صار ذلك [لهم] بدعة حسنة يهيمون بها في كل سنة، ويظهرون لذلك الفرح والسرور في شهر ربيع الأول دون بقية الشهور وذلك بـ (مكة) و (المدينة) و (مصر) و (الشام) وغيرها في بلاد الإسلام، لكن الناس متفاوتون في عمل ذلك، ومنهم من يسلك فيه أهدى المسالك، ومنهم من يهلك فيمن هو هالك، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، وكل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا.
وأول من أطلع لهم هذا الفعل الأسعد وفاز منه –إن شاء الله- بالأجر السرمد: الملك المظفر أبو سعيد كوكبري ابن الملك علي بن بكتكين بن محمد، فإنه أول ملك في العرب والعجم عمل وليمة لمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتفاله [بذلك] في كل مجمع، وما كان فيه يصنع لا يحاط به
#64#
أجمع، وقد ذكر أنه كان ينفق في المولد في كل عام ثلاثمائة ألف دينار على الخلع والطعام.
ولقد بلغنا عمن رأى تلك الوليمة السنية أنه كان مرة على المائدة خمسة آلاف شاة مشوية، وعشرة آلاف دجاجة على السماط، ومائة فرس للأكل لا للرباط، ومائة ألف إناء من أنواع الطعام، وثلاثون ألف صحن من الحلوى للخاص والعام.
وكان فيما بلغنا أن أهل تلك النواحي والبلاد (كالجزيرة) و (سنجار) و (نصيبين) و (الموصل) و (بغداد) من الفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية
#65#
والرؤساء والشعراء يسعون في كل سنة إلى إربل لحضور ذلك الوقت المفضل من مستهل المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.
ويأمر أبو سعيد في المحرم بإخراج القباب المزينات، كل قبة فيها أربع أو خمس من الطبقات، فتنصب من باب قلعة السلطان إلى باب الخانقاه المجاورة للميدان، فإذا كان أول صفر زينت القباب الظاهرة بأنواع الزينة المليحة الفاخرة، ويحصل فيهن كل يوم فرح وسرور ربما أدى للوقوع في المحذور.
حتى إذا بقي للمولد يومان سيقت الأنعام إلى الميدان، ثم تنحر وتطبخ منها الأطعمة المختلفة [الألوان]، فإذا كان ليلة عمل المولد صلى أبو سعيد المغرب بالقلعة، ثم نزل وبين يديه شمع كثير منها أربع على كل بغل شمعة، يسند كل واحد رجل إليه، إلى أن يدخل الخانقاه، فتنصب بين يديه، ويأمر بالخلع، فيؤتى بها حين يصبح، ويجلس في الإيوان، ويقدم للصعاليك سماطا في الميدان، وسماطا ثانيا في الخانقاه للأعيان، ثم يقرأ القراء القرآن ويعظ الوعاظ بالألحان، ويخلع على كل إنسان ما يليق به من الخلع الحسان.
#66#
وإذا فرغوا وتهيأ كل لجمع شمله دفع إليه ما يليق به نفقة ومركبا وهدية إلى أهله.
وسنة يعمل المولد في ثامن شهره، وسنة في ثاني عشره.
وكان الملك أبو سعيد محبوبا إلى رعيته بحسن نيته، ولم يسمع لأمثاله بمثل سيرته، وكان له معروف في كل نوع من الأنواع، ولم ينقم عليه سوى حب السماع، والله يعفو عنا وعنه بكرمه.
وسمع الحديث من حنبل الرصافي وغيره من المحدثين، وسمع أهل بلده في ناس آخرين، منهم : المفيد عبد العزيز بن هلالة وآخرون من ذوي الجلالة، وكان مولده بقلعة الموصل في المحرم لمضي الثالث والعشرين، سنة تسع وأربعين وخمس من المئين، وتوفي بقلعة إربل في شهر الصيام وله ثمانون سنة وغالب عام، ودفن بإربل مدة معروفة، ثم حمل ليدفن بمكة، فدفن جوار مشهد الكوفة، ولأجله ألف المحدث الزاعم أنه ذو النسبين بين دحية
#67#
والحسين: أبو الخطاب عمر بن الحسن الجميل علي الداني كتابه "التنوير في مولد البشير النذير صلى الله عليه وسلم"، لكن لم يحرره ذلك التحرير، وفيه مما لا يتعلق بالمولد شيء كثير، وهو ممن لا يوثق بنقله، والله تعالى يسامحه وإيانا بفضله.
ولقد قال العلامة أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي ثم الدمشقي الشافعي الملقب أبا شامة: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا من هذا القبيل.
يعني: من قبيل البدع الحسنة المتفق عليها وعلى جواز فعلها
#68#
والاستحباب لها ورجاء الثواب لمن حسنت نيته فيها حسبما ذكره – ما كان يفعل بمدينة إربل –جبرها الله- كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات والمعروف و [إظهار] الزينة والسرور، فإن ذلك مع ما فيه من الإحسان إلى الفقراء مشعر بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وجلالته في قلب فاعله، وشكرا لله سبحانه وتعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين.
ذكره العلامة أبو شامة في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث" وكانت وفاته في رمضان سنة خمس وستين وستمائة، وله ست وستون سنة، رحمه الله .
ولما رأيت أحوال المؤمنين على ما وصفناه من الميل والمحبة لما ذكرناه ألفت هذا المختصر المعلم من أحوال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر مولده ومنشئه وصفاته وأخلاقه الشريفة ووفاته ليحصل لهم غاية مطلوبهم ويحصلوا خصال محبوبهم، ويزدادوا إيمانا ومحبة ويرتقوا بذلك أعلى رتبة، فالمرء مع من أحب.
#69#
&[طرق حديث المرء مع من أحب]&
ثبت من حديث أبي إسماعيل حماد بن زيد الأزدي البصري أحد الحفاظ الأعلام [عن ثابت]، عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم [ظ2ب] عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها» قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال: «أنت مع من أحببت». [قال أنس رضي الله عنه: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أنت مع من أحببت»] قال أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
كما رواه سعيد بن منصور وعارم أبو النعمان وعبد الأعلى بن حماد وأبو الربيع الزهراني، وغيرهم عن حماد. تابعه: جعفر بن
#70#
سليمان، وحسين بن واقد، وسلام بن أبي الصهباء، وعثمان بن مسلم، ويونس بن عبيد، عن ثابت.
وهو في "منسد أحمد بن حنبل" قال: حدثنا عفان، [حدثنا همام]، حدثنا قتادة، عن أنس. فذكره.
وعلقه البخاري في "صحيحه" عن شعبة.
وخرجه مسلم من حديثه وحديث هشام، كلاهما عن قتادة، عن أنس بنحوه.
ورواه قتيبة بن سعيد ومحمد بن عبيد بن حساب، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس.
وتابعهم همام بن يحيى عن قتادة.
ورواه شعبة عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال «ما أعددت لها؟» قال: [ما] أعددت لها من كبير صلاة ولا صوم
#71#
ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال: «أنت مع من أحببت».
تابعه منصور عن سالم، وهو في "الصحيحين" لسالم.
والسائل: هو أبو موسى الأشعري، وقيل: [هو] أبو ذر، فالله أعلم.
وقال الحارث بن أبي أسامة: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ثم صلى ثم قال: «أين السائل عن الساعة؟» قال الرجل: أنا. قال: «ما أعددت للساعة؟». قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت». فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم [بها].
#72#
تابعه إسماعيل بن جعفر عن حميد نحوه، ورواه مسدد بن مسرهد في "مسنده" عن يحيى، عن حميد الطويل، عن أنس. فذكره.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" فقال: حدثنا أحمد بن خليد، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض له أعرابي فقال له: متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها من خير أحمد عليه نفسي، غير أني أحب الله ورسوله. قال: «فأنت مع من أحببت».
قال الطبراني: لم يرو أبو المليح عن الزهري، عن أنس غير هذا. اهـ
ورواه عبد الله بن الزبير الحميدي عن سفيان بن عيينة، عن الزهري.
تابعه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة؟ فقال: «ما أعددت لها؟» قال: ما أعددت لها من شيء، ولكني أحب الله ورسوله. قال: «المرء مع من أحب».
#73#
وحدث به مسلم في "صحيحه" عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، كلهم عن سفيان بنحوه.
ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أعددت لها؟»، فقال الأعرابي: ما أعددت لها كبيرا أحمد عليه نفسي، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنك مع من أحببت».
ورواه عبد الله بن محمد البغوي عن علي بن الجعد، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس.
[وحدث به الترمذي في "جامعه" عن أبي هشام الرفاعي، عن حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن، عن أنس] رضي الله عنه مرفوعا: «المرء مع من أحب وله ما اكتسب».
غريب من حديث الحسن عن أنس.
قاله الترمذي.
#74#
تابعهما قرة بن خالد ومحمد بن جحادة وغيرهم عن الحسن، منهم: يزيد بن يعفر فيما رواه أبو الحسن محمد بن الباهلي، حدثنا محمود بن خالد، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن راشد، حدثني يزيد بن يعفر، عن الحسن: أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما صلى قال: «أين السائل عن الساعة؟»، فقام الرجل، فقال: «أما إنها حق، فماذا أعددت لها؟»، قال: ما أعددت لها من كبير أجده، غير أني أحب الله وأحب رسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنك مع من أحببت، ولك ما احتسبت».
تابعه محمد بن يونس الكديمي عن محمد بن راشد بنحوه.
ورواه القعنبي عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.
#75#
عن أنس بنحوه.
ورواه عمر بن يونس عن محمد بن موسى الأنصاري، عن حفص بن عمر بن أبي طلحة، عن أنس.
ورواه يحيى بن عبد الحميد الحماني عن سليمان بن بلال، عن شريك، عن أنس.
تابعه يحيى بن محمد بن قيس عن شريك.
ورواه أحمد بن عصام عن أبي عاصم، عن عثمان بن سعد، عن أنس.
#76#
ورواه أبو ضمرة أنس بن عياض والأنصاري، وغير من ذكرناه عن أنس.
وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا يزيد، أخبرنا محمد ابن عمرو، عن كثير بن خنيس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ ، قال: «وماذا أعددت للساعة؟»، قال: حب الله ورسوله. قال: «أنت مع من أحببت».
كثير هذا غير كثير بن خنيس الراوي عن عمرة بنت عبد الرحمن، فرق بينهما البخاري في "تاريخه الكبير".
وحدث أبو يحيى زكريا بن يحيى بن أسد المروزي، عن سفيان، عن الزهري، قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله، رجل يحب المصلين ولا يصلي إلا قليلا، ويحب الصائمين
#77#
ولا يصوم إلا قليلا، ويحب الذاكرين ولا يذكر إلا قليلا، ويحب المتصدقين ولا يتصدق إلا قليلا، ويحب المجاهدين ولا يجاهد إلا قليلا، وهو في ذلك يحب الله ورسوله والمؤمنين، قال: «هو يوم القيامة مع من أحب».
وللحديث شاهد من حديث: علي بن أبي طالب، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله، وأبي ذر، وأبي قتادة، وأبي سريحة حذيفة بن أسيد بن الأعوز –ويقال: الأغوس- الغفاري، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي، وصفوان بن عسال المرادي،
#78#
وصفوان بن قدامة -من أهل حمص- وابنه: عبد الرحمن، وصفوان بن قدامة المرادي، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وعروة بن مضرس، وأبي بدرة، ومعاذ بن جبل، وعائشة، رضي الله عنهم.
وطرقه جمة.
وقد صنف فيه الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الصوفي الأصفهاني مصنفا جمع فيه غالب طرقه سماه: "ذكر المحبين مع المحبوبين إذا وافقوهم في العقد والحال".
#79#
وروينا من حديث الحافظ أبي علي أحمد بن محمد البرداني، قال في كتابه في: "من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه": أخبرنا محمد بن علي بن الفتح الحربي، أخبرنا مبادر بن عبيد الله الصوفي، سمعت أبا الأزهر عبد الواحد بن محمد، سمعت الشيخ الصالح –قال الحافظ أبو علي: لعله ابن خفيف- يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام جالسا ومعه جماعة من الفقراء من هذه [الطائفة]، فإذا أنا بالسماء قد انشقت، وجبريل مع الملائكة بأيديهم الطشوت والأباريق، يصبون الماء على أيدي الفقراء، فغسلوها، فلما بلغوا إلي مددت يدي، فقال بعضهم لبعض: لا تصبوا الماء على يده؛ فليس منهم. فقلت: يا رسول الله، فإن كنت لست منهم فإني أحبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»، فصبوا الماء على يدي.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين في كتابه
#80#
"المواعظ": وأخبرنا محمد –يعني: ابن أخي ميمي- حدثنا أحمد –هو: ابن سعيد- البزار، حدثنا محمد –يعني: ابن جعفر بن داران- حدثنا خلف بن محمود أبو الطيب الفرغاني، حدثني فارس النجاد، قال: بلغني عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: رأيت في النوم جبريل عليه السلام قد نزل إلى الأرض، فقلت: لم نزلت في هذه الليلة؟ فقال: نزلت لأكتب المحبين. قلت: مثل من؟ قال: مثل: "مالك بن دينار" و "ثابت البناني" و "أيوب السختياني" فعد جماعة، فقلت: أنا فيهم؟ قال: لا. قلت: فإذا كتبتهم فاكتب تحتهم: محب المحبين. قال: فنزل الوحي: اكتبه أولهم.
وفي "الصحيحين" من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال [رسول الله صلى الله عليه وسلم]: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».
تابعه عبد العزيز بن صهيب، عن أنس.
ورواه أبو داود: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده».
#81#
وقال الزاهد أبو زرعة حيوة بن شريح التجيبي المصري أحد الأئمة: حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد: أنه سمع جده عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك». فقال له عمر: فإنه الآن، لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر».
انفرد البخاري بتخريجه.
تابعه ابن لهيعة عن زهرة به.
وحدث أبو الحسن علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري، عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني، إن قدرت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك غش لأحد فافعل». ثم قال لي: «يا بني، وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني، [ومن أحبني] كان معي في الجنة».
خرجه أبو عيسى الترمذي في "جامعه" من حديث محمد بن عبد الله الأنصاري عن أبيه –ووثقهما- عن علي بن زيد به.
#82#
و "علي بن زيد" هذا ولد وهو أعمى، وكان كثير الحديث. قاله ابن سعد في "الطبقات" وضعفه.
وذكر الترمذي أن عليا هذا صدوق، إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره.
ثم قال أبو عيسى: وقد روى عباد المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس، ولم يذكر فيه "سعيد بن المسيب".
قال أبو عيسى: وذاكرت به محمد بن إسماعيل –يعني: البخاري- فلم يعرفه، ولم يعرف لـ "سعيد بن المسيب عن أنس" هذا الحديث ولا غيره. اهـ
وقد جعلت هذا الجامع المختصر فصولا مبوبة لمعان مرتبة، وسميته "جامع الآثار في السير ومولد المختار" ساق الله إليه أفضل
#83#
الصلاة وأزكى التسليم، وجعل ما قصدته خالصا لوجهه الكريم، فهو [المولى] المولي لكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
#84#
&فصل: في البشارات العظيمة بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الله القديمة&
$من بشر به من الأنبياء والأحبار والعلماء وأنذر به من الكهان، وأعلم به من هواتف الجنان وهذا هو أحد الأقسام في الدلائل للنبوة والأعلام$
قال الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي رحمه الله: إن الله تعالى أعان خلقه على أوامره، وأغناهم عن نواهيه، وكان أنبياء الله –عليهم الصلاة والسلام- معانين على تأسيس النبوة بما يقدمه من بشائرها، ويبديه من أعلامها وشعائرها، ليكون السابق مبشرا ونذيرا، واللاحق مصدقا وظهيرا، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم لما أطلعهم الله تعالى على غيبه؛ ليكون عونا للرسول وحثا على القبول.
قاله أبو الحسن في كتابه "أعلام النبوة".
#85#
$ذكره صلى الله عليه وسلم في القرآن$
فأما ما في القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد من الآيات الشريفات في البشارات المنيرات:
فمنها ما قال الله عز وجل: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}
وقال تعالى: {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم}
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام-:
{ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}
وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}
وقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} الآية
وقال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من
#86#
قبل لفي ضلال مبين}
وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} الآية
وقال تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم} الآية
وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل} الآية
وقال تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب} الآية
وقال تعالى فيما أخبر أنه كلم به موسى –عليه الصلاة والسلام- وخاطب به نبينا –عليه أفضل الصلاة والسلام-: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} الآية.
#87#
وقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}
وقال تعالى: {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} الآية
وقال تعالى: {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}
وقال تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما}
وقال تعالى: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}
وقال تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}
وقال تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما . وينصرك الله نصرا عزيز}
وقال تعالى: {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا . لتؤمنوا بالله ورسوله}
وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} الآيات
وقال تعالى: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى} الآيات
#88#
وقال تعالى: {وإذا قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} الآية
وقال تعالى: {يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم . هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}
وقال تعالى: {ن والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون} الآيات
وقال تعالى: {قم الليل إلا قليلا} الآيات
وقال تعالى: {يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر} الآيات
وقال تعالى: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى} السورة
وقال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} السورة
وقال تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} السورة
والآيات في ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن كثيرة، ومعانيها شريفة خطيرة.
#89#
$[معرفة أهل الكتاب بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم]$
حدث شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي مولاهم النحوي المؤدب البصري في "تفسيره": عن قتادة في قوله تعالى: {وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} قال: كتموا محمدا صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}
وجاء عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} أي: آلائي عندكم وعند آبائكم. لما كان نجاهم به من فرعون وقومه {وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم} قال: بعهدي الذي أخذت من أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ جاءكم، أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من إخوانكم.
وخرج الشيخ الإمام –شيخ الإسلام- أبو بكر أحمد بن الحسين بن
#90#
علي البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" من حديث يوسف بن موسى، قال: حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء: "اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان، إلا نصرتنا عليهم".
قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله عز وجل: {وكانوا من قبل يستفتحون} يعني: بك يا محمد {على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}
#91#
وخرجه أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" –من تأليفه- ليوسف بن موسى القطان، حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس. فذكره بنحوه، وجعل مكان "سعيد بن جبير": "عنترة".
وروي معناه عن عطية، عن ابن عباس.
قاله البيهقي.
وخرجه أبو محمد بن أبي حاتم في "تفسيره" من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وقال آدم بن [أبي] إياس: حدثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن
#92#
علي الأزدي قال: كانت اليهود تقول: "اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الذين يستفتحون به". أي: يستنصرون به على الناس.
وقال أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري –أحد الأئمة التابعين المخضرمين: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب، يقولون: "اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا، حتى نعذب المشركين ونقتلهم"، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}.
وحدث محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن رجال من قومه قالوا: ومما دعانا إلى الإسلام مع –رحمة الله وهداه: أنا كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا مما نسمع ذلك
#93#
منهم، فلما بعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات التي في "البقرة": {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} إلى قوله: {الكافرين}.
وقال أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة الهاشمي مولاهم الكوفي السدي: كانت العرب تمر بيهود، فيلقى اليهود منهم أذى، وكانت اليهود تجد نعت محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل!.
وحدث شيبان بن عبد الرحمن النحوي في "تفسيره" عن قتادة في قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم} قال: هو الفرقان الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم من التوراة والإنجيل {معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} قال: كانت اليهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب، كانوا يقولون: "اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم"، فلما بعث الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة
#94#
ويستفتحون به كفروا به حين رأوه بعث من غيرهم حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن": ومعنى: {يستفتحون على الذين كفروا} قيل: فيه قولان، قال بعضهم: كانوا يخبرون بصحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: {وكانوا من قبل يستفتحون} يستنصرون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} أي: ما كانوا [به] يستنصرون وبصحته يخبرون، كفروا به. فأعلم الله عز وجل أنهم كفروا وهم يوقنون أنهم متعمدون للشقاق وعداوة الله. اهـ
وقيل: هذه الآية الشريفة: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}: نزلت في مؤمني أهل الكتاب: عبد الله بن سلام وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته ومبعثه في كتابهم كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان.
وروي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وكيف ذلك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا يقينا، وأنا لا أشهد بذلك
#95#
على ابني، لأني لا أدري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك الله يا ابن سلام.
وحدث يزيد بن هارون، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: {قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} قال: عبد الله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن اليهود أعظم قوم عضيهة، فسلهم عني وخذ عليهم ميثاقا، أي: إن اتبعتك وآمنت بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل إليك، وأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك، فأرسل إلى اليهود فقال: «ما تعلمون عبد الله بن سلام فيكم؟» فقالوا: خيرنا وأعلمنا بكتاب الله، سيدنا وعالمنا وأفضلنا. قال: «أرأيتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل الله [علي]، تؤمنون بي؟»، قالوا: نعم. فدعاه فخرج عليهم عبد الله، فقال: «يا عبد الله بن سلام، أما تعلم أني رسول الله، تجدوني مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل، أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي، وأن يتبعني من أدركني منكم؟» قال: بلى. قالوا: ما نعلم أنك رسول الله، وكفروا به، وهم يعلمون أنه رسول الله وأن ما قال حق، فأنزل الله عز وجل: {إن كان من عند الله}
#96#
يعني: الكتاب والرسول {وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} يعني: عبد الله بن سلام {وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}، ففي ذلك نزلت هذه الآية.
وجاء نحوه في تفسير الآية عن عوف، عن الحسن.
وعن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
وعن إسرائيل أيضا عن جابر، عن مجاهد وعطاء وعكرمة.
وصح من حديث أبي النضر، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم [يقول] لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام.
قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}.
#97#
$[المثل المضروب في سورة النور]$
ومما حدث أبو الربيع سليمان بن داود العتكي الزهراني، عن يعقوب القمي، حدثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن شمر بن عطية: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال لكعب الأحبار –رحمة الله عليه: حدثني عن قول [الله] {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري} إلى قوله: {نور على نور}. قال: أما قوله: {الله نور السماوات} فالله نور السماوات والأرض، {مثل نوره} مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم {كمشكوة} المشكاة: الكوة، ضربها مثلا لقمة المشكاة، {فيها مصباح المصباح في زجاجة} "الزجاجة": [صدره]، {الزجاجة كأنها كوكب دري} شبه صدر النبي صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدري، ثم رجع إلى المصباح –أي: قلبه- فقال: {يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية} لم تصبها شمس الشرق ولا شمس الغرب، {يكاد زيتها يضيء} [ولو لم تمسسه نار]: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء وهو لم تمسسه النار، ثم قال: {نور على نور}.
تابعه الهيثم بن جميل، عن يعقوب القمي.
#98#
وهذا جاء من تفسير ابن عباس في الآية فيما حدث به أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، عن بكر بن سهل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله عز وجل: {الله نور السماوات والأرض}، يقول: هادي أهل السماوات وأهل الأرض، ثم انقطع الكلام، ثم استأنف، فقال عز وجل: {مثل نوره} يعني: نور محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان مستودعا في صلب أبيه عبد الله {كمشكاة}، يعني: كوة غير نافذة –بلسان الحبشة- {فيها مصباح} يعني بالمصباح: قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شبهه بالمصباح، في الضياء والنور لما به من الإيمان والنور والنبوة والحكمة، ثم ردد المصباح فقال: {المصباح في زجاجة} يعني: بالزجاجة: صدره صلى الله عليه وسلم، ثم ردد
#99#
في صدره، يعني: في الصفاء والحسن والنقاء مثل الزجاجة، ثم ردد الزجاجة {كأنها كوكب دري} يعني: في الصفاء والحسن، ويعني بـ "الدري": المضيء وهي: "الزهرة"، وليس في السماء نجم أضوأ من "الزهرة"، يريد: كما تضيء "الزهرة" لأهل الأرض كذلك جعلت قلبه في صدره، ثم قال: {يوقد من شجرة مباركة} يقول: استنار نور محمد صلى الله عليه وسلم من نور إبراهيم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من ولده وعلى دينه ومنهاجه وسنته –وذكر بقيته.
وجاء هذا التفسير أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وذلك فيما حدث به أبو الشيخ الأصبهاني عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، عن علي بن إسحاق بن إبراهيم الضبي، حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا علي بن ثابت، حدثنا الوازع بن نافع، عن سالم، عن أبيه رضي الله عنه: {كمشكاة} قال: "المشكاة": جوف محمد صلى الله عليه وسلم، و "الزجاجة" قلبه، و "المصباح": النور الذي في قلبه، {يوقد من شجرة مباركة} قال "الشجرة": إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" و "الأوسط"، فقال: حدثنا
#100#
أحمد بن منصور المدائني، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا علي بن ثابت، فذكره، وقال: لم يرو هذا الحديث عن سالم إلا الوازع بن نافع، تفرد به علي بن ثابت. قاله في "الأوسط".
#101#
$[ذكره صلى الله عليه وسلم، وبشائر به في التوراة وغيرها، وفضل أمته]$
وأما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة وغيرها من كتب الله عز وجل فقد نطق به القرآن العظيم، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والآثار الصريحة والأخبار الحسنة المليحة.
$*[صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة]$
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في "صحيحه": حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل،
#102#
ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا.
تابعه أبو عبد الله موسى بن داود [الضبي] الخلقاني، عن فليح.
و"فليح" لقب غلب عليه، واسمه: عبد الملك بن سليمان بن أبي المغيرة بن حنين المديني أبو يحيى، أخرج له في "الصحيحين" فارتفعت رتبته، مات سنة ثمان وستين ومائة.
#103#
وحديثه هذا رواه البخاري أيضا في التفسير من الصحيح، فقال: حدثنا عبد الله، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال بن أبي هلال، فذكره.
وحدث به علي بن المديني، فقال: حدثنا أبو داود وروح بن عبادة [القيسي، قالا: أخبرنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن هلال، قال أبو داود: هلال بن هلال، قال روح: عن هلال عن عطاء بن يسار أخبره أن عبد الله بن عمرو بن العاص أخبره أن هذه الآية التي في الفرقان –يعني: القرآن- {إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا} قال: هي في التوراة: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ورحمة للأميين
#104#
أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الأمة العوجاء، أن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
رواه علي بن غالب بن سلام السكسكي عن ابن المديني.
وعبد الله شيخ البخاري هذا مختلف في نسبه: فقال أبو علي بن السكن في روايته عن الفربري عن البخاري: حدثنا عبد الله بن مسلمة –يعني: القعنبي-.
وذكر أنه القعنبي أيضا: أبو الوليد هشام بن أحمد القاضي.
وذكر أبو نصر الكلاباذي: أنه عبد الله بن صالح العجلي.
#105#
وذكر أبو مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء.
وقال عبد العزيز النخشبي: أظنه ابن رجاء.
وقال أبو علي الغساني: هو عبد الله بن صالح كاتب الليث.
وصوب هذا الحافظ أبو الحجاج المزي، وعضده برواية البخاري له في كتابه الذي ألفه في الأدب، ثم عقبه بحديثه عن محمد بن سنان عن فليح كما رواه في "صحيحه" بهذين الإسنادين، والبخاري مكثر عن كاتب الليث كما أن كاتب الليث مكثر عن عبد العزيز بن أبي سلمة، والعجلي ذكر له في "التاريخ" ترجمة
#106#
مختصرة جدا، ولم يرو فيها شيئا بل روى في "التاريخ" عن رجل عنه.
قال المزي: فهذا يؤكد أنه لم يلقه ولا وجدنا أيضا للعجلي رواية عن عبد العزيز بن أبي سلمة سوى حديثه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر «الظلم ظلمات يوم القيامة». اهـ
وحديث عبد الله بن عمرو المذكور رواه الليث وروح بن عباده وغيرهما، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة.
وخرجه الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي في "سننه الكبرى" و "شعب الإيمان" و "دلائل النبوة".
ورواه أبو محمد القاسم بن ثابت بن حزم العوفي السرقسطي الإمام اللغوي في كتاب "الدلائل في شرح غريب الحديث" وهو كتاب أمتع من كتاب أبي عبيد والقتيبي، كتبه أبو علي البغدادي بخطه، وكان يقول: لم يوضع بالأندلس مثله.
#107#
وهذا الكتاب جمعه قاسم وأبوه ثابت معا؛ لأن قاسما ابتدأه أولا وعاجلته المنية عن إتمامه؛ لأنه مع براعة علمه كان من أهل الورع والزهد، فأريد على قضاء سرقسطة فأبى، وأراده أبوه على ذلك فسأله أن يتركه ثلاثا لينظر في أمره فمات قبل انقضائها، فيرون أنه دعا لنفسه بالموت وكان موصوفا بإجابة الدعوة، وكانت وفاته سنة ثنتين وثلاثمائة فأكمل أبوه ثابت الكتاب بعده، وكان سماعهما واحدا ورحلتهما واحدة، وتوفي أبوه بعده سنة ثلاث عشرة وثلاث مائة، وقال الحميدي في "تاريخه": سنة أربع عشرة، فبذلك كان ثابت بن قاسم يروي الكتاب عن أبيه إجازة؛ لأنه كان حين وفاته صغيرا، ويرويه عن جده قراءة عليه؛ لأنه أدركه كبيرا فقرأه عليه.
#108#
لخصته بزيادة من "برنامج الحافظ أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي".
روى هذا الحديث أبو بكر محمد بن علي النقاش ومحمد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه، قالا: أخبرنا أبو صالح القاسم بن الليث بن مسرور الرسعني، حدثنا المعافر بن سليمان هو الجزري الرسعني، حدثنا فليح، عن هلال بن علي، وذكر نحوه وفي آخره كما في رواية البيهقي: قال عطاء: ثم لقيت كعب الأحبار، فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا يقول بلغته: "أعينا عمومي وآذانا صمومي وقلوبا غلوفي".
وهذه الزيادة مذكورة أيضا بنحوها في رواية القاسم بن ثابت في "الدلائل".
وأبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما وإن لم يكن من أهل الكتاب، فقد قرأ القرآن والتوراة.
قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا قتيبة، عن ابن لهيعة، عن واهب بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت فيما يرى
#109#
النائم كأن في إحدى إصبعي سمنا وفي الأخرى عسلا وأنا ألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «تقرأ الكتابين التوراة والفرقان» فكان يقرؤهما.
وخرجه أبو نعيم في "الحلية" من طريق أحمد بن حنبل.
وكان عبد الله قد أصاب فيما بلغنا يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما تجوز حكايته والتحديث به.
وكان يحدث بأشياء من التوراة أيضا، كما خرج أبو نعيم في "الحلية" من حديث قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: مكتوب في التوراة: من تجر فجر، ومن حفر حفرة سوء لصاحبه وقع فيها.
وحدث به الحافظ أبو عبد الرحمن محمد بن بكير، عن الليث بنحوه.
وجنح بعض المتأخرين وتابعه بعض أصحابه إلى أن هذا الوصف المذكور في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن التوراة لا يريد
#110#
به التوراة المعينة [التي هي كتاب موسى عليه السلام، فإن لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور يراد به الكتب المعينة] تارة، ويراد به الجنس تارة، فقوله: (أخبرني بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة) إما أن يريد به جنس الكتب المتقدمة، وكلها يسمى توراة، ويكون هذا الوصف في بعضها، أو يريد به التوراة المعينة كتاب موسى عليه السلام.
قال بعض أصحابه: وعلى هذا فيكون هذا في نسخة لم ينسخ منها هذه النسخ، فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي وقف عليها شيخنا قال: ليس فيها هذا.
قلت: هذا كله يدور على أن التوراة لم تبدل لفظا وهذا خطأ فاحش واعتقاد شنيع، فإن النسخ الموجودة بالتوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل ما لا يخفى، والتوراة التي بأيدي اليهود تخالف التوراة التي بأيدي السامرة، ومن وقف عليهما علم ما بينهما من التباين والتغيير والتناقض والتبديل.
والصحيح وهو الذي سبق الفهم إليه أنه أريد في هذا الحديث كتاب موسى الذي أنزل عليه، وقد جاء مصرحا بذلك، فزال اللبس والاشتباه، وبطل كل قول سواه، وذلك فيما أخبرناه أبو محمد عبد القادر بن أبي إسحاق الحريري الصالحي بقراءتي عليه بها، أخبرتنا فاطمة بنت أبي عمر أخبرنا أحمد بن أبي محمد النابلسي، أخبرنا إسماعيل بن علي الشروطي، أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحافظ، أخبرنا أبو الحسن عبد الدائم الهلالي، أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الدمشقي، أخبرنا
#111#
أبو بكر محمد بن خريم بدمشق قراءة عليه، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام: عن جده عبد الله بن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خرج إليه فلقيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أنت ابن سلام عالم أهل يثرب؟»
قال: نعم.
قال: «فناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، هل تجد صفتي في كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه السلام»
قال عبد الله بن سلام: أنسب ربك يا محمد.
فأرتج على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له جبريل: {قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد} قال ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى تستقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلوفا.
#112#
وخرجه الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي في "مسنده" من حديث سعيد بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن ابن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام.
وحدث به الإمام أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي الفسوي الحافظ في كتابه "التاريخ والمعرفة" فقال: حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن هلال بن أسامة فذكره بنحوه.
وأشار إليه البخاري في "صحيحه" فعلقه، فقال: وقال سعيد عن
#113#
هلال عن عطاء عن ابن سلام.
وأبو واقد صحابي مشهور اسمه: الحارث بن عوف بن أسيد، وقيل: عوف بن الحارث، وقيل: الحارث بن مالك.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا سلم حدثنا جعفر بن الزبير سمعت عبادة بن نسي الكندي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، نجدكم في كتاب الله: أمة حمادون، مولد نبيهم بمكة، وهجرتهم بطيبة وجهادهم بالشام، يأتزرون على أنصافهم، ويطهرون أطرافهم، أصواتهم بالليل] في المساجد كأصوات نحل في أقارها يأتون يوم القيامة غرا محجلين.
حدث به هشام بن عمار في كتابه "المبعث" عن الوليد.
وجاء نحوه عن كعب، حدث به يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل، عن أم الدرداء قالت: قلت لكعب الحبر: كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: نجده: محمد رسول الله، واسمه: المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عورا،
#114#
ويسمع به آذانا وقرا، ويقيم به ألسنا معوجة، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه.
وخالفه وهب بن جرير، عن أبيه، [عن جده]، عن ابن إسحاق، وذلك فيما أخبرتنا به أم عمر كلثوم بنت الحافظ أبي المعالي محمد بن رافع السلامي، أخبرنا أبو الفضل عبد الرحيم بن إبراهيم وأنا في الرابعة شاهده أخبرنا [جدي: إسماعيل بن إبراهيم سماعا، أخبرنا أبو طاهر بن إبراهيم الدمشقي، أخبرنا هبة الله بن أحمد، أخبرنا] محمد بن مكي بن عثمان المصري، قدم علينا دمشق، قراءة عليه في شهر ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وأربع مائة، أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد البغدادي في منزله بمصر سنة ست وتسعين وثلاثمائة، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي،
#115#
حدثنا أبو معمر، حدثنا يحيى بن محمد القطعي، حدثنا وهب بن جرير، حدثني أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن غيلان بن شرحبيل –أحد بني عبد الدار- عن أم الدرداء الأنصارية، عن أبي الدرداء قال: قلت لكعب: كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنا نجده موصوفا بها: محمد رسول الله، المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، أعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عميا، ويسمع به آذانا صما، وتقوم به ألسنا معوجة، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، يعين المظلوم ويمنعه، وينتصر للظالم من أن يستضعف.
لكن وجدته في "مغازي ابن إسحاق" التي رواها أبو الفضل [محمد ابن] يحيى بن الفياض الزماني، حدثنا وهب، حدثني أبي، عن [محمد بن] إسحاق، قال: حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل –أخو بني عبد الدار- عن أم الدرداء –فذكره كنحو رواية يونس.
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ناجية، حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثني عمي: يعقوب، حدثنا أبي، عن الوليد بن
#116#
كثير، عن ابن حلحلة ، عن طلحة بن عبيد الله الخزاعي، أنه سمع أم سلمة –زوج النبي صلى الله عليه وسلم- تقول: إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يوقد بالسيئة إذا سمعها، ولكن يطفئها بعثته، أعطيته مفاتيح ليفتح عيونا عميا، ويسمع آذانا وقرا، ويقيم ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله".
تابعه محمد بن رزق الله الكلوذاني، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن الوليد بن كثير المدني، عن محمد بن عمرو بن حلحلة: أن طلحة بن عبيد الله بن كريز، أخبره أنه سمع أم سلمة- فذكره بنحوه.
وخرج أبو محمد الدارمي في "مسنده" من حديث معاوية بن صالح، عن أبي فروة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سأل كعب الأحبار:
#117#
كيف تجدون نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إلى طابة، ويكون ملكه بالشام، وليس بفحاش ولا بسخاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، أمته الحمادون لله في كل سراء، ويكبرون الله على كل نجد، يؤضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفون في صلواتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء.
ورواه هشام بن عمار في كتابه "المبعث" عن إسماعيل بن عياش العنسي، عن عبد الله بن دينار وغيره، عن كعب الأحبار قال: مكتوب في التوراة: محمد رسول الله، مولده بمكة..، فذكره بنحوه.
وخرج الحافظ أبو نعيم في كتابه "حلية الأولياء" من حديث خالد ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال: أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لكعب الأحبار: أخبرني عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
#118#
قال: أجدهم في كتاب الله أنه أحمد وأمته حمادون يحمدون الله على كل خير وشر، يكبرون الله على كل شرف، ويسبحون الله في كل منزل، نداؤهم في جو السماء، لهم دوي في صلاتهم كدوي النحل على الصخر، يصفون في الصلاة كصفوف الملائكة، ويصفون في القتال كصفوفهم في الصلاة، إذا غزوا في سيبل الله كانت الملائكة بين أيديهم ومن خلفهم برماح شداد، إذا حضروا الصف في سبيل الله كان الله عليهم مظلا –وأشار بيده- كما تظل النسور على وكورها، لا يتأخرون زحفا أبدا حتى يحضرهم جبريل عليه السلام.
وقال أبو الحسن علي بن الخضر بن سليمان بن سعيد السلمي في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم": أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الرحمن بن العقب،
#119#
حدثنا جد أبو القاسم علي بن يعقوب، حدثنا أبو عبد الملك القرشي، حدثنا محمد بن عائذ، حدثنا سويد بن عبد العزيز، عن عبد الملك بن عمير، عن كعب الأحبار رحمه الله قال: إني لأجد في كتاب الله سطرين: [في] أحدهما: محمد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ومولده بمكة، ومهاجره طيبة، وملكه بالشام، وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون، يحمدون الله عز وجل في السراء والضراء، ويكبرونه على كل شرف، ويوحدونه على كل منزلة، رعاة الشمس، يأتزرون الأنصاف، ويوضئون الأطراف، تسمع أصواتهم في جو السماء كدوي النحل، صفوفهم في قتالهم كصفوفهم في صلاتهم.
هكذا حدث به أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي الكاتب في كتابه "المغازي"، وقد سقط بين عبد الملك وكعب : رجل.
وخرجه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة الحافظ في كتابه "التاريخ" عن المنجاب بن الحارث، أخبرنا أبو المحياة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أخي كعب قال: قال كعب: إنا لنجد نعت النبي صلى الله عليه وسلم في سطرين من كتاب الله عز وجل، نجده في سطر: محمد رسول الله وأمته الحمادون .. .. وذكره بنحوه.
#120#
وأبو المحياة: يحيى بن يعلى بن حرملة الكوفي.
وخرجه الدارمي في "مسنده" من طريق عبد الملك بن عمير، عن ذكوان أبي صالح، عن كعب أنه قال:
في السطر الأول: محمد رسول الله، عبدي المختار، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة، وهجرته بطيبة، وملكه بالشام، وفي السطر الثاني: محمد رسول الله، أمته الحمادون يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شرف، رعاة الشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم، ويوضئون أطرافهم، وأصواتهم بالليل في جو السماء كصوت النحل.
ورواه بشر بن موسى، حدثنا يحيى بن إسحاق، حدثنا شريك، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن كعب بنحوه.
#121#
ورواه الأعمش عن أبي صالح قال: قال كعب .. .. فذكره.
ورواه إسماعيل بن زكريا عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن كعب.
وجاء من حديث عطاء بن يسار عن كعب.
وقال أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا مصعب بن عبد الله، حدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن أبي صالح السمان، أن كعبا قال: إنا نجد في كتاب الله محمدا، مولده بمكة.
وقال: حدثنا يحيى بن معين ، حدثنا عبيدة بن حميد، حدثني الأعمش، عن أبي صالح قال: قال كعب: نجد محمدا صلى الله عليه وسلم في الكتب، مولده بمكة.
#122#
وقال حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، [حدثنا] عبد الملك ابن عمير قال: قال كعب: إني أجد في التوراة: عبدي أحمد المختار، مولده بمكة.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا [سهل بن أبي سهل الواسطي، ثنا الجراح بن مخلد، ثنا إسماعيل بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن فروة، ثنا] أبي، عن أبي هارون: أن سنان بن الحارث حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صفتي: أحمد المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، يجزي بالحسنة الحسنة، ولا يكافئ بالسيئة، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، وأمته الحمادون، يأتزرون على أنصافهم، ويوضئون أطرافهم، أناجيلهم في صدورهم، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال، قربانهم الذي يتقربون به إلي دماؤهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار».
#123#
وقال أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن سنين الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا محمد بن يعقوب التمار، حدثنا مسلمة بن عبد الصمد الحراني، حدثنا إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك، حدثنا إبراهيم بن البراء بن النضر بن أنس بن مالك، حدثني خالد بن طليق الخزاعي، عن جده عمران بن الحصين قال: أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الكوفة، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، هل عندك علم في التوراة نقتدي به؟ قال: نعم يا أبا نجيد، إن أول ما أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
وقال الطبراني أيضا في "المعجم": حدثنا أحمد بن الحسن المضري الأبلي، حدثنا أبو عاصم ،
#124#
حدثنا جسر بن فرقد، حدثنا النهاس بن قهم القيسي، عن شداد أبي عمار، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لما بلغ ولد معد بن عدنان أربعين رجلا وقعوا على عسكر موسى، فانتهبوه، فدعا عليهم موسى بن عمران عليه السلام فقال: يا رب، هؤلاء ولد معد قد أغاروا على عسكري، وهم قليل. وناجى فلم يجب، فدعا الله عليهم، فقال: يا رب، هؤلاء ولد معد بن عدنان قد أغاروا على عسكري، فأوحى الله إليه: يا موسى بن عمران، لا تدع عليهم، فإن منهم النبي الأمي النذير البشير بجنتي، ومنهم الأمة المرحومة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم بالقليل من العمل، فيدخلهم الجنة بقول: لا إله إلا الله، لأن نبيهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المتواضع في هيئته المجتمع له اللب في سكوته، ينطق بالحكمة، ويستعمل
#125#
الحلم، أخرجته من خير جيل من أمته: قريش، ثم أخرجته من هاشم صفوة قريش، فهم خير من خير، إلى خير يصير، هو وأمته إلى خير يصيرون.
وروى الزبير بن بكار بإسناد له عن مكحول قال: أغار الضحاك بن معد على بني إسرائيل في أربعين رجلا من بني معد، عليهم دراريع الصوف، خاطمي خيلهم بحبال الليف، فقتلوا وسبوا وظفروا، فقالت بنو إسرائيل: يا موسى، إن بني معد أغاروا علينا وأنت نبينا، فادع الله عليهم. فتوضأ موسى عليه السلام وصلى، وكان إذا أراد حاجة من الله عز وجل صلى، ثم قال: يا رب، إن بني معد أغاروا على بني إسرائيل، فقتلوا وسبوا وظفروا، وسألوني أن أدعوك عليهم.
فقال الله عز وجل: يا موسى، لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وإنهم ينتهون عند أول أمري، وإن فيهم نبيا أحبه وأحب أمته.
قال: يا رب، ما بلغ من محبتك له؟ قال: أغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال: يا رب، ما بلغ من محبتك لأمته؟ قال: يستغفرني مستغفرهم فأغفر له، ويدعوني داعيهم فأستجيب له.
#126#
قال: يا رب، فاجعلهم من أمتي، قال: نبيهم منهم.
قال: يا رب، فاجعلني منهم، قال: تقدمت واستأخروا.
قال الزبير: وحدثني علي بن المغيرة قال: لما بلغ بنو معد عشرين رجلا أغاروا على عسكر موسى عليه السلام، فدعا عليهم فلم يجب فيهم، ثم أغاروا، فدعا عليهم فلم يجب ثلاث مرات، فقال: يا رب، دعوتك على قوم فلم تجبني فيهم؟ فقال: يا موسى، دعوتني على قوم فيهم خيرتي في آخر الزمان.
وقال أبو قتيبة سلم بن قتيبة: حدثني أبو مودود المديني، حدثنا عثمان بن الضحاك، عن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه عن جده قال: مكتوب في التوراة صفة محمد، وعيسى ابن مريم –صلى الله عليهما وسلم- يدفن معه.
قال: فقال أبو مودود: قد بقي في البيت موضع قبر.
خرجه الترمذي لسلم وقال: هذا حديث حسن غريب. انتهى.
أبو مودود هذا: اسمه عبد العزيز بن أبي سليمان المديني.
وكان في عصره رجل آخر يقال له: أبو مودود –وهو بصري- سكن الري اسمه: فضة، روى عن سليمان التيمي وغيره. ولهم شيخ ثالث
#127#
يقال له: أبو مودود. واسمه: بحر بن موسى، بصري أيضا، روى عن الحسن، وعنه حفيده موسى بن زياد بن بحر، وغيره.
وأما عثمان بن الضحاك: شيخ أبي مودود، فقال أبو القاسم بن عساكر في "ألأطراف": هكذا قال عثمان بن الضحاك، والمعروف الضحاك بن عثمان.
ورده الحافظ أبو الحجاج المزي، فقال في "الأطراف": هو شيخ آخر أقدم من الضحاك بن عثمان. ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيمن اسمه عثمان. انتهى.
قلت: وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" على الصواب فقال: وقال لي الحزامي: حدثنا محمد بن صدقة، سمع عثمان بن الضحاك بن عثمان، أخبرني محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، عن جده: ليدفنن عيسى ابن مريم مع النبي صلى الله عليه وسلم .
هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه.
#128#
قاله البخاري.
وخرجه أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة" ففال: حدثنا أبو العباس عبد الله بن الصقر السكري، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا عبد الله بن نافع الصائغ، عن الضحاك بن عثمان، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، [عن أبيه] رضي الله عنه قال: الأقبر الثلاثة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر رضي الله عنه، وقبر عمر رضي الله عنه، وقبر رابع يدفن فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام.
كذا ذكره، فأسقط منه "محمد بن يوسف".
وقال أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي في
#129#
"مسنده": حدثنا أحمد بن شبويه المروزي، حدثني سليمان بن صالح، حدثني عبيد الله، عن نافع قال: قبر أبي بكر [رضي الله عنه] عند رجل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر عمر رضي الله عنه خلف [قبر] أبي بكر، وبقي ثم موضع قبر. قال عبيد الله : فسمعت رجلا يحدث عبد العزيز بن أبي داود قال: بلغنا عن كعب قال: موضع القبر لعيسى ابن مريم عليهما السلام.
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال: ذكر لنا أن موسى عليه السلام قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة، خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، أناجيلهم في صدورهم، يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقتلون فضول الضلالة حتى يقتل الأعور الكذاب، يأكلون صدقاتهم في بطونهم ويؤجرون عليها، إذا هم أحدهم بالحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإذا عملها كتب له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، فهم المستجيبون والمستجاب لهم، هم المشفعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: فنبذ الألواح وقال: رب اجعلني من أمة أحمد.
#130#
قال: فأعطاه الله تعالى خصلتين لم يعطوهما، قال الله: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}. قال: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
تابعه محمد بن عائذ عن الوليد.
وقال هشام أيضا: وقال: حدثنا شعيب بن إسحاق، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بمثله، وزاد فيه: أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها كتب له حسنة، وإذا عملها كتب عليه سيئة واحدة.
وخرج الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "التاريخ" عن جبارة بن المغلس، حدثنا الربيع بن النعمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون؛ فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم، يقرأونه ظاهرا،
#131#
فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم فيؤجرون عليها، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتب له عشر حسنات فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والآخر فيقتلون فرق الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، فاجعلني من أمة أحمد قال: فأعطي عند ذلك خصلتين فقال: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} قال: قد رضيت يا رب».
وأنبأنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد السعدي، أخبرنا أبو بكر بن أحمد [بن عبد الله] بن عبد الدائم سماعا، أخبرنا الحسين بن المبارك البغدادي، أخبرنا أبو زيد جعفر بن زيد
#132#
الحموي في كتابه "رسالة البرهان في نصرة القرآن" قال:
وأخبرنا الشيخ أبو الحسن علي بن عبيد الله بن نصر الفقيه بقراءتي عليه، أخبرنا الشيخ أبو القاسم علي بن البندار، أخبرنا أبو عبد الله عبيد الله بن حمدان العكبري إذنا، حدثنا أبو صالح محمد بن أحمد، حدثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن ذريح، [حدثنا] أبو محمد جبارة بن المغلس الحماني، حدثنا الربيع بن نعمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما قرأ موسى عليه السلام الألواح وجد فيها ذكر هذه [الأمة] فقال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الشافعون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني
#133#
أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها ظاهرا، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يأكلون الفيء –يعني: الغنائم- فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم ويؤجرون عليها، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، فإن عملها كتبت [له] عشرا، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة واحدة، فاجعلها أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة يؤتون العلم الأول والآخر فيقتلون فرق الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي. قال: [تلك] أمة أحمد. قال: يا رب، فاجعلني من أمة أحمد. قال: فأعطي عند ذلك خصلتين؛ قال: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين} قال: قد رضيت يا رب، [قد رضيت يا رب]».
#134#
ورواه أبو بكر محمد بن أبي زكريا يحيى بن أحمد الفقيه الهمداني، فقال: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا محمد بن إدريس، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني أبو سهيل، عن الحسن: أن موسى [عليه السلام] قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم السابقون الآخرون، فاجعلهم أمتي. قال: تيك أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلهم [من أمتي]. قال: تيك أمة محمد صلى الله عليه وسلم [قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم السابقون المشفع لهم فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد] قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة القرآن في صدورهم، فاجعلهم من أمتي. قال: تلك أمة أحمد. [قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة يأكلون الصدقة في بطونهم ويؤجرون عليها، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد]. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بالحسنة كتبت له حسنة واحدة، فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة إذا هم أحدهم بسيئة ثم تركها لم تكتب، فإن عملها كتبت عليه سيئة [واحدة]، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد. قال: يا رب إني أجد في التوراة أمة يقرأون
#135#
الكتاب الأول ويقرأون الكتاب الآخر ويقتلون المسيح الدجال، فاجعلهم من أمتي. قال: تيك أمة أحمد. قال: يا رب، فاجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم [قال]: فعند ذلك أعطى الله تعالى موسى عليه السلام خصلتين؛ قال: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}. قال: فقال موسى عليه السلام: [قد] رضيت يا رب.
وخرجه الإمام الزاهد العارف أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار" فقال: حدثنا محمد بن عبد الله أبو بكر الرازي، حدثنا أبو جعفر بن ذريح العكبري بها، أخبرنا أبو محمد الحماني بالكوفة، حدثنا الربيع بن نعمان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام ..» وذكر الحديث بطوله نحوه.
ثم قال الإمام أبو بكر عقيبه: إن الكليم المعلى قدره الجليل خطره الرفيع ذكره الجلي نوره، فكان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ.
#136#
حدثنا الشريف أبو الحسن محمد بن علي الحسيني، حدثنا محمد بن أحمد بن سعيد بهمدان، حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا همام، حدثنا الحسن، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما تجلى الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام كان يبصر النملة [على الصفا] في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ».
فهذا المكلم الكريم على الله عز وجل لما رأى صفات أمة أحمد المحمودين وأكرم المولودين وحبيب رب العالمين اغتبطهم على ما أوتوا بقوله: هم الآخرون السابقون. اغتبطهم على ما في السبق [لا على السبق]، والذي في السبق هو التقريب، قال الله تعالى: {والسابقون السابقون . أولئك المقربون}، فكان اغتباطه إياهم على تقريب الحق لهم لا على السبق [الذي] هو صفتهم، اغتبطهم على قصد الحق لهم بتقريبهم منه وإدنائه إياهم، فاغتبطهم على ما منه إليهم لا على ما منهم إليه، لأن الشرف فيما منه دون ما منهم.
#137#
كذلك قوله: الشافعون المشفوع لهم. اغتبطهم على أنهم شافعون لا على أنهم مشفوع لهم، لأن الشفيع إنما يكون المختص المقرب الحبيب المحبب.
وخرج أبو الحسن علي بن الخضر بن سلمان بن سعيد السلمي [في كتابه] الدمشقي وفيه لين في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم" من طريق عاصم بن علي، حدثنا ليث، أخبرني عبد الله مولى غفرة: أن موسى عليه السلام جعل كلما مرت به صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا رب، اجعلهم من أمتي قال: إني أعطيتهم غيرك، إنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما كثر ذلك عليه قال: رب اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وروي نحوه مطولا فيما حدث به محمد بن أحمد بن البراء العبدي، عن عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، قال: وذكر وهب بن منبه: أن الله عز وجل لما قرب موسى نجيا قال: "رب، إني أجد في التوراة
#138#
أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. وذكر الحديث.
وقد جاء من حديث كعب الأحبار فيما خرجه الحافظ أبو نعيم أيضا في كتابه "حلية الأولياء" فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة، حدثنا رشدين بن سعد، عن سعيد بن عبد الرحمن المعافري، عن أبيه:
أن كعب الأحبار رأى حبرا اليهودي يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمر. فقال له كعب: أنشدك لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال: نعم. قال: أنشدك بالله، هل تجد في الكتاب المنزل أن موسى عليه السلام نظر في التوراة، فقال: رب، إني أجد أمة في التوراة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، يقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال. فقال موسى: رب، اجعلهم أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى"؟ قال: الحبر: نعم.
قال كعب: فأنشدك بالله، [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: "رب، إني أجد أمة هم الحمادون رعاة
#139#
الشمس المحكمون، إذا أرادوا أمرا قالوا: نفعله إن شاء الله. فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى"؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: فأنشدك بالله، [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى عليه السلام نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم –وكان [الأول] يحرقون صدقاته بالنار، غير أن موسى كان يجمع صدقات بني إسرائيل، فلا يجد عبدا مملوكا ولا أمة إلا اشتراه ثم أعتقه من تلك الصدقة، وما فضل حفر له بئرا عميقة القعر فألقاه فيها ثم دفنه كي لا يرجعوا فيه – وهم المستجيبون والمستجاب لهم، الشافعون المشفوع لهم. قال موسى: فاجعلهم من أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك بالله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط واديا حمد الله، الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غر محجلون من آثار الوضوء، فاجعلهم [من] أمتي. قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك بالله، [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى
#140#
نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد أمة إذا هم أحدهم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها، وإن عملها ضعفت له عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئة مثلها، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى"؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك بالله [هل] تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب، واصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك بالله، تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب، إني أجد في التوراة أمة مصاحفهم في صدورهم، يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلا من برئ من الحسنات مثل ما برئ الحجر من ورق الشجر. قال موسى: فاجعلهم من أمتي. قال: هي أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته قال: يا ليتني من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إليه ثلاث آيات
#141#
يرضيه بهن: {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}، {وكتبنا له في الألواح من كل شيء} إلى قوله: {دار الفاسقين}. وقال: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}.
قال: فرضي موسى كل الرضا.
وخرج أبو نعيم في "الحلية" أيضا من حديث أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، حدثنا وهب بن السماك، عن عبد العزيز بن أبي رواد، قال: قال كعب الأحبار: قال موسى عليه السلام: إني لأجد في الألواح صفة قوم على قلوبهم من النور مثل الجبال الرواسي، تكاد الجبال والرمال أن تخر لهم سجدا من النور، فسأل ربه عز وجل وقال: رب، اجعلهم أمتي. قال الله عز وجل: يا موسى، إني اخترت أمة محمد صلى الله عليه وسلم وجعلتهم أئمة الهدى، وهؤلاء طوائف من أمته.
قال: يا رب، فيما بلغوا هؤلاء حتى آمر بني إسرائيل فيعملوا مثل عملهم، وأبلغ نعتهم؟ قال: يا موسى، إن الأنبياء كادوا أن يعجزوا عما أعطيته أمة محمد صلى الله عليه وسلم يا موسى ، بلغوا أنهم تركوا الطعام الذي أحللت لهم رغبة فيما عندي، وكان عيشهم في الدنيا الفلق [من الخبز] والخلق من الثياب، أيسوا من الدنيا فأيست الدنيا منهم، أقربهم مني وأحبهم إلي أشدهم جوعا وأشدهم عطشا .. .. وذكر الحديث بطوله.
#142#
وخرج أيضا في "الحلية" من حديث معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي قال: انطلق موسى عليه السلام بوفادة إسرائيل، فناجاه ربه عز وجل فقال: إني أبسط لكم الأرض طهورا ومسجدا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا في الحمام أو مرحاض أو عند قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وإني أنزل عليكم التوراة تقرؤونها على ظهر ألسنتكم، رجالكم ونساؤكم وصبيانكم قالوا: لا نصلي إلا في كنيسة، ولا نجعل السكينة في قلوبنا، نجعل لها تابوتا تحمل فيه، ولا نقرأ كتابنا إلا نظرا. قال الله تعالى: {فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون} إلى قوله: {لعلكم تهتدون}. قال موسى: يا رب، فاجعلني نبيهم. قال: إن نبيهم منهم. قال: يا رب، أخرني حتى تجعلني منهم. قال: إنك لن تدركهم. قال موسى: يا رب، جئت بوفادة بني إسرائيل، فصارت الوفادة لغيرهم. قال الله تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}. قال: فكان نوف البكالي يقول: احمدوا ربكم الذي شهد غيبتكم وأخذ بسهمكم، جعل وفادة بني إسرائيل لكم.
رواه جرير عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب مثله.
#143#
ورواه يحيى بن عبد الله البابلتي، حدثنا الأوزاعي، حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني حدثني نوف، فذكره بنحوه مختصرا.
وقال أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، من هذه الأمة المرحومة؟ قال: أمة أحمد، هم يرضون بالقليل من العطاء، وأرضى منهم بالقليل من العمل، وأدخلهم الجنة بأن يقولوا: لا إله إلا الله.
وحدث به أبو بكر بن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين، حدثنا يزيد بن هارون .. فذكره.
وقال أحمد بن عبيد بن ناصح: أخبرنا محمد بن عمر الواقدي، قال: حدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان، عن زيد بن الهاد، عن ثعلبة بن أبي مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا مالك عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة –وكان من علماء اليهود- فقال: صفته في كتاب بني هارون الذي لم يبدل ولم يغير: أحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وهو آخر الأنبياء، وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه،
#144#
ويغسل أطرافه، في عينه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، ليس بالقصير، ولا بالطويل، يلبس الشملة، ويجتزىء بالبلغة ويركب الحمار، ويمشي في الأسواق، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة، مولده مكة، ومنشؤه وبدء نبوته بها، ودار هجرته يثرب. بين لابتي حرة ونخل، وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وهو الحماد يحمد الله على كل شدة ورخاء، سلطانه بالشام، وصاحبه من الملائكة جبريل، يلقى من قومه أذى شديدا ثم يدال عليهم فيحصدهم حصدا، يكون له وقعات بيثرب منها له ومنها عليه ثم له العاقبة، معه قوم هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم، قربانهم دماؤهم، ليوث النهار رهبان الليل، يرعب عدوه منه مسيرة شهر، مباشر القتال بنفسه حتى يجرح ويكلم، لا شرطة معه ولا حرس، الله يحرسه.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: يا كعب، وجدت في التوراة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، ثلاثة أثلاث: فثلث بعمله، وثلث برحمة ربه، وثلث بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم -يعني: يدخلون الجنة- وقال عمر: والذي نفسي بيده، ما أبالي في أي الأثلاث دخلت الجنة.
#145#
ويحكى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رجلا من اليهود في بلاد اليمن بعث إلى كعب الأحبار رجلا فقال [له] إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة.
فقال كعب: هاتها. فقال: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيدا شريفا مطاعا، فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال كعب: أتراك راجعا إليه؟ قال: نعم. قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالذي رد موسى إلى أمه، وأسألك بالذي فرق البحر لموسى، وأسألك بالذي ألقى الألواح إلى موسى فيها علم كل شيء، ألست تجد في كتاب الله عز وجل أن أمة أحمد ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يدخلونها برحمة الله، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا؟ فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلني من أي الأثلاث شئت.
وقال أبو محمد بن حيَّان: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث، حدثنا هدبة، حدثنا حماد بن سلمة، عن القاسم أن أبا مسلم الخولاني أسلم على عهد معاوية، فقيل له: ما منعك أن تسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم؟ فقال: إني وجدت هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنة بغير حساب، وصنف يحاسبون حسابا يسيرا، وصنف يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة، فأردت أن أكون من الأولين، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يحاسبون حسابا يسيرا، فإن لم أكن منهم كنت من الذين يصيبهم شيء ثم يدخلون الجنة.
#146#
حدث به أبو نعيم في "الحلية" عن أبي محمد، وقال: كذا رواه، أسلم على عهد معاوية، [وإنما كان إسلامه في عهد أبي بكر] ولكن هاجر إلى الأرض المقدسة في أيام معاوية من قبل عمر، وسكنها. انتهى.
وهذه القسمة المذكورة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده": حدثنا محمد بن معمر، حدثنا الحجاج بن نصير، حدثنا أبو طلحة، عن غيلان، عن أبي بردة، عن أبيه رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحشر هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنفا يدخلون الجنة بغير حساب، وصنفا يحاسبون حسابا يسيرا، وصنفا يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسية، فيسأل الله عنهم وهو أعلم بهم فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عباد من عبادك. قال: حطوها عنهم، واجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي الجنة».
وعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي، أخبرنا سالم بن عبد الله، عن عبد الله قال: بينما رجلان يحدث أحدهما صاحبه وكعب الأحبار خلفهما يسمع لا يعلمان مكانه، إذ قال أحدهما لصاحبه: رأيت البارحة كل نبي
#147#
في الأرض، مع كل نبي منهم أربعة مصابيح: مصباح من بين يديه، ومصباح من خلفه، ومصباح عن يمينه، ومصباح عن شماله، ومع كل رجل ممن معه مصباح مصباح، إذا قام رجل منهم فأضاءت الأرض، في كل شعرة في رأسه مصباح، ومع كل رجل ممن معه أربعة مصابيح: مصباح من بين يديه، ومصباح من خلفه، ومصباح عن يمينه، ومصباح عن شماله. قلت: من هذا؟ قالوا: محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال كعب للمحدث: يا عبد الله، عمن تحدث؟ قال: عن رؤيا رأيتها البارحة. فقال كعب: والله، لكأنك نشرت التوراة وقرأت هذا فيها.
حدث به أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي الكاتب [في كتابه] "المغازي" عن الوليد، حدثنا حنظلة بن أبي سفيان –فذكره.
وحدث به أبو القاسم الطبراني، عن محمد بن صالح النرسي، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن محبب أبو همام الدلال، حدثنا سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب الأحبار: أنه سمع رجلا يحدث عن رؤيا رآها في منامه، قال الرجل: رأيت الناس أجمعوا للحساب، ثم دعيت الأنبياء، مع كل
#148#
نبي من آمن من أمته، ولكل نبي منهم نوران يمشي بهما، ولمن اتبعه من أمته نور واحد يمشي به، حتى دعي محمد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لكل شعرة من رأسه ووجهه نور على خده يتبينه من نظر إليه، ولكل من اتبعه من أمته من مؤمن نوران كنور الأنبياء. فناشده كعب بالله الذي لا إله هو لرأيتها في منامك؟ فقال الرجل: نعم، والله، لقد رأيتها. فقال كعب: والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، إن هذا لصفة الأنبياء والأمم، لكأنما قرأها من التوراة.
وخرجه أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج"، فقال: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو عبد الرحمن العيشى [حدثنا حماد بن سلمة] حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا حدث قوما فيهم كعب، فقال: رأيت فيما يرى النائم كأن الأمم جمعت، فميز أهل الجنة وأهل النار، فكان لكل نبي نوران ولمن تبعه نور، وإذا محمد صلى الله عليه وسلم لكل شعرة من رأسه وجسده نور يتبعه من نظر إليه، ولمن تبعه من أمته نوران نوران مثل الأنبياء. قال: [فقال] له كعب: من حدثك بهذا؟ فقيل لكعب: إنما هي رؤيا رآها. فقال له كعب: آلله رأيتها فيما يرى النائم؟ قال: نعم. قال: فقال كعب: والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد صلى الله عليه وسلم، إني أجد في التوراة نعت الأنبياء وأممهم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم وأمته كما رأيت.
#149#
-تابعهما ابن جريج عن موسى بن عقبة بنحوه.
وأخبرناه أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله الذهبي بقراءتي عليه، أخبرنا يحيى بن محمد المقدسي في سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، أنبأنا الحسن بن يحيى المخزومي، أخبرنا عبد الله بن رفاعة سماعا، أخبرنا علي بن الحسن القاضي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن رزيق المخزومي المعروف بـ (الكوفي) قراءة عليه وأنا أسمع، حدثنا إسماعيل ابن يعقوب البغدادي المعروف بـ (ابن الجراب) إملاء سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، أنه سمع سالم بن عبد الله يقول: قص رجل رؤيا رآها وكعب يسمع، قال: فقال: رأيت الأنبياء بعثوا وأتباعهم، ورأيت لكل نبي منهم نورين ولأتباعهم نورا نورا، ورأيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نورا عدد شعره، ولأمته لكل رجل منهم نورين [نورين قال]: قال كعب: أنت رأيت هذه الرؤيا؟ قال: نعم. قال: والذي نفس كعب بيده، إنه لفي كتاب الله عز وجل لكما رأيت.
وعلقه أبو الحسن علي بن أبي طالب القيرواني العابر في كتابه "رسالة البرهان في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام" فقال: وقال عبد الملك بن حبيب: حدثني عبد العزيز الأويسي، عن القاسم العمري، عن سالم بن عبد الله بن
#150#
عمر، عن أبيه: أنه وكعب الأحبار سمعا رجلا يحدث أنه رأى في المنام أن الناس جمعوا للحساب، ثم دعا الأنبياء مع كل نبي [أمته وأنه رأى لكل نبي] نورين يمشي بهما، ومن اتبعه من أمته مؤمنا فله نور واحد يمشي به حتى دعي محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا لكل شعرة في رأسه وجسده نور، وإذا لمن اتبعه نوران كنور الأنبياء. فقال كعب ولا يشعر أنها رؤيا: بالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيت ما تقول؟ فقال الرجل: نعم، والله لقد رأيت ذلك. فقال كعب: والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق إن هذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وصفة الأنبياء والأمم في كتاب الله، كأنك قرأتها من التوراة.
ويذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب الأحبار: أدركت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد علمت أن موسى عليه السلام تمنى أن يكون في أيامه، فلم تسلم على يديه، ثم أدركت أبا بكر –رضي الله عنه وهو خير مني- فلم تسلم على يديه، ثم أسلمت في أيامي؟! قال: لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فإني كنت أتثبت حتى أنظر كيف الأمر، فوجدته كيف هو في التوراة. فقال عمر: كيف هو في التوراة؟ [قال: رأيت في التوراة] أن سيد الخلق والصفوة من ولد آدم وخاتم النبيين يظهر من جبال فاران من منابت القرظ من الوادي المقدس، فيظهر التوحيد والحق، ثم ينتقل إلى الطيبة، فتكون حروبه بها وأيامه، ثم يقبض فيها ويدفن بها. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يلي من بعده [الشيخ الصالح. قال عمر: ثم ماذا؟ قال كعب: ثم يموت متبعا. قال عمر: ثم ماذا؟ قال
#151#
كعب: ثم يلي] القرن الحديد قال عمر: واذفراه. وذكر الحديث.
وجاء تسمية "عمر" بذلك في التوراة من رواية الطبراني حدثنا علي بن المبارك، حدثنا زيد بن المبارك، حثنا محمد بن ثور، عن المنذر بن النعمان الصنعاني، عن وهب بن منبه قال: صفة عمر بن الخطاب في التوراة: "قرن من حديد" أو "أمين شديد".
وجاء عن يزيد بن هارون، أخبرنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن الأقرع مؤذن عمر: أن عمر رضي الله عنه مر على الأسقف، فقال: هل تجدونا في شيء من كتبكم؟ قال: نجد صفتكم وأعمالكم ولا نجد أسماءكم. قال: كيف تجدوني؟ قال: قرن من حديد قال عمر: قرن من حديد ماذا؟ قال: أمير المؤمنين أمير شديد. قال عمر. الله أكبر والحمد لله.
وخرجه أبو داود في "سننه" من حديث حماد بن سلمة، عن
#152#
الجريري بنحوه.
وفي الأثر الذي قدمناه: أن كعبا أسلم في خلافة عمر رضي الله عنه.
قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا يزيد بن هارون وعفان بن مسلم قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، قال: قال العباس رضي الله عنه لكعب: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر حتى أسلمت الآن على عهد عمر؟ فقال كعب: إن أبي كتب لي كتابا من التوراة ودفعه إلي وقال: أعمل بهذا. وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على ولده أن لا أفض الخاتم، فلما كان الآن رأيت الإسلام يظهر ولم أر بأسا، فقالت لي نفسي: لعل أباك غيب عنك علما كتمك، فلو قرأته. ففضضت الخاتم، فقرأته فوجدت فيه صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته فجئت الآن مسلما.
وجاء أن كعبا أسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه محمد بن شجاع الثلجي في "السير" عن الواقدي قال: فحدثني إسحاق بن عبد الله بن
#153#
نسطاس، عن عمر بن عبد الله العبسي قال: قال كعب: لما قدم علي رضي الله عنه اليمن لقيته، فقلت: أخبرني عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم فجعل يخبرني عنه وجعلت أتبسم، فقال: مم تتبسم؟ فقال: مما يوافق ما عندنا من صفته. فقلت: ما يجب وهي عندنا كما وصفت وصدقت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به، ودعوت من قبلنا من أحبارنا، وأخرجت إليهم سفرا، فقلت: هذا كان أبي يختمه علي ويقول: لا تفتحه حتى تسمع بنبي يخرج بيثرب. قال: فأقمت باليمن على إسلامي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر رضي الله عنه فقدمت في خلافة عمر رضي الله عنه ويا ليت أني تقدمت في الهجرة.
وحدث ابن سعد في "الطبقات": حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لأخطب يوما على الناس وحبر من أحبار يهود واقف في يده سفر ينظر فيه، فناداني، فقال: صف لنا أبا القاسم. فقال علي رضي الله عنه: رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالقصير ولا بالطويل البائن، وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط، هو رجل الشعر أسوده، ضخم الرأس، مشرب لونه بحمرة، عظيم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة –وهو: الشعر الذي يكون في النحر إلى
#154#
السرة- أهدب الأشفار، مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين المنكبين، إذا مشى يتكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أر قبله ولم أر بعده مثله.
قال علي: ثم سكت.
فقال لي الحبر: وماذا؟ قال علي: هذا ما يحضرني.
قال الحبر: في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعا ويدبر جميعا.
قال علي: هذه والله صفته.
قال الحبر: وشيء آخر.
قال علي: وما هو؟
قال الحبر: فيه جنأ.
قال علي: هو الذي قلت لك، كأنما ينزل من صبب.
قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر آبائي، ونجده يبعث من حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرمه هو فيكون له حرمة كحرمة الحريم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوما من ولد عمرو بن عامر أهل نخل وأهل الأرض قبلهم يهود.
قال علي: هو هو، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#155#
فقال الحبر: فإني أشهد أنه نبي وأنه رسول [الله] إلى الناس كافة، فعلى ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله.
قال: فكان يأتي عليا فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج علي والحبر هنالك حتى مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وهو مؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدق به.
وروى محمد بن إسحاق من حديث عدي بن عميرة أبي زرارة الكندي رضي الله عنه قال: كان بأرضنا حبر من اليهود يقال له: ابن شهلاء، فالتقيت أنا وهو، فقال: إني أجد في كتاب الله: أن أصحاب الفردوس قوم يعبدون الله ربهم، على وجوههم، لا والله، ما أعلم هذه الصفة إلا فينا معشر اليهود، وأجد نبيها يخرج من اليمن، لا نراه يخرج إلا منا.
قال عدي رضي الله عنه: فوالله ما لبثت حتى بلغنا: أن رجلا من بني هاشم قد تنبأ .. .. فذكرت حديث ابن شهلاء، فخرجت إليه، فإذا هو ومن تبعه يسجدون على وجوههم، ويزعمون أن إلههم في السماء.
حديث غريب، قاله الحافظ أبو عبد الله الذهبي فيما وجدته بخطه في كتابه "العلو للعلي الأعلى" عز وجل.
#156#
$*[من أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم بالحلم في التوراة]:$
وقال محمد بن سعد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جرير بن حازم، [حدثني] من سمع الزهري يحدث: أن يهوديا قال: ما كان بقي شيء من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة إلا رأيته، إلا الحلم، وإني أسلفته ثلاثين دينارا إلى أجل معلوم، فتركته حتى إذا بقي من الأجل يوم أتيته، فقلت: يا محمد، اقض حقي، فإنكم معاشر بني عبد المطلب مطل. فقال عمر: يا يهودي الخبيث، أما والله لولا مكانه لضربت الذي فيه عيناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك يا أبا حفص، نحن كنا إلى غير هذا منك أحوج: إلى أن تكون أمرتني بقضاء ما علي، وهو إلى أن تكون أعنته في قضاء حقه: أحوج».
قال: فلم يزده جهلي عليه إلا حلما.
قال: «يا يهودي، إنما يحل حقك غدا» ثم قال: «يا أبا حفص، اذهب به إلى الحائط الذي كان يسأل أول يوم، فإن رضيه فأعطه كذا وكذا صاعا، (وزده لما قلت له كذا وكذا [صاعا])، وإن لم يرضه فأعطه ذلك من حائط كذا وكذا».
#157#
فأتى به الحائط فرضي، فأعطاه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمره من الزيادة، فلما قبض اليهودي تمره قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وأنه والله ما حملني على ما رأيتني صنعت يا عمر [إلا] أني قد كنت رأيت في رسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته كلها في التوراة إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم فوجدته على ما وصف في التوراة، وإني أشهد أن هذا التمر وشطر مالي في فقراء المسلمين.
فقال: فقلت: أو بعضهم. فقال: أو بعضهم. فأسلم أهل بيت اليهودي كلهم إلا شيخا كان ابن مائة سنة، فعسا على الكفر.
وقال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس –يعني: ابن بكير- الشيباني، عن عبد الرحمن بن الحسين الكناني،
#158#
قال: حدثني محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وحدثني الزهري، قالا: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن قومي أسلموا فزادهم الإسلام فقرا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل قد كان دفع إليه نفقته، فقال: قد أنفقت ما كان معي. قال يهودي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا رجل يعطيك ورقا يسلفك في تمر حائط كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نسمي لك حائطا، ولكن تسلفنا في تمر مسمى في كيل معلوم إلى أجل معلوم» فبايعه اليهودي، ثم حل ورقا معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادفعها إلى الأعرابي» قال: «الحق فأغث بها أهلك». أو قال: «قومك».
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضع الميت في قبره وحثوا عليه قام اليهودي، فقال: يا محمد، ألا تقضيني تمري، فوالله ما أعلمكم يا بني عبد المطلب إلا تمطلون الناس بحقوقهم.
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله، لولا مجلسه لوجأت أنفك، وقال الزهري: "لوجأت خطمك".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه يا عمر، أنت إلى غير هذا أحوج، إلى أن تأمره فيحسن طلبي وتأمرني فأحسن قضاءه، انطلق معه إلى حائط كذا وكذا» وهو الذي كان أراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يسميه له «فأدخله، فقل لفلان يكشف [له] عن الطعام فيريه إياه، فإن رضيه فمره فليوفه ماله، وكل له كذا وكذا صاعا بشتمك إياه».
#159#
فانطلق به عمر فأراه فرضي، فكان له ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال اليهودي لعمر: إنه لم يكن بقي شيء مما وجدنا في كتابنا مما وصف لنا موسى عليه السلام إلا وقد رأيناه من محمد صلى الله عليه وسلم إلا الحلم، فقد رأيته الآن منه، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأشهدك أن نصف مالي صدقة على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقال له عمر: إنك قد حققت علي نصيحتك، إنه لا يسعهم كلهم، ولكن اجعله لمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ففعل.
ثم إن هذا اليهودي مات فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل سريره على عاتقه الأيمن، وحمل علي رضي الله عنه أيضا سريره على عاتقه الأيسر.
وخرج أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان في كتابه "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: وحدثنا الحسن [بن] محمد، حدثنا أبو زرعة، حدثنا محمد بن المتوكل، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام، حدثني أبي، عن جدي قال: قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: إن الله عز وجل لما أراد هدى زيد
#160#
ابن سعنة قال زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتان لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما. فكنت أنطلق إليه لأخالطه فأعرف حلمه من جهله، فخرج يوما من الحجرات – يريد النبي صلى الله عليه وسلم- ومعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجاء رجل يسير على راحلته كالبدوي فقال: يا رسول الله ، إن قرية بني فلان أسلموا ودخلوا في الإسلام وحدثتهم : إن هم أسلموا أتتهم أرزاقهم رغدا، وقد أصابتهم سنة وشدة وقحوط من العيش، وإني مشفق أن يخرجوا من الإسلام طمعا كما دخلوا فيه طمعا، فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغنيهم به فعلت. فقال زيد بن سعنة: فقلت: أنا أبتاع منك بكذا وكذا وسقا، فبايعني وأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين دينارا فدفعها إلى الرجل وقال: «اعجل عليهم بها فأغثهم».
#161#
فلما كان قبل المحل بيوم أو يومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة بالبقيع ومعه أبو بكر وعمر في نفر من أصحابه، فلما صلى على الجنازة ودنا من الجدار جذبت بردائه جذبة شديدة، حتى سقط عن [عاتقه ثم أقبلت بوجه جهم غليظ، فقلت: ألا تقضيني يا محمد، فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل، ولقد كان لي بمخالفتكم علم.
قال زيد: فارتعدت فرائص عمر بن الخطاب رضي الله عنه كالفلك المستدير، ثم رمى ببصره، ثم قال: أي عدو الله أتقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصنع به ما أرى وتقول ما أسمع؟! فوالذي بعثه بالحق لولا ما أخاف فوته لسبقني رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في تؤدة وسكون، ثم تبسم وقال: «لأنا [وهو] أحوج إلى [غير] هذا أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقض حقه، وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما روعته».
#162#
قال زيد بن سعنة: فذهب بي عمر فقضى لي حقي وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذا؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما روعتك.
فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟
فقلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟
قلت: الحبر. قال: فما دعاك أن تفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت وتقول له ما قلت؟
قلت: يا عمر، إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتان لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد اختبرته عليه، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وأشهدكم أن شطر مالي -فإني أكثرها مالا- صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تسعهم كلهم.
قلت: أو على بعضهم.
قال: فرجع عمر وزيد بن سعنة رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
فآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة.
ورواه متابعة لأبي زرعة: أبو الأحوص محمد بن الهيثم، قال:
#163#
حدثنا محمد بن [أبي] السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم فذكره بنحوه، وفي آخره بعد قوله: وشهد معه مشاهد كثيرة: (ثم توفي زيد في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر، يرحم الله زيدا).
تابعهما الحسن بن سفيان النسوي وأبو محمد خشنام بن بشر بن العنبر، عن ابن أبي السري.
وهو [في] "صحيح ابن حبان".
وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" من طريق ابن أبي السري هذا وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهو من غرر الحديث، ومحمد بن أبي السري العسقلاني ثقة".
#164#
قلت: هو حافظ رحال، وقد جاء توثيقه عن يحيى بن معين أيضا، لكن قال أبو حاتم: لين الحديث، وقال ابن عدي: كثير الغلط.
مات ابن أبي السري هذا سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وأبو السري اسمه المتوكل كما صرح به في رواية أبي الشيخ.
$*[إسلام عبد الله بن سلام اليهودي تصديقا لما في التوراة]$
وحدث ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن يحيى بن عبد الله، عن رجل من آل عبد الله بن سلام قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم، وكان حبرا عالما قال: سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم [عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسرا لذلك صامتا عليه حتى قدم] المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم وأنا في رأس نخل لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت.
#165#
قال: قلت لها: أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به.
فقالت: يا ابن أخي، أهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي كنا نبشر به أنه يبعث مع نفس الساعة؟
قال: قلت لها: نعم.
قالت: فذاك إذن.
ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا، وكتمت إسلامي من اليهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن اليهود قوم بهت وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك تغيبني عنهم، ثم تسألهم عني كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا بذلك بهتوني وعابوني.
قال: فأدخلني بعض بيوته، فدخلوا عليه فكلموه وسألوه، فقال لهم: «أي رجل عبد الله بن سلام؟»
قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وعالمنا.
قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: يا معشر اليهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه. قالوا: كذبت، ثم وقعوا في.
فقلت: يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت أهل غدر وكذب وفجور.
قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي ابنة الحارث فحسن إسلامها.
#166#
والقصة مخرجة في الصحيحين بمعناها.
ولم أر لخالدة عمة ابن سلام ذكرا إلا في هذا الحديث، والله أعلم.
$*[إسلام النعمان السبائي تصديقا لما في التوراة]$
وذكر الواقدي أن النعمان السبائي رضي الله عنه وكان من أحبار يهود باليمن لما سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم إليه، فسأله عن أشياء، ثم قال: إني أبي كان يختم على سفر يقول: لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب، فإذا سمعت به فافتحه.
قال نعمان: فلما سمعت بك فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنك خير الأنبياء، وأمتك خير الأمم، واسمك أحمد صلى الله عليه وسلم، وأمتك الحمادون، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم يتحنن الله عليهم كتحنن النسر على فراخه.
ثم قال لي: إذا سمعت به، فاخرج إليه، وآمن به وصدق به.
#167#
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع أصحابه حديثه، فأتاه يوما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا نعمان، حدثنا».
فابتدأ النعمان الحديث من أوله، ورؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ يتبسم، ثم قال: «أشهد أني رسول الله».
قال: وهو الذي قتله الأسود العنسي، وقطعه عضوا عضوا، وهو رضي الله عنه يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، وأنك كذاب مفتر على الله. ثم حرقه بالنار.
$*[إقرار جماعة من اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم]$
وقال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": حدثنا علي بن محمد، عن أبي علي العبدي، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعثت قريش النضر بن الحارث بن علقمة وعقبة بن أبي معيط وغيرهما إلى يهود يثرب وقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم،
#168#
فقدموا المدينة، فقالوا: أتيناكم لأمر حدث فينا، منا غلام يتيم حقير يقول قولا عظيما، يزعم أنه رسول [الله] الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة. قالوا: صفوا لنا صفته، فوصفوا لهم، فقالوا: فمن تبعه منكم؟ قالوا: سفلتنا. فضحك حبر منهم وقال: هذا النبي الذي نجد نعته ونجد قومه أشد الناس له عداوة.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد، عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان وعاصم بن عمر وغيرهما: أن كعب بن أسد قال لبني قريظة حين نزل بهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصنهم: يا معشر يهود تابعوا [هذا] الرجل، فوالله إنه للنبي، وقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي كنتم تجدونه في الكتب، وإنه الذي بشر به عيسى، وإنكم لتعرفون صفته. فقالوا: هو به، ولكن لا نفارق حكم التوراة.
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": وحدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا بكير بن معروف أنه سمع محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عم كان
#169#
إسلام ثعلبة وأسد القرظيين؟ قال: لا أدري. قال: فإنه قدم علينا رجل من يهود الشام يقال له: ابن الهيبان، وكنا إذا احتبس عنا المطر قلنا له: استسق لنا. فيقول: حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة صاعا من تمر أو مدين من شعير، ثم نخرج إلى حرتنا نريم حتى تمر الشراج وهو السيل، ففعل ذلك مرارا، ثم حضره الموت فقال: أتدرون ما الذي أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قلنا: ما ندري. قال: أطلب زمان نبي قد أظل هذه
#170#
البلدة مهاجره، وأنه يبعث بسفك الدماء، فلا يمنعنكم ذلك، فلما كان الليلة التي أنزل فيها بنو قريظة، فقال لهم بنو سعية: والله، إنه للرجل الذي تقدم إليه فيه ابن الهيبان، فنزلوا فأسلموا، فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأبناءهم ونساءهم.
وحدث به زياد بن عبد الله البكائي، وإبراهيم بن سعد، وجرير بن حازم، عن ابن إسحاق.
وحدث به محمد بن سعد فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد: أن إسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد ابن عمهم إنما كان عن حديث ابن الهيبان أبي عمير، قدم ابن الهيبان –يهودي من يهود الشام- قبيل الإسلام بسنوات، قالوا: وما رأينا رجلا لا يصلي الصلوات الخمس خيرا منه، وكان إذا حبس عنا المطر واحتجنا إليه نقول له: يا ابن الهيبان، اخرج فاستسق لنا.
#171#
فيقول: لا، حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة.
فنقول: وما نقدم؟
فيقول: صاعا من تمر أو مدين من شعير عن كل نفس.
فنفعل ذلك، فيخرج بنا إلى ظهر وادينا، فوالله إن نبرح حتى تمر السحاب فتمطر علينا، فيفعل ذلك بنا مرارا، كل ذلك نسقى، فبينا هو بين أظهرنا حضرته الوفاة.
فقال: يا معشر اليهود، ما الذي ترون أنه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟
قالوا: أنت أعلم يا أبا عمير.
قال: إنما قدمتها أتوكف خروج نبي قد أظلكم زمانه وهذا البلد مهاجره، وكنت أرجو أن أدركه فأتبعه، فإن سمعتم به فلا تسبقن إليه، وذكر الحديث بنحو ما تقدم.
ويذكر أن كعب بن أسد اليهودي قال في كلام طويل: وقد دعوت قومي إلى الدخول مع محمد صلى الله عليه وسلم حين أوقع بني النضير فأبوا، والتوراة إني لأعلم أن محمدا نبي مرسل إلينا وإلى الناس كلهم، ولقد خبرنا بهذا ابن جواس وابن الهيبان وكل حبر عظيم من يهود بوادي القرى وتيماء وفدك وخيبر، ولكنا حسدنا العرب وقلنا: لا نكون أذنابا أبدا، ولقد قرأت في سفر من التوراة لم يبدل ولم يغير صفة محمد صلى الله عليه وسلم كما رأيت وجهه، ولكني لا أتبعه أبدا مخافة أن تعيرني يهود.
#172#
وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم، عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش –وكان من أصحاب بدر- رضي الله عنهم قال: كان لنا جار من يهود من بني عبد الأشهل، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت.
فقالوا: ويحك يا فلان، أو ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون عند موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟
قال: نعم والذي يحلف به ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في داره يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا.
فقالوا له: ويحك يا فلان، ما آية ذلك؟
قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد. وأشار بيده إلى (مكة) و (اليمن).
قالوا: ومتى تراه؟ فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا. فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله عز وجل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا فآمنا به وكفر بغيا وحسدا.
فقلنا له: ويحك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟
#173#
قال: بلى، ولكن ليس به.
وفي بعض طرقه عن سلمة قال: كان لنا جار من اليهود فخرج علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى غلسا لنا وأنا يومئذ أحدث القوم، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقالوا له: ما ترى أن ذلك كائن بعد الموت، وإن الناس يجمعون إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون بأعمالهم؟ قال: نعم.
قالوا: وما آية ذلك؟ فقال: نبي يبعث في ناحية من هذه الأرض. وأشار بيده إلى جهة مكة.
قالوا له: ومتى ترى ذلك كائنا؟ قال: عما قريب.
قال سلمة: فقل ما لبث حتى بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم، واليهودي الذي أخبرنا به بين أظهرنا، فكذب به وآمنا.
فقلنا له: ويلك أتكفر بغيا وحسدا، ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟
قال: بلى، ولكن لا أؤمن به.
وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه قال: كان الزبير بن باطا وكان
#174#
من أعلم اليهود يقول: إني وجدت سفرا كان أبي يختمه علي، فيه ذكر أحمد نبي يخرج بأرض القرظ، صفته كذا وكذا، فتحدث به الزبير بعد أبيه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج عمد إلى ذلك السفر، فمحاه، وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس به.
وروينا من طريق ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: حدثت عن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء [في] بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي –حيي بن أخطب- وعمي –أبو ياسر بن أخطب- مغلسين.
قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس.
قالت: فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم.
#175#
قالت: وسمعت عمي –أبا ياسر- وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله.
قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
وروينا في "مغازي موسى بن عقبة" عن الزهري قال: كان بالمدينة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثان يعبدها رجال من أهل المدينة لا يتركونها، فأقبل عليهم قومهم وعلى تلك الأوثان فهدموها، وعمد أبو ياسر بن أخطب –أخو حيي بن أخطب وهو أبو صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم- فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه، وذلك قبل أن تصرف القبلة نحو المسجد الحرام، فقال أبو ياسر: يا قوم، أطيعوني، فإن الله عز وجل قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيي حين سمع ذلك وهو سيد اليهود يومئذ وهما من بني النضير، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجلس إليه وسمع منه، فرجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعا، فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.
فقال له أخوه –أبو ياسر- يا ابن أم، أطعني في هذا الأمر ثم اعصني فيما شئت بعده، لا تهلك.
قال: لا والله، لا أطيعك، واستحوذ عليه الشيطان، فاتبعه قومه على رأيه.
وحدث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن صفوان ابن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: أذهب بنا إلى هذا النبي.
فقال له صاحبه: لا تقل: نبي؛ إنه لو سمعك كان له أربعة أعين.
#176#
فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود [أن] لا تعتدوا في السبت».
قال: فقبلوا يده ورجله، فقالا: نشهد أنك نبي.
قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟»
قالوا: إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود.
خرجه الترمذي لشعبة وقال: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
وعبد الله هو: ابن سلمة –بكسر اللام، صاحب علي رضي الله عنه، وروى أيضا عن: عمار وعمر.
قال العجلي ويعقوب بن شيبة: ثقة.
وقال أبو حاتم والنسائي: تعرف وتنكر.
وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.
#177#
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد –هو ابن أبي عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن سالم مولى عبد الله بن مطيع، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس فقال: «أخرجوا إلي أعلمكم»، فقالوا: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه، وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم به من الغمام: "أتعلمني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟".
قال: اللهم، نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لبين عندهم في التوراة، ولكنهم حسدوك.
قال: «فما يمنعك أنت؟»
قال: أكره خلاف قومي، وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.
وخرج الإمام أحمد في "مسنده" فقال: حدثنا روح وعفان المعنى، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال عفان: عن أبيه ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم لإدخال رجل [إلى] الجنة، فدخل الكنيسة فإذا هو بيهود، وإذا هو بيهودي يقرأ عليهم التوراة، فلما أتوا على صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض.
#178#
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لكم أمسكتم؟»
فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا، ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة، فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لوا أخاكم».
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" عن علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة. فذكره.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا علي بن محمد، عن الصلت بن دينار، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي صخر العقيلي رضي الله عنه قال: خرجت إلى المدينة فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يمشي، فمر بيهودي معه سفر فيه التوراة يقرؤها على ابن أخ له مريض بين يديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا يهودي، نشدتك، بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام وفلق البحر لبني إسرائيل أتجد في توراتك نعتي وصفتي ومخرجي؟» فأومأ برأسه: أن لا.
فقال ابن أخيه: لكني أشهد بالذي أنزل التوراة على موسى، وفلق البحر لبني إسرائيل، إنه ليجد نعتك وصفتك ومخرجك في كتابه، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيموا اليهودي عن صاحبكم».
#179#
وقبض الفتى فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأجنه.
وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" ولفظه: عن أبي صخر العقيلي صلى الله عليه وسلم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يفري بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد في كتابك ذا صفتي ومخرجي؟»
فقال برأسه هكذا، أي: لا، فقال ابنه –يعني: الذي في النزع-: إي والذي أنزل التوراة، إنا لنجد في التوراة صفتك ومخرجك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» وولي كفنه والصلاة عليه.
وخرجه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "المحتضرين" عن أبي صخر العقيلي، حدثني رجل من الأعراب قال: جلبت مرة إلى المدينة [جلوبة] في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغت من ضيعتي قلت: لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ما يقول، فتلقاني بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يمشون، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود، وقد نشر التوراة يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، وذكر الحديث.
#180#
أخبرنا به المسند الكبير أبو هريرة عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي بقراءتي عليه، أخبرنا البهاء أبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي قراءة عليه وأنت تسمع فأقر به، أخبرنا أبو الوفاء محمود بن إبراهيم بن سفيان بن منده في كتابه، أخبرنا أبو الخير محمد بن أحمد بن محمد بن الباغبان قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو عمرو عبد الوهاب بن منده، أخبرنا أبي الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده العبدي، أخبرنا أبو عمرو مولى بني هاشم ومحمد بن يعقوب، قالا: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن قدامة، حدثني رجل أعرابي قال: جلبت جلوبة إلى المدينة، فلما فرغت قلت: والله لآتين هذا الرجل –يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم فأسمع منه، فلقيني بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فجعلت أقفوهم، فبينما هو يمشي إذ مر على يهودي وبين يديه ابن له في الموت كأحسن الرجال، وهو ناشر التوراة يعزي بها نفسه، فقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا يهودي، أنشدك بالذي أنزل التوراة، هل تجدون في التوراة صفتي ومخرجي؟»
فقال برأسه: لا.
فقال ابنه: بلى والذي بعثك بالحق إنا لنجد صفتك ومخرجك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا اليهودي عن أخيكم» وولي رسول الله صلى الله عليه وسلم كفنه وأجنه، وصلى عليه.
#181#
عبد الله بن قدامة هو أبو صخر العقيلي، فيما قيل.
ويرده ما رواه سالم بن نوح أبو سعيد البصري العطار عن الجريري، عن عبد الله بن قدامة، عن أبي صخر العقيلي، وذكر الحديث.
وحدث أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن أبيه وعمه أبي بكر، قالا: حدثنا أبو أسامة، حدثنا مجالد، أخبرنا عامر، قال: انطلق عمر رضي الله عنه إلى اليهود فقال: أنشدكم بالله عز وجل الذي أنزل التوراة على موسى، هل تجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في كتبكم؟ قالوا: نعم.
#182#
وقال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي: قال ابن وهب: قال مالك: بلغني أن طائفة من اليهود نزلوا المدينة، وطائفة خيبر، وطائفة فدك، لما كانوا يسمعون من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه في أرض بين حرتين، ورجوا أن يكون منهم، فأخلفهم الله ذلك، وقد كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل بأسمائه وصفاته.
وبلاغ مالك هذا حدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "التاريخ" عن المنجاب بن الحارث قال: أخبرنا محمد بن سليمان الأصفهاني عن عوف، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بخت نصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل، فلما خرجوا من أرض الشام جعلوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون أن يلقوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيتبعونه، حتى نزل من بني هارون ممن حمل التوراة يثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه جاء، ويحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدرك من أدرك من أبنائهم فكفروا به وهم يعرفونه.
#183#
وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن نملة بن أبي نملة، عن أبيه قال: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في كتبهم، ويعلمون الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلينا، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسدوا وبغوا، وقالوا: ليس به.
وقال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا ابن أبي سبرة، عن مسلم بن يسار، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه قال: ما كان في الأوس والخزرج رجل أومن لمحمد صلى الله عليه وسلم من بني عامر كان بألف يهودي، ويسألهم عن الدين، فيخبرونه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه مثل ذلك، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى فأخبروه بصفته، فرجع وهو يقول: أنا على الحنيفية.
وأقام مترهبا ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم، يتوكف خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حسد وبغى ونافق وقال: يا محمد، أنت تخلط الحنيفية بغيرها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت بها بيضاء نقية، أين ما كان يخبرك به الأحبار من صفتي؟»
قال: لست بالذي وصفوا لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت».
فقال: ما كذبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكاذب أماته الله طريدا وحيدا».
#184#
فقال: متى؟ ثم خرج إلى مكة، فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك الترهب، ثم حضر أحدا معهم كافرا، ثم انصرف معهم إلى مكة، فلما كان الفتح ورأى الإسلام قد ضرب بجرانه، ونفى الله الكفر وأهله، وخرج هاربا إلى قيصر، فمات هناك طريدا، فقضى قيصر بميراثه لكنانة بن عبد ياليل وقال: أنت وهو من أهل المدر.
وقال الإمام أبو هاشم محمد بن أبي محمد بن ظفر، الأندلسي الأصل، المكي المولد والمنشأ، الحموي الدار: وفي ترجمة أخرى –يعني للتوراة- "وإسماعيل قد سمعت دعاءك فيه، وباركت عليه وعظمته جدا جدا، وسيلد اثني عشر عظيما، وأجعله لأمة عظيمة".
قال ابن ظفر: فهل كانت لإسماعيل أمة عظيمة؟! لكن الأمة العظيمة لولده محمد صلى الله عليه وسلم.
#185#
وقال نحوه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" حين ذكر نص التوراة المذكور، وأنه في السفر الأول منها: قال: وليس في ولد إسماعيل من جعله لأمة عظيمة غير محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن ظفر: وعلى أن في قولهم في الترجمة: "جدا جدا" إنما هو تفسير لقوله في التوراة: باللسان العبراني "[مؤيد]".
وقد اختلف في معنى هاتين الكلمتين:
فقيل: معناهما: (جدا جدا) أي: حقا حقا، ومنه: في دعاء القنوت: "إن عذابك الجد" أي: الحق.
وقيل: "الجد" الكثير هنا.
وقيل: معناهما: طيب.
وقيل: حمد حمد. وقيل غير ذلك.
#186#
ووجدتها بخط بعض من آمن من علماء اليهود "بمأدها" بزيادة باء موحدة مكسورة في الأولى، تليها ميم ساكنة، بعدها همزة مضمومة، وآخرها دال مهملة ساكنة، والكلمة الثانية بضم الميم الأولى أو الهاء، والباقي سواء.
وذكرها بعض المتأخرين "مأذ" بفتح الهمزة –وزان عمر- والذال.
وذكر ابن قتيبة أنها بكسر الميم والهمزة، وأن بعضهم يفتح الميم ويدنيها من الضمة، وأن معناهما "محمد".
وذكر غيره أن التوراة باللغة العبرانية وهي قريبة من اللغة العربية، وكثيرا ما يكون الاختلاف بينهما في كيفيات أداء الحروف والنطق بها من التفخيم والترقيق والضم والفتح وغير ذلك؛ لأن العرب تقول: "لا" والعبرانيون يقولون: "لو" وتقول العرب: "عالم" والعبرانيون: "عولام"، وتقول العرب: "إله" والعبرانيون "إولوه".
وعلى هذا إذا نظرت في حروف "محمد" وفي حروف "مأذ مأذ" وجدت الكلمتين كلمة واحدة، فإن الميمين في "محمد" وفي "مأذ مأذ" والهمزة التي في "مأذ"، والحاء التي في "محمد" من مخرج واحد، والدال كثيرا ما نجد موضعها في العبرانية ذالا، فالعبرانيون يقولون: "إيحاذ" للواحد، والذال والدال متقاربتان، فيمن تأمل اللغتين وهذين الاسمين لم يشك أنهما واحد، ولهذا نظائر في اللغتين، مثل "موسى" في اللغة العربية و"موشى" في العبرانية؛ لأن فيها "من" للماء و"شاء"
#187#
للشجر؛ لأن موسى التقط من المائين الشجر، فالتفاوت الذين بين "موسى" و "موشى" في اللغتين كالتفاوت بين "محمد" و "مأذ مأذ" فيهما.
وذكر بعض مفسري التوراة بالعربية أن هاتين الكلمتين يتضمنان اسم السيد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا اعتبر حروف اسم "محمد" وجد في هاتين الكلمتين، لأن ميمي "محمد" وداله بإزاء الميمين من الكلمتين، وإحدى الدالين وبقية اسم محمد وهي الحاء بإزاء بقية الكلمتين وهي الباء والألفان والدال الثانية؛ لأن "الحاء" في الحساب بثمانية من العدد، والباء باثنين، وكل ألف بواحد، والدال بأربعة، فصار المجموع ثمانية، وهي قسط الحاء من العدد الجمل، فتكون "بمأد مأد" قد تضمنتا بالصريح ثلاثة أرباع اسم "محمد"، والربع الآخر دل عليه بقية الكلمتين بحساب العدد المذكور، والله أعلم.
وقال أبو نصر أشموايل بن الرآب يهوذا بن آبون الفاسي وهو
#188#
بذلك عالم رحمه الله، واسمه بالعربية: السمؤال بن أبي البقاء يحيى بن عباس، فقال في كتابه "إفحام اليهود" فيما وجدته بخطه: قال الله تعالى في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة مخاطبا إبراهيم الخليل عليه السلام:
"وأما في إسماعيل، فقد قبلت دعاءك، ها أنا قد باركت فيه وأثمره وأكثره جدا جدا". ذلك قوله: "وليشماعيل شمعيتخا هنى بيراخي أوثو وهفريثي أوثو بـ بمأد مأد" فهذه الكلمة أعني بـ "مأد مأد" إذا عددنا حساب حروفها بالجمل كان اثنين وتسعين، وذلك عدد حساب حروف اسم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أيضا اثنان وتسعون، وإنما جعل ذلك في هذا الموضع ملغزا؛ لأنه لو صرح به لبدلته اليهود أو أسقطته من التوراة كما عملوا بغيره.
فإن قالوا إنه قد يوجد في التوراة عدة كلمات مما يكون عدد حساب حروفه مساويا لعدد حساب حروف اسم زيد وعمرو وخالد وبكر، فلا يلزم من ذلك أن يكون زيد وعمرو وخالد وبكر أنبياء.
فالجواب: أن الأمر كما يقولون لو كان لهذه الآية أسوة بغيرها من كلمات التوراة؛ لكنا نحن نقيم البراهين والأدلة على أنه لا أسوة لهذه الكلمة بغيرها من سائر كلمات التوراة.
#189#
وذلك أنه ليس في التوراة من الآيات ما حاز به إسماعيل الشرف كهذه الآية، لأنها وعد الله لإبراهيم بما يكون من شرف إسماعيل.
وليس في التوراة آية أخرى مشتملة على شرف لقبيلة زيد وعمرو وخالد وبكر.
ثم إنا نبين أنه ليس في هذه الآية كلمة تساوى بـ "مأد مأد" التي معناها "جدا"، وذلك أنها كلمة المبالغة من الله سبحانه فلا أسوة لها بشيء من كلمات الآية المذكورة.
وإذا كانت هذه الآية أعظم الآيات مبالغة في حق إسماعيل وأولاده، وكانت تلك الكلمة أعظم مبالغة من باقي كلمات تلك الآية فلا عجب أن تتضمن الإشارة إلى أجل أولاد إسماعيل شرفا، وأعظمهم قدرا صلى الله عليه وسلم.
وإذ قد بينا أنه ليس لهذه الكلمة أسوة بغيرها من كلمات هذه الآية، ولا لهذه الآية أسوة بغيرها من آيات التوراة، فقد بطل اعتراضهم.
انتهى قول أبي نصر.
ونظير هذا التفسير الملغز بحروف الجمل الموجز ما جاء في القرآن المجيد إشارة إلى كلمة التوحيد، وذلك فيما رويناه من طريق المنذر بن محمد بن المنذر، حدثني أبي: محمد بن المنذر، حدثني عمي الحسين بن سعيد بن أبي الجهم، حدثني أبي، عن أبان بن تغلب في قوله عز وجل: {كهيعص}، فقال في تفسيرها: "لا إله إلا الله" من حساب الجمل على الحروف؛ لأن الكاف عشرون، والهاء خمسة، والياء عشرة، والعين سبعون، والصاد تسعون، وكذلك عدد حروف "لا إله إلا الله".
#190#
وكما صرح بهذه الكلمة في القرآن وألغزت في هذا المكان كذلك أفصح باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة وأبهم في "مأد مأد" لأمر شاءه الله وارتضاه.
ولم يذكر أبو نصر: "وسيلد اثني عشر عظيما"، والاثنا عشر من ولد إسماعيل عليهم السلام وأسماؤهم معروفة عند علماء أهل الكتاب رويناهم من طريق زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق قال:
ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اثنا عشر رجلا وهم: "نابت" وكان أكبرهم، و "قيذار" و "أذبل" و "منشي" و "مسمع" و "ماشى" و "دما" و "أذر" و "طيما" و "يطور" و "نبش" و "قيذما".
وقد وجدتها بخط النسابة العز محمد بن أحمد بن محمد بن عساكر، وذكر أنه نقلها في سنة ثماني عشرة وستمائة –يعني من نسخة خلف بن عبد الله بن هبة الله بن حريز السعدي- وذكر أنه نقلها شكلا ومعنى في سنة من خط الوزير أبي القاسم الحسين بن علي بن الحسين بن علي المعتزلي كتبها بخطه في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قال: أسماء الاثني عشر من ولد إسماعيل عليه السلام من لفظ التوراة: "بنايون" وهو نابت، "قيذار" بإمالة القاف إلى الكسر، "إذبال" بالإمالة إلى الكسر، "مبسام" والسين بين السين والصاد، "مشماع" "دوما" "مشا" ممال إلى الكسر، "جذاذ" "ثيما" الياء بين الياء والألف، "يسطورنا"، "فيس" "قاذما" بإمالة القاف وكسرها.
#191#
$ذكر أخبار أخرى من التوراة فيها الإشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم$
وقد وجد في التوراة الإشارة إلى ذكره صلى الله عليه وسلم غير ما تقدم، فمن ذلك: ما في السفر الأول منها –وهي خمسة أسفار- في الفصل التاسع فيما حكاه بعض المفسرين المتأخرين وغيره في قصة هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال: يا هاجر، من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال قال: ارجعي فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا فسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك، وولدك يكون وحشي البأس، وتكون يده فوق الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته.
قال: قال المستخرجون لهذه البشارة: معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق، بل كان في بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى أعز أهل الأرض، لم يكن لأحد عليهم يد، وكذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحدا مثله، فلم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم سلط الله عليهم بخت نصر ففعل بهم الأفاعيل، ولم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم بعث الله المسيح، وخرب بيت المقدس الخراب الثاني، حيث أفسدوا في الأرض مرتين، ومن حينئذ زال ملكهم وقطعهم الله في الأرض أمما، وكانوا تحت حكم الروم والفرس والقبط،
#192#
ولم يكن للعرب عليهم حكم أكثر من غيرهم، ولم يكن لولد إسماعيل سلطان على أحد من الأمم لا أهل الكتاب ولا الأميين، فلم تكن يد ولد إسماعيل فوق الجميع، حتى بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم، دعا به إبراهيم لولد إسماعيل حيث قال: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}، فلما بعث صارت يد ولد إسماعيل فوق الجميع، فلم يكن في الأرض سلطان أعز من سلطانهم، وقهروا فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والمشركين، فظهر بذلك تحقيق قوله في التوراة: "وتكون يده فوق الجميع ويد الكل به"، وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر.
وقال أبو نصر السمؤال بن يحيى الفاسي في كتابه "إفحام اليهود" فيما وجدته بخطه عندهم في السورة الأخيرة من التوراة وهي التي باركهم بها موسى هذه الآية، وذكرها بالعبرانية، ثم ذكر تفسيرها بالعربية، قال: إن الله من "سيناء" تجلى، وأشرق [نوره] من سيعير لهم، واطلع من جبال فاران، ومعه ربوات المقدسين، وهم يعلمون أن جبل سيعير
#193#
هو جبل الشراة الذين فيهم بنو العيص، الذين آمنوا بعيسى عليه السلام، بل في هذا الجبل كان مقام عيسى عليه السلام، ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور، لكنهم لا يعلمون أن الجبل فاران هو جبل مكة.
وفي الإشارة إلى هذه الأماكن الثلاثة التي كانت مقام نبوة هؤلاء الأنبياء ما يقتضي للعقلاء أن يبحثوا عن تأويله المؤدي إلى اتباع مقالتهم.
فأما الدليل الواضح من التوراة على أن جبل فاران هو جبل مكة فهو: أن إسماعيل لما فارق أباه الخليل عليه السلام، سكن إسماعيل في برية فاران، ونطقت التوراة بذلك.
ثم ذكره بالعبرانية ثم قال: تفسيره: وأقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر.
فقد ثبت من التوراة أن جبل فاران مسكن بني إسماعيل، وإذا كانت التوراة قد أشارت في الآية [التي] تقدم ذكرها إلى نبوة تنزل على "جبل فاران" لزم أن تلك النبوة على آل إسماعيل لأنهم سكان "فاران".
#194#
وقد علم الناس قاطبة أن المشار إليه بالنبوة من ولد إسماعيل محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث من مكة التي كان فيها مقام إسماعيل، فدل ذلك على أن جبال فاران هي جبال مكة، وأن التوراة أشارت في هذا الموضع إلى نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وبشرت به.
قلت: وقد ذكر الله عز وجل هذه الأماكن الشريفة نظير ما ذكرها في التوراة، فقال تعالى: {والتين والزيتون . وطور سينين . وهذا البلد الأمين} فأقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله:
فالمراد بـ {والتين والزيتون} عند جماعة كثيرة من المفسرين: نبتها وأرضها، وهي أرض ببيت المقدس، فإنها أكثر البقاع تينا وزيتونا، وهي مظهر عبد الله ورسوله وكلمته وروحه عيسى ابن مريم عليهما السلام.
{وطور سينين} بالجبل الذي كلم الله عليه عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه، فهو مظهر نبوته.
و {البلد الأمين}: حرم الله وأمنه ومظهر خاتم أنبيائه ورسله وخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم.
فكما ذكر الله عز وجل هذه الأماكن الثلاثة العظيمة في القرآن، كذلك ذكرها بعينها في التوراة في قوله: (إن الله في سيناء تجلى، وأشرق من
#195#
سيعير، واطلع من جبال فاران).
وقد جاء بلفظ آخر فيما ذكره أبو محمد عبد الله بن قتيبة وغيره: "تجلى الله من طور سيناء، وأشرف من سيعير، واستعلن من جبال فاران".
قال ابن قتيبة: ليس بهذا خفاء على من تدبره، ولا غموض؛ لأن مجيء الله من طور سيناء: إنزاله التوراة على موسى من طور سيناء، كالذي هو عند [أهل] الكتاب وعندنا، وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح، وكان المسيح من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها تسمى من اتبعه "نصارى".
وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم وجبال فاران هي جبال مكة.
قال: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف أن فاران هي مكة.
فإن ادعوا أنها غير مكة، وليس ينكر ذلك من تحريفهم وإفكهم.
قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجر وإسماعيل فاران.
وقلنا: دلنا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه: فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح، أوليس "استعلن" و "علا" بمعنى واحد وهما: ظهر وانكشف؟! فهل تعلمون دينا ظهر ظهور الإسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها؛ فبينوه.
#196#
حكاه ابن القيم عنه، ثم حكى عن شيخه أنه ذكر أن جبل حراء –الذي ليس حول مكة أعلى منه- حوله جبال كثيرة، وذلك المكان يسمى فاران إلى هذا اليوم، والبرية التي بين: مكة وطور سيناء تسمى برية فاران.
قال: ولا يمكن أحدا أن يدعي أنه بعد المسيح نزل كتاب في شيء من تلك الأرض، ولا بعث نبي، فعلم أنه ليس المراد باستعلانه من جبال فاران إلا إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على الترتيب الزماني، فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن.
وقال ابن القيم حين ذكر قوله تعالى: {والتين والزيتون}، فإنه تعالى أقسم بها تعظيما لشأنها وإظهارا لقدرته وآياته وكتبه ورسله، فأقسم بها على وجه التدريج، فبدأ بالعالي ثم انتقل إلى أعلى منه، ثم إلى أعلى منهما، فإن أشرف الكتب: القرآن، ثم التوراة، ثم الإنجيل. وكذلك الأنبياء الثلاثة عليهم الصلاة والسلام.
قلت: قال أبو عبد الله محمد بن سعد في كتاب "الطبقات": حدثنا علي بن محمد –يعني: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن سليمان القافلاني، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام
#197#
بإخراج هاجر حمل على البراق، فكان لا يمر بأرض عذبة سهلة إلا قال: "أنزل ههنا يا جبريل؟" فيقول: لا. حتى أتى مكة فقال جبريل عليه السلام: انزل يا إبراهيم. قال: حيث لا ضرع ولا زرع؟! قال: نعم، ههنا يخرج النبي الذي من ذرية ابنك الذي تتم به الكلمة العليا.
وقال السمؤال أيضا فيما وجدته بخطه في "إفحام اليهود": إنهم لا يقدرون على أن يجحدوا هذه الآية من الجزء الثاني من السفر الخامس من التوراة.
ثم ذكر الآية بالعبرانية وفسرها بالعربية، فقال: تفسيره : نبيا أقيم لهم من وسط إخوتهم مثلك به فليؤمنوا. وإنما أشار بهذا إلى أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قالوا: إنه من وسط إخوتهم وليس في عادة كتابنا أن يعني بقوله: "إخوتكم" إلا بني إسرائيل؟
قلنا: بلى، قد جاء في التوراة: "إخوتكم بني العيص" وذلك في الجزء الأول من السفر الخامس قوله.
ثم ذكره بالعبرانية ثم قال: تفسيره: أنتم عابرون في تخم إخوتكم بني العيص المقيمين في سيعير، إياكم أن تطمعوا في شيء من أرضهم.
فإذا كان بنو العيص إخوة لبني إسرائيل، لأن العيص وإسرائيل ولدا
#198#
إسحاق، فكذلك بنو إسماعيل إخوة لجميع ولد إبراهيم.
وإن قالوا: إن هذا القول إنما أشير به إلى شموائيل النبي عليه السلام، لأنه قال: "من وسط إخوتهم مثلك"، وشموائيل كان مثل موسى، لأنه من أولاد ليوى، يعنون: من السبط الذي كان منه موسى.
قلنا لهم: فإن كنتم صادقين فأي حاجة بكم إلى أن يوصيكم بالإيمان بشموائيل، وأنتم تقولون: إن شموائيل لم يأت بزيادة ولا بنسخ، أأشفق من أن لا تقبلوه، لأنه إنما أرسل ليقوي أيديكم على أهل فلسطين، وليردكم إلى شرع التوراة، ومن هذه صفته فإنه أسبق الناس إلى الإيمان [به]؛ لأنه إنما يخاف تكذيبكم لمن ينسخ مذهبكم ويغير أوضاع ديانتكم، فالوصية بالإيمان به لا يستغني مثلكم عنه، ولذلك لم يكن بموسى حاجة إلى [أن] يوصيكم بالإيمان بنبوة "يرميا" و "يسعيا" وغيرهما من الأنبياء، وهذا دليل على أن التوراة أمرتهم في هذا الفصل باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وذكر أبو عبد الله ابن القيم في كتابه "هداية الحيارى" قال: في التوراة في السفر الخامس: قال موسى لبني إسرائيل: لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فسيقيم لكم الرب نبيا من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي.
قال: ولا يجوز أن يكون هذا النبي الموعود به من أنفس بني إسرائيل
#199#
لما تقدم أن إخوة القوم ليسوا أنفسهم كما تقول: بكر وتغلب ابنا وائل، ثم تقول: تغلب إخوة لك، وبنو تغلب إخوة بني بكر. انتهى.
وقال محمد بن عبيد الله بن أبي داود المنادي: حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا صالح بن عمر، حدثنا عاصم –يعني: ابن كليب- عن أبيه، عن الفلتان بن عاصم قال: كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ شخص بصره إلى رجل، فدعانا فأقبل رجل من اليهود مجتمع عليه قميص وسراويل ونعلان، فجعل يقول: يا رسول الله، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أتشهد أني رسول الله؟».
قال: فجعل لا يقول شيئا إلا قال: يا رسول الله، فيقول: «أتشهد أني رسول الله؟»، فيأبى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «أتقرأ التوراة؟» قال: نعم، [قال]: «والإنجيل؟» قال: نعم، [قال]: «والفرقان؟»، [قال: لا. قال]: «ورب محمد لو شئت لقرأته».
#200#
قال: «فأنشدك بالذي أنزل التوراة والإنجيل» وأشياء حلفه بها، «تجدني فيهما؟» قال: نجد مثل نعتك تخرج من مخرجك، كنا نرجو أن تكون فينا، فلما خرجت ربنا أنك هو، نظرنا إذا أنت لست به. قال: «من أين؟» قال: نجد من أمتك سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، وإنما أنتم قليل. قال: فهلل وكبر ثم قال: «والذي نفس محمد بيده، إني لأنا هو، إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا وسبعين وسبعين» يعني: ألفا.
وقال أبو نعيم في "الدلائل": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العباس بن بكار الضبي، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال العباس رضي الله عنه:
خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب، فيهم: أبو سفيان بن حرب، فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان وبالنفر، ويصنع أبو سفيان يوما ويفعل مثل ذلك، فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غداءك؟ فقلت: نعم.
#201#
فانصرفت أنا والنفر إلى بيته، فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني، فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟
فقلت: أي بني أخي؟
فقال أبو سفيان: إياي تكتم؟ وأي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد.
قلت: وأيهم على ذلك؟
قال: هو محمد بن عبد الله.
فقلت: قد فعل وخرج؟
قال: بلى، قد فعل، وأخرج كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان أخبرك أن محمدا قام بالأبطح، فقال: أنا رسول الله، أدعوكم إلى الله عز وجل.
فقال العباس: قلت: لعله يا أبا حنظلة صادق.
فقال: مهلا يا أبا الفضل، فوالله ما أحب أن تقول مثل هذا، إني لأخشى أن يكون على خير من هذا الحديث، يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة وهنة كل واحد منهما عامة، نشدتك يا أبا الفضل، هل سمعت ذلك؟
قلت: نعم، قد سمعت.
قال: فهذه والله شومتكم.
قلت: فلعلها.
قال: فما كان بعد ذلك إلا ليالي حتى قدم علينا عبد الله بن حذافة بالخبر وهو مؤمن، ففشا الخبر في مجالس اليمن، وكان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يحدث فيه حبرا من أحبار اليهود.
فقال اليهودي: ما هذا الخبر؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال.
#202#
قال أبو سفيان: صدقوا، أنا عمه.
قال اليهودي: أخو أبيه؟
قال: نعم.
قال: فحدثني عنه. قال: لا تسألني، ما أحب أن يدع هذا الأمر أبدا، وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه، فرأى اليهودي أنه يغمص عليه ولا يحب أن يعيبه.
فقال اليهودي: ليس به بأس على اليهود وتوراة موسى.
قال العباس: فتأدى إلي الخبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس في الغد وفيه أبو سفيان بن حرب والحبر، فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله، فأخبرك أنه عمه، وليس بعد، ولكنه ابن عمه وأنا عمه، وأخو أبيه.
قال: أخو أبيه؟
قلت: أخو أبيه.
فأقبل على أبي سفيان، فقال: صدق؟
فقال: نعم صدق.
فقلت: سلني فإن كذبت فليرده علي.
فقال: نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة؟
قال: لا، وإله عبد المطلب، ولا كذب ولا خان، وإن كان اسمه عند قريش "الأمين".
قال: فهل كتب بيده؟
قال العباس: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه يكذبني وراد علي، فقلت: لا يكتب.
فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.
#203#
قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل، إن يهود تفر من ابن أخيك.
قلت: قد رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقا كنت قد سبقت، وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك؟.
قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في "كداء".
قلت: ما تقول؟
قال: كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن الله لا ينزل خيلا تطلع من "كداء".
قال العباس رضي الله عنه: فلما استفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظرنا إلى الخيل وقد طلعت من "كداء" قلت: يا أبا سفيان، تذكر الكلمة؟
قال: إي والله، إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.
وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا أبو بكر الدينوري المفسر، حدثنا محمد بن أيوب القطان، ثنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه، عن جده وهب قال: كان في بني إسرائيل رجل عصى الله مائتي سنة ثم مات، فأخذوا أرجله فألقوه على مزبلة، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: أن اخرج فصل عليه، قال: يا رب، بنو إسرائيل شهدوا عليه أنه عصاك مائتي سنة، فأوحى الله إليه: هكذا كان، إلا أنه كان كلما نشر التوراة ونظر إلى اسم
#204#
محمد صلى الله عليه وسلم قبله ووضعه على عينيه وصلى عليه، فشكرت ذلك له وغفرت ذنوبه وزوجته ستين حوراء.
#205#
$فصل في ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل$
وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا الفضل بن دكين، حدثنا يونس بن [أبي] إسحاق، عن العيزار بن حريث قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح.
تابعه يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، وهو: ابن أبي إسحاق.
وخرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواه أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحراوي في كتابه "الأحاديث الألف مما يستفاد ويعز وجودها"، فقال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الله بن حمشاذ، أخبرنا أبو العباس عبد الله بن
#206#
عبد الرحمن العسكري ببغداد، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور الحارثي، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، حدثني العيزار بن حريث، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوب في الإنجيل: ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويغفر.
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن سهل مولى عثيمة: أنه كان نصرانيا من أهل "مريس"، وكان يقرأ الإنجيل، فذكر أن صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الإنجيل: وهو من ذرية إسماعيل، اسمه: أحمد صلى الله عليه وسلم.
ورواه مطولا بزيادة، فقال: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن سهل مولى عثيمة: أنه كان نصرانيا من أهل "مريس"، وأنه كان يتيما في حجر أمه وعمه، وأنه كان يقرأ الإنجيل.
قال: فأخذت مصحفا لعمي فقرأته حتى مرت بي ورقة أنكرت كثافتها حين مرت بي ومسستها بيدي، فنظرت فإذا فصول الورقة ملصق بغراء،
#207#
قال: ففتقتها فوجدت فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم أنه: لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس قميصا مرقوعا، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر، وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه: أحمد.
قال سهل: فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم جاء عمي، فلما رأى الورقة ضربني وقال: ما لك ولفتح هذه الورقة وقراءتها؟!
فقلت: فيها نعت النبي أحمد.
فقال: إنه لم يأت بعد.
#208#
$فصل في ذكر البشارات العيسوية بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم$
أخبرنا عبد القادر بن أبي إسحاق الصالحي بقراءتي عليه بها، أخبرتك فاطمة بنت الفراء القدسي، أخبرنا أحمد بن أبي محمد النابلسي، أخبرنا إسماعيل بن علي الشروطي، أخبرنا إسماعيل بن أحمد أبو القاسم، أخبرنا عبد الدائم الهلالي، أخبرنا عبد الوهاب بن الحسن الدمشقي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه:
أن عيسى ابن مريم –عليه الصلاة والسلام- قال: رب، أنبئني عن هذه الأمة المرحومة؟
فقال: أمة "أحمد"، هم علماء حلماء، كأنهم أنبياء، يرضون مني بالقليل من العطاء، وأرضى منهم باليسير من العمل، وأدخلهم الجنة بـ: "لا إله إلا الله"، يا عيسى، هم أكثر سكان الجنة؛ لأنها لم تذل
#209#
ألسن قوم قط بـ "لا إله إلا الله" كما ذلت ألسنتهم، ولم تذل رقاب قوم قط بالسجود كما ذلت لي رقابهم.
وبالإسناد إلى هشام: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال، حدثنا زيد بن أسلم قال: في مناجاة موسى عليه السلام قال: رب، هذه الأمة التي أجدها في كتابي مرحومة؟ قال: تلك أمة "أحمد"، قال تعالى: أعطيهم القليل فيرضون به، فأرضى منهم من العمل بالقليل، وأدخلهم الجنة بـ "لا إله إلا الله".
وروي عن ابن إسحاق أنه قال: حدثني أهل العلم: أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: إن أحب الأمم إلى الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل له: وما فضلهم الذي تذكر؟ قال: [لم] تذلل "لا إله إلا الله" على ألسن أحد من الأمم تذليلها على ألسنتهم.
وقال عبد الله بن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: قال عيسى ابن مريم عليه السلام: تأتي أمة محمد صلى الله عليه وسلم علماء حكماء كأنهم من الفقه أنبياء.
قال مالك: لذا هم صدر هذه الأمة.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عبد الله بن
#210#
صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي حلبس يزيد بن ميسرة: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه، سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم -ما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها- يقول: «إن الله تعالى قال: يا عيسى، إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا رب، كيف يكون هذا ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي".
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن أم الدرداء إلا يزيد بن ميسرة، تفرد به معاوية بن صالح.
وهكذا قال أبو نعيم في "الحلية" حين خرجه عن الطبراني.
وخرجه أحمد بن حنبل والقاضي أبو بكر أحمد بن (عمر) بن عبد الخالق المصري البزار في مسنديهما بنحوه.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا فيض البجلي، حدثنا
#211#
سلام بن مسكين، عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع، يا ابن الطاهر البكر البتول، إني خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فسر لأهل سوران –بالسيريانية- بلغ من بين يديك أني أنا الله الحي القيوم الذي لا أزول، صدقوا النبي العربي صاحب الجمل والمدرعة والعمامة –وهي التاج- والنعلين والهراوة –وهي القضيب- الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الأنجل العينين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ وريح المسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته –أي: سرته- تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا على بطنه شعر غيره، شثن الكف والقدم، إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر وينحدر في صبب ذو النسل القليل.
وروى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي شيذلة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم الجارود بن عبد الله وكان سيدا في قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق –وفي رواية: لقد جئت
#212#
بالحق ونطقت بالصدق –والذي بعثك بالحق نبيا واختارك للمؤمنين وليا، لقد وجدت صفتك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله، الحديث بطوله وفيه خبر قس بن ساعدة.
ورواه بطوله أبو داود سليمان بن سيف الحراني الحافظ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ببعض طرقه.
ابن البتول: عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، والتبتل: ترك النكاح والزهد فيه، والبتول: المرأة المنقبضة عن الرجال.
وقد جاء من بشارات عيسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو هاشم بن ظفر: ورأيت في ترجمة أخرى –يعني: من الإنجيل- أنه قال: الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، لا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب.
#213#
قال: فمن هذا الذي وبخ العلماء على كتمان الحق وتحريف الكلم عن مواضعه وبيع الدين بالثمن البخس من عرض الدنيا، وصدود الجهال عن سبيل الله وانتصابهم أربابا من دون الله، ومن ذا الذي أنذر بالحوادث وأخبر عن الغيوب إلا محمد صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وهذا في إنجيل يوحنا الذي كتبه بالرومية.
وفي مواضع أخرى من الإنجيل: ابن البشر ذاهب والبارقليط من بعده، يحيي لكم الأسرار ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل.
وفي موضع آخر: سوف أذهب أنا ويأتي الذي بعدي ويجهدكم بدعواه، ولكن يسل السيف فتدخلونه طوعا وكرها.
وقال الإمام أحمد في كتابه "الزهد": حدثنا داود بن عمرو، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة
#214#
قال: ركض عمر رضي الله عنه فرسا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فانكشفت فخذه من تحت القباء، فأبصر رجل من أهل "نجران" شامة في فخذه، فقال: هذا الذي نجده في كتابنا يخرجنا من ديارنا.
وقال ابن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان، عن ابن البيلماني، عن كوز بن علقمة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكبا، منهم أربعة وعشرون رجلا من
#215#
أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم: العاقب أمير القوم، وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره واسمه: "عبد المسيح".
والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه: "الأيهم".
و "أبو حارثة بن علقمة" أحد بني بكر [بن] وائل، وأسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم، حتى حسن علمه في دينهم فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم.
#216#
فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من "نجران" جلس "أبو حارثة" على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له: "كوز بن علقمة" يسايره إذ عثرت بغلة أبي حارثة فقال له كوز: تعس الأبعد –يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له حارثة: بل أنت تعست، فقال له: ولم يا أخي؟ فقال: والله إنه للنبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا كل ما ترى، (فأضمر) عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
وكوز بن علقمة هذا ذكره الخطيب بالواو، وعقده مع كوز بن علقمة، وكذا ابن نصر ابن ماكولا في كتابه، واستدركه أبو موسى المديني على ابن منده في كتابه "المستفاد".
وابن منده ذكر الحديث في كتابه في الصحابة في ترجمة كوز بن علقمة الخزاعي، وذكره بالراء مكان الواو.
#217#
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرئاسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي، فعثر فقال له ابنه: تعس الأبعد يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل؛ فإنه نبي واسمه في الوضائع –يعني: الكتب-، فلما مات لم يكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد [فيها] ذكر النبي صلى الله عليه وسلم [فأسلم] وحسن إسلامه فحج، وهو الذي يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها ...
وقد رواها ابن سعد على غير هذا الوجه فقال: أخبرنا علي بن محمد –يعني: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي-، عن أبي معشر،
#218#
عن محمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن عمارة بن غزية وغيرهما قالوا: قدم وفد نجران وفيهم أبو الحارث بن علقمة بن ربيعة وله علم بدينهم وكان أسقفهم وإمامهم وصاحب مدراسهم وله فيهم قدر، فعثرت به بغلته، فقال أخوه: تعس الأبعد –يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال أبو الحارث: بل تعست أنت، أتشتم رجلا من المرسلين؟! إنه الذي بشر به عيسى، وإنه لفي التوراة. قال: فما يمنعك من دينه؟ قال: شرفنا هؤلاء القوم وأكرمونا ومولونا، وقد أبوا إلا خلافه، فحلف أخوه ألا يثني له صعرا حتى يقدم المدينة فيؤمن به. فقال: مهلا يا أخي، فإنما كنت مازحا. قال: وإن، فمضى يضرب راحلته. وأنشأ يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها .. .. الخ
قال: فقدم فأسلم.
وفي هذا الخبر قصة طويلة فيها سبب نزول آية المباهلة، رواها يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه، عن جده –قال يونس: وكان نصرانيا فأسلم-: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران، وذكره بطوله.
وروي عن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه أنه كان غائبا عن الطائف حين حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ارتحل النبي صلى الله عليه وسلم عنها جاء عروة فلقي غيلان بن سلمة، فقال له عروة: ألا ترى علو أمر محمد صلى الله عليه وسلم واتباع الناس له؟
#219#
قال غيلان: بلى قد رأيت، فماذا عندك في أمره؟
قال عروة: إن العرب يرون أن لنا رأيا ونهى، ولسنا كذلك إن لم نتبعه ونؤمن به.
قال غيلان: ما أحب أن يسمع أحد من ثقيف هذا القول منك، وإني لأخافها عليك وإن كنت سيدها.
قال عروة: والله ما ينبغي أن تجهل صدق مقالتي، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، وإني لمعتمده فمتبعه وذاكر لك أمرا لم أذكره لأحد قط.
قال غيلان: ما هو؟
قال عروة: قصدت نجران لتجارة قبل أن يظهر أمر محمد صلى الله عليه وسلم وخلافه قومه، فغورت تحت سرحة منتبذا من أصحابي، فإذا جاريتان تسوقان بهما إلى السرحة فحجزتا البهم في ناحية من ظلها، وجلستا وأنا مضطجع، فتناومت.
فقالت إحداهما للأخرى: من هذا فيما تقولين يا بنت الأكرمين؟
قالت الأخرى: هذا عروة بن مسعود سيد غير مسود مفيض جود وغصن منجود.
قالت: صدقت يا ابنة الأكرمين، فما عاقبة أمره؟
قالت الأخرى: يعيش زعيما، ويتبع نبيا كريما، ويتعاطى أمرا جسيما فيرتد عنه كليما.
قالت: يا ابنة الأكرمين؟ وما النبي؟
قالت الأخرى: داع مجاب، لأمر عجاب، يلقيه من السماء كتاب، ويقهر الألباب.
قال عروة: ثم أمسكتا عن القول فغشيني النوم، فما أيقظني إلا رغاء الإبل وأصحابي يتحملون، فإذا الجاريتان قد ذهبتا، فلما بلغت نجران
#220#
نزلت على أسقفها وكان لي صديقا.
فقال: يا أبا يعفور، هذا حين خروج نبي من أهل حرمكم يهدي إلى الحق.
قلت: ما هذا الذي تقول؟
قال: إي والمسيح، إنه لخير الأنبياء وآخرهم، فإن ظهر فكن أول من يؤمن به، وقد كتمت هذا عن ثقيف لما رأيت من شدتهم عليه، وكنت أمرأً منهم، وأما الآن فإني معتمده فمتبعه ومستكثر، فاكتم علي تحرصي هذا.
قال غيلان: إني فاعل ذلك، فانصرف راشدا.
فأتى عروة النبي صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه.
وروى القاضي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الأسلمي الواقدي الأخباري أحد الأعلام فقال: حدثنا معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة قال: [وحدثنا عبد الحميد بن أبي جعفر عن أبيه قال]: وحدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة [عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة]، عن جدته الشفاء.
قال: وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي.
#221#
قال: وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أهله، عن عمرو بن أمية –دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب لهم كتبا..، وذكر بقيته.
وفيه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي –وهو أحد الستة- إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه للإسلام، وكتب معه كتابا، قال شجاع رضي الله عنه: فانتهيت إليه وهو بـ"غوطة دمشق"، وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه: "مري" يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت أحدثه عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فيرق حتى يغلبه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، وأنا أومن به وأصدقه وأخاف من الحارث أن يقتلني.
قال: فكان يكرمني ويحسن ضيافتي.
وخرج الحارث يوما فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه ثم رمى به وقال: من ينتزع مني ملكي، أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته، علي بالناس، فلم يزل يفرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى،
#222#
وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر: أن لا تسير إليه واله عنه ووافني بـ "إيليا".
فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟
فقلت: غدا.
فأمر لي بمائة مثقال ذهبا، ووصلني مري –يعني: حاجبه- بنفقة وكسوة، وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام.
فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «باد ملكه» وأقرأته من مري السلام وأخبرته، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدق».
ومات "الحارث بن أبي شمر" عام الفتح.
قالوا: وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملا لقيصر على عمان من أرض البلقاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى هرقل والحارث بن أبي شمر، ولم يكتب إليه، فأسلم فروة، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وأهدى له، وبعث من عنده رسولا من قومه يقال له: مسعود بن سعد، وذكر بقيته.
وفي رواية حدث بها ابن سعد عن علي بن محمد، عن عثمان بن عبد الرحمن الزهري، عن واصل بن عمرو الجذامي قال: كان فروة بن عمرو الجذامي عاملا للروم على عمان من أرض البلقاء، أو على معان، فأسلم وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث به مع رجل من قومه يقال له: مسعود بن سعد، وبعث إليه ببغلة وحمار وأثواب لين وقباء سندس مخوص بالذهب.
#223#
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من محمد رسول الله إلى فروة بن عمرو، أما بعد: قدم علينا رسولك، وبلغ ما أرسلت به، وخبر عما قبلك، وأتانا بإسلامك، وأن الله هداك بهداه، إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت الصلاة وآتيت الزكاة».
وأمر بلالا فأعطى رسوله مسعود بن سعد اثنتي عشرة أوقية ونشا.
وبلغ ملك الروم إسلام فروة فدعاه فقال له: ارجع عن دينك.
قال: لا أفارق دين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنك تعلم أن عيسى قد بشر به، ولكنك تضن بملكك.
فحبسه ثم أخرجه فقتله وصلبه، رضي الله عنه.
وروى أبو داود في "سننه" من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق إلى أرض النجاشي فذكر حديثه. قال النجاشي: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه.
أبو بكر بن أبي الدنيا من حديث عثمان بن عبد الرحمن أن رجلا من أهل الشام من النصارى قدم مكة، فأتى على نسوة قد اجتمعن في يوم عيد، وقد غاب أزواجهن في بعض أمورهم، فقال: يا نساء تيماء، إنه
#224#
سيكون فيكم نبي يقال له "أحمد" فأيما امرأة منكن استطاعت أن تكون له فراشا فلتفعل، ومضى الرجل، فحفظت خديجة حديثه.
وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن الحسين العجلي السواق: حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم، حدثنا أبي، حدثنا عمر بن سعد، حدثني مسلم الملائي عن حبة، عن علي رضي الله عنه قال: لما نزل علي بالرقة بمكان يقال له: "البلخ" على جانب الفرات، فنزل راهب من صومعته فقال لعلي رضي الله عنه: إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى ابن مريم عليهما السلام أعرضه عليك؟
قال علي رضي الله عنه: نعم، فما هو؟
قال الراهب: بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما كتب إنه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل الله، لا فظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، الذين يحمدون الله على كل نشز وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتكبير والتهليل، وينصره الله جل وعز على كل من ناوأه.. وذكر بقيته.
#225#
$فصل في الكتاب الذي كان في الكنز المذكور في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما}$
وهذا الكتاب قد جاء أنه كان مكتوبا في الكنز الذي في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} من رواية الحسين بن حماد الكوفي، حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال «لوح من ذهب فيه مكتوب: الذي قضى فيما قضى، وسطر فيما سطر، فقال: إني باعث في الأميين رسولا يتلو عليهم آياتي، ويدلهم على طريق الحكمة، ليس بالفظ ولا بالغليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله عز وجل على كل هبوط وصعود ونشوز».
أبو معشر هذا هو، نجيح بن عبد الرحمن السندي الهاشمي مولاهم المدني صاحب المغازي.
قال البخاري حين ذكره في "تاريخه الكبير": منكر الحديث.
لكن حسن حاله أحمد بن حنبل وقال: كان بصيرا بالمغازي.
وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه.
#226#
وقال الترمذي: وقد تكلم بعض أهل العلم في أبي معشر من قبل حفظه، واسمه نجيح مولى بني هاشم، قال محمد –يعني البخاري-: "لا أروي عنه شيئا، وقد روى عنه الناس". انتهى.
والمشهور في تفسير الكنز ما ذكره المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: {وكان تحته كنز لهما} قال: لوح من ذهب فيه مكتوب: عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب؟ عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟ عجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟
وفي رواية: عجبا لمن يوقن بالحساب كيف يعمل السيئات؟ أنا الله لا إله إلا أنا، محمد عبدي ورسولي.
قال الحسن بن [عرفة العبدي: حدثني كسر بن مروان الفلسطيني، عن أبين بن سفيان، عن أبي حازم، عن ابن][1] عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وكان تحته كنز لهما} قال: لوح من ذهب فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، عجب لمن يعرف الموت كيف يفرح، وعجب لمن يعرف النار كيف يضحك، وعجب لمن يعرف الدنيا وتحولها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجب لمن يؤمن بالقضاء والقدر كيف ينصب في طلب الرزق، وعجب لمن يؤمن بالحسنات كيف يفعل الخطايا، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
#227#
وحدث به أحمد بن عيسى المصري، حدثنا رشدين بن سعد، عن أبي الحسن الشامي، عن أبي حازم فذكره بنحوه.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا علي بن الحسين، حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا بشر بن المنذر أبو المنذر الأنصاري، عن الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش القتباني، عن يزيد بن حجيرة، عن أبي ذر رضي الله عنه يرفعه: «إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه لوح من ذهب مصمت، فيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، عجبت ممن ذكر النار ثم ضحك، عجبت ممن ذكر الموت ثم غفل، لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وحدث به أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتابه في "فضل العلم" عن محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، فذكره بنحوه.
#228#
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا ولا يصح، وفي آخره قال أنس: والذهب لا يصدأ ولا يبلى.
ورواه عمرو بن جميع، عن جويبر، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولفظه: قال: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، عجبت لمن يذكر [أن] الموت حق كيف يفرح، وعجبا لمن يذكر [أن] النار حق كيف يضحك، وعجبا لمن يذكر أن القدر حق كيف يحزن، وعجبا لمن يرى الدنيا وتصرفها بأهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها؟!
إسناده واه.
وحدث به الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في أول كتابه في "فضل العلم" فقال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عبيد الأسدي، حدثنا علي بن عبيد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه عن جده يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: قال في قوله
#229#
تعالى: {وكان تحته كنز لهما}: «إنه لوح من ذهب مكتوب فيه شهدت أن لا إله إلا الله، شهدت أن محمدا رسول الله، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، عجبت لمن تفكر في تقلب الليل والنهار ويأمن فجعاتها حالا فحالا».
وجاء من طريق يزيد بن يوسف الصنعاني –صنعاء دمشق- عن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعا بنحوه.
وروي عن الحسين بن علي رضي الله عنهما من قوله.
لكن خرجه أبو أحمد السكري في كتابه "المواعظ" من حديث علي ابن موسى بن جعفر عن آبائه عن الحسين قال: وجد لوح تحت حائط مدينة من المدائن فيه مكتوب: أنا الله لا إله إلا أنا ومحمد رسولي، عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن أيقن بالقدر كيف
#230#
يحزن، وعجبا لمن اختبر الدنيا كيف يطمئن إليها، وعجبا لمن أيقن بالحساب كيف يذنب.
وخرجه أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه "المواعظ والوصايا" من حديث زيد بن أخزم الطائي، حدثنا الحسن بن حبيب، حدثنا مسلمة بن محمد الحنفي، عن نعيم العنبري، سمعت الحسن يقول في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال: لوح من ذهب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، عجبا لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
#231#
وتابعه عبيد الله بن يوسف الجبيري، عن الحسن بن حبيب.
وجاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعا أنه كان ذهبا وفضة.
قال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن يوسف الصنعاني، عن يزيد بن جابر، عن مكحول، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وكان تحته كنز لهما}: كان ذهبا وفضة».
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن أبي حصين، عن عكرمة: {وكان تحته كنز لهما} قال: [مالا].
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن ابن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما {وكان تحته كنز لهما} قال: علم.
#232#
وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم بن محمد الختلي في كتابه "الديباج" فقال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمرو بن الجراح الغزلي الثقة الأمين الشيخ الصالح، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى {وكان تحته كنز لهما} قال: صحف علم.
تابعه ورقاء عن ابن أبي نجيح.
ورواه سلمة بن سليمان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا الربيع بن أنس {وكان تحته كنز لهما} فسمعنا أنه كان علما فورثنا ذلك العلم.
وروي نحوه عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وعطية وأبي مالك شيخ السدي.
وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو عبد الله الظهراني، أخبرنا حفص بن عمر، أخبرنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله تعالى: {وكان تحته كنز لهما} قال: ذلك العلم الذي في الكنز: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يأسف على الطلب، وعجبت لمن يرى تقلب الدنيا كيف يطمئن إليها.
وقال الختلي في "الديباج" أيضا: حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا قتيبة بن بسام، عن إسماعيل، عن ليث، عن مجاهد قال: كان الكنز لوحا من ذهب، في أحد جانبيه: لا إله إلا الله الواحد الصمد لم يلد
#233#
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وكان في الجانب الآخر: عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم هو يطمئن إليها، وعجبا لمن أيقن بالحساب غدا ثم لا يعمل.
والغلامان اليتيمان أخوان اسم أحدهما "أصرم" والآخر "صريم" واسم أبيهما "كاشح" وأمهما "دهناء" رواه أبو محمد عبد الله بن ثابت التوزي المقرئ فقال: حدثني أبي، حدثني الهذيل بن حبيب أبو صالح الدنداني، عن مقاتل بن سليمان، فذكره عن عدة من مشايخه لعطاء بن أبي رباح وعكرمة ونافع وابن سيرين والزهري وغيرهم.
#234#
$فصل فيما كان في صحف موسى من ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم$
وهذا المذكور أنه كان في الكنز جاء أنه في صحف موسى عليه السلام التي أنزلت عليه:
قال أبو الحسن علي بن الخضر بن سليمان بن سعيد السلمي في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم": أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن الشيباني يعني ابن عمر، حدثنا إبراهيم بن سنان، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو نعيم، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما كان في صحف موسى؟
قال: «كان فيها: عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح بالدنيا، وعجبت لمن أيقن بالحساب كيف يعمل السيئات، وعجبت لمن يرى زوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالجنة ولا يعمل لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وقال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، حدثني أبي، عن جدي عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فجلست إليه.
فقال: «يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وتحيته ركعتان، فقم فصلهما»
#235#
فقلت: يا رسول الله، إنك أمرتني بالصلاة فيما الصلاة؟ قال: «خير موضوع فاستقل أو استكثر..» الحديث.
وفيه: قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت صحف موسى عليه السلام؟ قال: «كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت، ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا، ثم لا يعمل» الحديث.
خرجه بطوله أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" عن الحسن بن سفيان، والحسين بن القطان –واللفظ للحسن- قالوا: حدثنا إبراهيم بن هشام فذكره.
تابعهم أحمد بن حنبل في "مسنده" وجعفر الفريابي وأحمد بن أنس بن مالك وأبو جارية أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه إبراهيم، وقد تكلم فيه.
#236#
ذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن يحيى إلا ولده وهم ثقات، انتهى.
والحديث له طرق غير ما ذكرناه:
منها ما خرجه أبو الحسن أحمد بن عمير بن جوصا في جمعه "حديث أبي إدريس الخولاني"، فقال: أخبرني محمد بن الحسن بن قتيبة، أخبرنا محمد بن أبي السري، حدثني أبي المتوكل بن عبد الرحمن، حدثني عمر بن عبيد الله التميمي، عن محمد بن عبيد الله الفزاري، عن القاسم ابن محمد الثقفي، عن عائذ الله بن عبد الله أبي إدريس الخولاني فذكره بطوله.
ورواه من حديث محمد بن مصفى، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني أبو زرعة شيخ من أهل فلسطين، عن القاسم بن محمد، عن أبي إدريس.
ورواه من حديث عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك محمد بن أيوب وغيره، عن ابن عائذ، عن أبي ذر.
#237#
وحدث به آدم بن أبي إياس في كتابه "الثواب" عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك، عن أبي عائذ، عن أبي ذر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
في هذه الرواية عن أبي عائذ، وفي التي قبلها عن ابن عائذ، وكلاهما وهم، والله أعلم، وصوابه: عن عائذ، وهو أبو إدريس الخولاني.
وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث منكر مركب من أحاديث، فالله أعلم.
#238#
ورواه من طريق إبراهيم بن عيينة، حدثنا إسماعيل بن رافع أبو رافع المدني وكان قدم علينا سنة تسع وثلاثين ومائة، عن سليمان بن موسى، عن مولى يزيد بن معاوية، عن عائذ الله –رجل من أهل الشام-، عن أبي ذر.
#239#
$[عود إلى ما أخبر به الأحبار والرهبان أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث في آخر الزمان]$
ويذكر عن أبي ذؤيب الزاهد قال: دخلت في سياحتي ديرا، فقلت للراهب القيم عليه: أعندك فائدة؟ قال: نعم يا عربي. قلت: وما هي؟ فأخرج لي ورقة فيها أربعة أسطر، وذكر أنها من الكتب المنزلة:
ففي السطر الأول منها: يقول الجبار عز وجل: أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي.
والسطر الثاني: محمد المختار عبدي ورسولي.
والسطر الثالث: أمته الحمادون، أمته الحمادون، أمته الحمادون.
والسطر الرابع: رعاة الشمس، رعاة الشمس، رعاة الشمس.
وروى أبو سلمة سيار بن حاتم العنزي البصري، عن موسى بن سعيد الراسبي بن سعيد الراسبي، عن أبي معاذ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن سلمان رضي الله عنه قال: كنت ممن ولد برامهرمز، وبها
#240#
نشأت، وأما أبي فمن "إصبهان"، وكان لأمي مال، فأسلمتني إلى الكتاب، إلى أن دنا مني فراغ كتاب الفارسية، ولم يكن في الغلمان أكبر مني ولا أطول، وكان ثم جبل فيه كهف في طريقنا، فمررت وحدي فإذا فيه رجل طويل عليه ثياب شعر، فدنوت منه.
فقال: يا غلام، تعرف عيسى ابن مريم؟ قلت: لا، ولا سمعت به.
قال: آمن به فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبرسول يأتي من بعده اسمه أحمد صلى الله عليه وسلم، أخرجه الله من غم الدنيا إلى روح الآخرة ونعيمها.
قلت: ما نعيم الآخرة؟
قال: لا يفنى.
فلما قال أنها لا تفنى رأيت الحلاوة والنور يخرج من شفتيه، فعلق فؤادي، ففارقت أصحابي وقلت: لا أذهب ولا أجيء إلا وحدي، فعلمني التوحيد والإيمان بالبعث والقيام بالصلاة، ثم قال: إذا أدركت محمدا صلى الله عليه وسلم الذي يخرج من جبال تهامة فآمن به واقرأ عليه السلام مني.
الحديث بطوله في إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، حدث به أبو إسماعيل الترمذي وإسحاق بن إبراهيم بن جميل وغيرهما، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أبي زياد القطواني، حدثنا سيار بن حاتم العنزي، فذكره.
#241#
ورواه ابن إسحاق مطولا فقال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حدثني سلمان الفارسي رضي الله عنه حديثه من فيه إلى في، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل "إصبهان" من أهل قرية منها يقال لها: "جي"، وكان أبي دهقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه لم يزل به حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قاطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة، وكانت لأبي ضيعة عظيمة، قال: فشغل في شأن له يوما فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها، فأمرني ببعض ما يريد، ثم قال: لا تحتبس عني، فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري.
فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس بحسب أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت فيهم وقلت: هذا والله خير من الذي
#242#
نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، فلم آتها، ثم قلت: لهم: أين أصل هذا الدين؟
فقالوا: بالشام.
قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن عمله كله.
قال: فلما جئته قال: أي بني، أين كنت. ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟
قال: قلت: يا أبت، مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس.
قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه.
فقلت له: كلا والله، إنه لخير من ديننا.
قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدا، ثم حبسني في بيته.
قال: وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم. فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، قال: فأخبروني بهم.
قال: فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلاهم فآذنوني بهم.
قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم، حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل هذا الدين علما؟
قالوا: الأسقف في الكنيسة.
قال: فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك؟ قال: فادخل
#243#
فدخلت معه، وكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها شيئا اكتنزه لنفسه ولم يعطه للمساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وورق، فأبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمع النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئا.
فقالوا: وما علمك بذلك؟
قلت: أنا أدلكم على كنزه.
قالوا: فدلنا عليه.
قال: فأريتهم موضعه، فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبا وورقا، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدا، فصلبوه ثم رموه بالحجارة، وجاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه.
قال: ويقول سلمان رضي الله عنه: فما رأيت رجلا –يعني: لا يصلي الخمس- أرى أنه أفضل منه أزهد في الدنيا، ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلا ونهارا منه.
قال: فأحببته حبا لم أحبه من قبله، فأقمت معه زمانا، ثم حضرته الوفاة فقلت له: يا فلان، إني كنت معك فأحببتك حبا لم أحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله عز وجل، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟
#244#
فقال: أي بني، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه وقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا، بـ"الموصل" وهو فلان، فهو على ما كنت عليه، فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب "الموصل"، فقلت له: يا فلان، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره.
فقال لي: أقم عندي.
قال: فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان، إن فلانا أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي؟ وبم تأمرني؟
قال: أي بني، والله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بـ "نصيبين"، وهو فلان، فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب "نصيبين"، فجئته فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي.
قال: فأقم عندي.
فأقمت عنده، فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبثت أن نزل به الموت، فلما حضر قلت: يا فلان، كان أوصي بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟
قال: أي بني، ما أعلم أحدا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلا بـ "عمورية"، فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، فإنه على أمرنا، فلما مات وغيب لحقت بصاحب "عمورية"، وأخبرته خبري.
#245#
فقال لي: أقم عندي.
فأقمت عند خير رجل، ثم نزل به أمر الله عز وجل، فلما حضر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ إلى من تأمر بي؟
قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض ذات حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال: ثم مات وغيب، فمكثت بـ "عمورية" ما شاء الله عز وجل أن أمكث، ثم مر بي نفر من "كلب" تجارا، فقلت لهم: تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي؟ فقالوا: نعم.
فأعطيتموها وحملوني [حتى] إذا بلغوا بي "وادي القرى" ظلموني فباعوني من رجل من يهود عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت أن تكون البلد التي وصف لي صاحبي، ولم يلحق لي في نفسي، فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من المدينة من بني قريظة، فابتاعني منه، فحملي إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فأقام بمكة ما أقام
#246#
لا أسمع له بذكر، مع ما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه.
فقال: يا فلان، قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن مجتمعون بـ "قباء" على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.
فلما سمعتها أخذتني العرواء، حتى ظننت أني ساقط على سيدي.
قال: فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ماذا تقول؟ ماذا تقول؟
فغضب [سيدي] فلكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا؟ أقبل على عملك؟ فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبت عما قال.
وقد كان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـ "قباء"، فدخلت عليه فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو جاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.
فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «كلوا» وأمسك يده فلم يأكل.
قال: فقلت في نفسي: هذه واحدة.
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا، وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهي هدية أكرمتك بها. فأكل
#247#
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه.
فقلت في نفسي: هاتان ثنتان.
ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـ "بقيع الغرقد" قد تبع جنازة –يعني: رجل من أصحابه- عليه شملتان له وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، فألقى الرداء عن ظهره صلى الله عليه وسلم، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحول»، فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "بدر" و "أحد"، قال سلمان: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كاتب يا سلمان»، فكاتبت صاحبي على
#248#
ثلاث مائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم»، فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمس عشرة ودية، والرجل بعشر، يعين الرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاث مائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي»، ففقرت، وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي، فجعلنا نقرب الودى ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتي رسول الله بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب؟»، قال: فدعيت له، فقال: «خذ هذه فأد بها ما عليك يا سلمان»، فقلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: «خذها؛ فإن الله عز وجل سيؤدي بها عنك»، فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، وعتقت فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "الخندق" حرا، ثم لم يفتني معه مشهد.
#249#
رواه عن ابن إسحاق جماعة، منهم: إبراهيم بن سعد –والسياق له- وأبو يحيى بكر بن سليمان الأسوازي، و [يحيى بن] زكريا بن أبي زائدة، وزفر بن قرة بن خالد، وزياد بن عبد الله البكائي، وسلمة بن الفضل، ويونس بن بكير.
#250#
خرجه الأئمة لابن إسحاق منهم: أحمد بن حنبل في "مسنده" والطبراني في "معجمه"، وأبو نعيم في "الحلية".
وحدث عبد الله بن عبد القدوس الرازي، عن عبيد المكتب، حدثني أبو الطفيل عامر بن واثلة، حدثني سلمان رضي الله عنه قال: كنت رجلا من أهل "جي"، وكان أهل قريتي يعبدون الخيل البلق، فكنت أعرف أنهم ليسوا على شيء، فقيل لي: إن الدين الذي تطلب إنما هو قبل المغرب، فخرجت حتى أتينا دافئ أرض الموصل، فسألت عن أعلم أهلها، فدللت على رجل في قبة أو في صومعة، فأتيته، وذكر قصة إسلامه بنحو ما تقدم.
وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه" من طريق عبد الله بن عبد القدوس هذا، وصحح إسناده.
وأنى له الصحة، وابن عبد القدوس ضعفوه.
لكن قال أبو نعيم في "الحلية": رواه الثوري عن عبيد المكتب مختصرا، ورواه السلم بن الصلت العبدي عن أبي الطفيل مطولا.
#251#
ثم ساق أبو نعيم حديثه من طريق ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثنا السلم بن الصلت العبدي، عن أبي الطفيل البكري، أن سلمان الخير حدثه قال: كنت رجلا من أهل "جي" مدينة بإصبهان، فبينا أنا إذ ألقى الله في قلبي: من خلق السموات والأرض؟ فانطلقت إلى رجل لم يكن يكلم الناس يتحرج، فسألته: أي الدين أفضل؟
فقال: ما لك ولهذا الحديث، أتريد دينا غير دين أبيك؟
فقلت: لا، ولكن أحب أن أعلم من رب السموات والأرض، فأي دين أفضل؟
قال: ما أعلم أحدا على هذا غير راهب بـ "الموصل"، قال: فذهبت إليه .. وذكر القصة بطولها.
وقد رويت من طرق، منها: ما خرجه الحاكم في "مستدركه" في "زيادات الفوائد" عن أبي العباس محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا علي بن عاصم، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن زيد بن صوحان: أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين لزيد بن صوحان أتياه ليكلم لهما سلمان أن يحدثهما حديثه كيف كان إسلامه؟ فأقبلا معه حتى لقوا سلمان وهو بالمدينة
#252#
أميرا عليها، وإذا هو على كرسي قاعد، وإذا خوص بين يديه وهو يسفه.
قالا: فسلمنا وقعدنا.
فقال له زيد: يا أبا عبد الله، إن هذين لي صديقان ولهما إخاء، وقد أحبا أن يسمعا حديثك كيف كان بدء إسلامك؟
قال: فقال سلمان رضي الله عنه: كنت [يتيما من "رامهرمز" وكان ابن دهقان "رامهرمز" يختلف إلى معلم يعلمه، فلزمته لأكون في كنفه]، وكان لي أخ أكبر [مني] وكان مستغنيا بنفسه، وكنت غلاما فقيرا، وكان –يعني: ابن الدهقان- إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه، فإذا تفرقوا خرج فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل، وكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا.
قال: فقلت له: إنك تفعل كذا وكذا، فلم لا تذهب بي معك؟
قال: أنت غلام وأخاف أن يظهر منك شيء.
قال: قلت: لا تخف.
قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة ولهم صلاح.
#253#
ويذكرون الله عز وجل ويذكرون الآخرة، ويزعمون أنا عبدة النيران وعبدة الأوثان، وأنا على غير دين.
قال: قلت: فاذهب بي معك إليهم؟
قال: لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم، وأنا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم، فيكون هلاكهم على يدي.
قال: قلت: لن يظهر مني ذلك فاستأمرهم.
فأتاهم فقال: غلام عندي يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم؟
قالوا: إن كنت تثق به.
قال: أرجو أن لا يجيء منه إلا ما أحب.
قالوا: فجىء به.
فقال لي: قد استأذنت القوم أن تجيء معي، فإن كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها، فائتني ولا يعلم بك أحد، فإن أبي إن علم بهم قتلهم.
قال: فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته، فصعد الجبل، فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم –قال علي: وأراه [قال]: وهم ستة أو سبعة- قال: وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار ويقومون الليل، ويأكلون عند السحر ما وجدوا، فقعدنا إليهم فأثنى ابن الدهقان علي خيرا، فتكلموا فحمدوا الله وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء، حتى خلصوا إلى ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام فقالوا: بعث الله تعالى عيسى عليه السلام، وولد لغير ذكر،
#254#
بعثه الله تعالى رسولا، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى، فكفر به قوم وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله، ابتلى به خلقه.
قال: وقالوا قبل ذلك: يا غلام، إن لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا إليهما تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة، لا يرضى الله بما يصنعون، وليسوا على دين.
فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف وانصرفت معه، ثم غدونا إليهم، فقالوا مثل ذلك وأحسن، ولزمتهم، فقالوا لي: إنك غلام، وإنك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع، فصل ونم، وكل واشرب.
قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه، فركب في الخيل حتى أتاهم في برطيلهم فقال: يا هؤلاء، قد جاورتموني فأحسنت جواركم، ولم تروا مني سوءا، فعمدتم إلى ابني فأفسدتموه علي، قد أجلتكم ثلاثا، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا، فالحقوا ببلادكم فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء.
قالوا: نعم، ما تعمدنا مساءتك، ولا أردنا إلا الخير.
وكف ابنه عن إتيانهم، فقلت له: اتق الله، فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وأن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران، لا يعبدون الله، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك.
قال: يا سلمان، هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بغيا عليهم، إن تبعت القوم طلبني أبي في الخيل وقد جزع من إتياني إياهم، حتى طردهم وقد أعرف أن الحق في أيديهم.
#255#
[قلت: أنت أعلم.
ثم لقيت أخي فعرضت عليه فقال: أنا مشتغل بنفسي في طلب المعيشة]، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه، فقالوا: يا سلمان، قد كنا نحذر، فكان ما رأيت، فاتق الله، واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وإن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون الله ولا يذكرونه، فلا يخدعنك [أحد] عن دينك.
قلت: ما أنا بمفارقكم.
قالوا: أنت لا تقدر أن تكون معنا، نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل [عند] السحر ما أصبنا وأنت لا تستطيع ذلك.
فقلت: لا أفارقكم.
فقالوا: أنت أعلم، قد أعلمناك حالنا، فإذا أتيت خذ مقدار حمل يكون معك حتى تأكله، فإنك لا تستطيع ما نستطيع نحن.
قال: ففعلت ولقيت أخي، فعرضت عليه [فأبى]، ثم أتيتهم [فتحملوا، فكانوا] يمشون وأمشي معهم، فرزقنا السلامة حتى
#256#
قدمنا "الموصل"، فأتينا بيعة "بالموصل"، فلما دخلوا احتفوا بهم وقالوا: أين كنتم؟
قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله، بها عبدة النيران، فطردونا [فقدمنا عليكم.
فلما كان بعد قالوا: يا سلمان، ههنا قوم في هذه الجبال هم أهل دين، وإنا نريد لقاءهم، فكن أنت ههنا مع هؤلاء، فإنهم أهل دين، وسترى منهم ما تحب.
قلت: ما أنا بمفارقكم.
قال: فخرجوا وأنا معهم، فأصبحوا بين جبال، وإذا صخرة وماء كثير في جدار، وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال، يخرج رجل رجل من مكانه، كأن الأرواح قد انتزعت منهم، حتى كثروا، فرحبوا بهم وحفوا وقالوا: أين كنتم؟ لم نركم؟
قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله، فيها عبدة نيران، وكنا نعبد الله، فطردونا].
فقالوا: ما هذا الغلام؟
فطفقوا يثنون علي، وقالوا: صحبنا من تلك البلاد، فلم نر منه إلا خيرا.
قال سلمان: فوالله إنهم لكذلك، إذ طلع عليهم رجل من كهف
#257#
جبل، [رجل طوال]، قال: فجاء حتى سلم وجلس، فحفوا به وعظموه وأصحابي الذين كنت معهم، وأحدقوا به.
فقال: أين كنتم؟
فأخبروه، فقال: ما هذا الغلام معكم؟
فأثنوا علي خيرا، وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم إياه.
فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه، وما لقوا وما صنع بهم، ثم ذكر مولد عيسى ابن مريم عليهما السلام، وأنه ولد لغير ذكر، فبعثه الله عز وجل رسولا، وأجرى على يديه إحياء الموتى، وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، فيكون طيرا بإذن الله، وأنزل عليه الإنجيل، وعلمه التوراة، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، فكفر به قوم؛ وآمن به قوم.
وذكر بعض ما لقي عيسى ابن مريم، وأنه كان عبد الله أنعم عليه، فشكر ذلك له، ورضي عنه، حتى قبضه الله عز وجل، وهو يعظهم ويقول: اتقوا الله والزموا ما جاء به عيسى، ولا تخالفوا فيخالف بكم.
ثم قال: من أراد أن يأخذ من هذا شيئا فليأخذ، فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء، فقام أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه، وقال لهم: الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا، واستوصوا بهذا الغلام خيرا.
وقال لي: يا غلام، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله وما سواه الكفر.
قال: قلت: ما أنا بمفارقك.
#258#
قال: إنك لا تستطيع أن تكون معي. إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد، ولا تقدر على الكينونة معي.
وأقبل علي أصحابه، فقالوا: يا غلام، إنك [لا] تستطيع أن تكون معه.
قلت: ما أنا بمفارقك.
قال له أصحابه: يا فلان، إن هذا غلام ونخاف عليه.
قال: فقال لي: أنت أعلم.
قلت: فإني لا أفارقك، فبكى أصحابي الأولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي.
فقال: يا غلام خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر، وخذ من الماء ما تكتفي به.
ففعلت، وتفرقوا، وذهب كل إنسان إلى مكانه الذي يكون فيه، وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل، وقال: ضع ما معك وكل واشرب وقام يصلي، فقمت خلفه أصلي.
قال: وانفتل إلي فقال: إنك لا تستطيع هذا ولكن صل ونم وكل واشرب، ففعلت، فما رأيته نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا قال لي: خذ جرتك هذه وانطلق، فخرجت معه أتبعه، حتى انتهينا إلى الصخرة وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال، واجتمعوا إلى الصخرة ينتظرون خروجه، فقعدوا وعاد في حديثه نحو المرة الأولى، فقال: الزموا هذا الدين، ولا تفارقوا
#259#
ذكر الله، واعلموا أن عيسى ابن مريم عليهما السلام كان عبد الله، أنعم الله عليهم.
ثم ذكروني فقالوا له: يا فلان، كيف وجدت هذا الغلام.
فأثنى علي وقال خيرا، فحمدوا الله عز وجل، وإذا خبز كثير وماء كثير فأخذوا وجعل الرجل يأخذ ما يكتفي به، وفعلت، فتفرقوا في تلك الجبال، ورجع إلى كهفه ورجعت معه، فلبثنا ما شاء الله يخرج في كل يوم أحد ويخرجون معه، ويحفون به ويوصيهم [بما كان يوصيهم] به.
فخرج في أحد، فلما اجتمعوا حمد الله ووعظهم، وقال مثل ما كان يقول لهم، ثم قال لهم آخر ذلك: يا هؤلاء، إنه قد كبر سني ورق عظمي واقترب أجلي، وأنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا، ولا بد لي من إتيانه، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا، فإنه رأيته لا بأس به.
قال: فجزع به القوم، فما رأيت مثل جذعهم، وقالوا: يا أبا فلان أنت كبير، وأنت وحدك، ولا نأمن أن يصيبك الشيء فتنأى عنا أحوج ما كنا إليك.
قال: لا تراجعوني لا بد من إتيانه، ولكن استوصوا بهذا الغلام خيرا، وافعلوا وافعلوا.
قال: فقلت: ما أنا بمفارقك.
فقال: يا سلمان، قد رأيت حالي وما كنت عليه، وليس هذا كذلك، أنا أمشي وأصوم والنهار وأقوم الليل ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولا غيره، وأنت لا تقدر على هذا.
#260#
قلت: ما أنا بمفارقك.
قال: أنت أعلم.
قال: فقالوا: يا أبا فلان فإنا نخاف على هذا الغلام.
قال: فهو أعلم، قد أعلمته الحال، وقد رأى ما كان قبل هذا.
قلت: لا أفارقك.
قال: فبكوا وودعوه.
وقال لهم: اتقوا الله وكونوا على ما أوصيتكم به، فإن أعش فعلي أرجع إليكم، وإن مت فإن الله حي لا يموت، فسلم عليهم وخرج وخرجت معه يمشي واتبعته يذكر الله ولا يلتفت ولا يقف على شيء حتى إذا أمسينا قال: يا سلمان، صل أنت ونم وكل واشرب، ثم قام هو يصلي (إلى أن انتهى) إلى بيت المقدس، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء إذا أمسى حتى انتهينا إلى باب المسجد، وإذا على الباب مقعد، فقال: يا عبد الله، قد ترى حالي فتصدق علي بشيء، فلم يلتفت إليه ودخل المسجد ودخلت معه، فجعل يتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها، ثم قال: يا سلمان، إني لم أنم منذ كذا وكذا ولم أجد طعم النوم، فإن أنت جعلت أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت، فإني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم.
قال: قلت فإني أفعل.
#261#
قال: فانظر إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني إذا غلبتني عيني.
فنام، فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، لأدعنه ينام حتى يشتفي من النوم.
قال: وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وأن بين يدي جنة ونارا وحسابا، ويعلمني ويذكرني نحو ما يذكر القوم يوم الأحد، حتى قال فيما يقول: يا سلمان، إن الله عز وجل سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهمة، وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول: "تهامة" ولا "محمد"، علامته أن يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه.
قال: قلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه.
قال: ولو أمرك، فإن الحق فيما يأمر به، ورضى الرحمن فيما قال.
فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعا يذكر الله، فقال لي: يا سلمان، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله، أين ما كنت جعلت لي على نفسك؟!
قلت: أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، فأحببت أن تشتفي من النوم، فحمد الله وقام فخرج وتبعته، فمر بالمقعد، فقال المقعد: يا عبد الله، دخلت فسألتك فلم تعطني، وخرجت فسألتك فلم تعطني، فقام ينظر، هل يرى أحدا، فلم يره، فدنا منه فقال له: ناولني يدك فناوله، فقال: قم بسم الله، فقام كأنه نشط من عقال صحيحا لا عيب فيه، فخلى عن يده، فانطلق ذاهبا فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه.
#262#
فقال لي المقعد: يا غلام، احمل علي ثيابي حتى أنطلق فأبشر أهلي، فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي، فخرجت في أثره أطلبه، فكلما سألت عنه قالوا: أمامك، حتى لقيني ركب من كلب، فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم على بعيره، فجعلني خلفه، حتى أتوا بي بلادهم فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار، فجعلتني في حائط لها.
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرت به فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء، ثم أتيته فوجدت عنده ناسا، وإذا أبو بكر رضي الله عنه أقرب الناس إليه فوضعته بين يديه، فقال: «ما هذا»؟
قلت: صدقة. فقال للقوم: «كلوا».
ولم يأكل، ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك، فجعلته على شيء، ثم أتيته به، فوجدت عنده ناسا، وإذا أبو بكر رضي الله عنه أقرب القوم منه فوضعته بين يديه، فقال لي: «ما هذا»؟
قلت: هدية. فقال: «بسم الله»، فأكل وأكل القوم.
قال: قلت في نفسي: هذه من آياته، كان صاحبي رجلا أعجميا لم يحسن أن يقول: "تهامة"، قال: "تهمة"، وقال: أحمد.
فدرت خلفه صلى الله عليه وسلم ففطن لي فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر فتبينته، ثم درت حتى جلست بين يديه، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: «من أنت»؟
قال: قلت: مملوك. قال: فحدثته حديثي، وحديث الرجل الذي كنت معه وما أمرني به. قال: «لمن أنت»؟
#263#
قلت: لامرأة من الأنصار، جعلتني في حائط لها. قال: «يا أبا بكر».
قال: لبيك. قال: «اشتره».
فاشتراني أبو بكر، فأعتقني، فلبثت ما شاء الله أن ألبث، ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله ما تقول في دين النصارى؟ قال: «لا خير فيهم، ولا في دينهم».
فدخلني أمر عظيم، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه، ورأيت ما رأيت، ثم رأيته أخذ بيد المقعد فأقامه الله على يديه، لا خير في هؤلاء ولا في دينهم؟!! فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله، فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علي بسلمان».
فأتى الرسول وأنا خائف، فجئت حتى قعدت بين يديه فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية، يا سلمان إن أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى، إنما كانوا مسلمين».
فقلت: يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك، فقلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه فأتركه؟ قال: نعم فاتركه، فإن الحق وما يحب الله فيما يأمرك به.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح عال في إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، ولم يخرجاه.
قلت: منعهما من تخريجه –والله أعلم- ضعف علي بن عاصم،
#264#
والانقطاع بين سماك وزيد بن صوحان، فإن سماكا لم يدركه حسبما جزم به الذهبي في "تاريخ الإسلام"، فأنا أستبعده، فسماك أدرك ثمانين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
$*[طرق حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه]:$
وجاء الحديث من طريق أخرى عن سماك مطولا بنحوه، فيما خرجه الطبراني قال: حدثنا أحمد بن داود المكي، حدثنا قيس بن حفص الدارمي، حدثنا مسلمة بن علقمة المازي، حدثنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن سلامة العجلي قال: جاء ابن أخت لي من البادية يقال له: قدامة، فقال لي: أحب أن ألقى سلمان الفارسي فأسلم عليه، قال: فخرجنا إليه –وفي رواية- فوجدناه بالمدائن، وهو يومئذ على عشرين ألفا، ووجدناه على سرير يسف خوصا، فسلمنا عليه.
فقلت: يا أبا عبد الله، هذا ابن أخت لي قد قدم علي [من] البادية فأحب أن يسلم عليك. قال: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته.
قلت: نعم إنه يحبك، قال: أحبه الله.
فتحدثنا وقلنا: يا أبا عبد الله، ألا تحدثنا عن أصلك.
#265#
قال: أما أصلي، فأنا من أهل رامهرمز.
وذكر الحديث بنحو حديث سماك عن زيد بن صحوان.
ولحديث سلمان طرق، منها:
ما رواه أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة عن أبي صالح محمد بن بركة، حدثنا الحسن بن علي القطان حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثني أبو عبيد الله التيمي عن ابن لهيعة عن أبي قبيل قال: قيل لسلمان رضي الله عنه: أخبرنا عن إسلامك، فذكر القصة بطولها ومعناها.
ومن طرقها ما قال أبو بشر إسماعيل بن عبد الله سمويه العبدي، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد، حدثني أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، يرويه عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بعض هؤلاء في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين} الآية، نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان، وكان سلمان رجلا من أهل جندقنيايور وذكر القصة بنحوها.
#266#
ورواها أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، عن أبي الحسن محمد بن محمود المروزي، حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدثنا عبد الله بن رجاء الغداني، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي قرة الكندي، عن سلمان قال: كان أبي من أبناء الأساورة، وكنت اختلفت إلى الكتاب، وكان معي غلامان إذا رجعا من الكتاب دخلا على قس، فدخلت معهما، فقال لهما: ألم أنهكما أن تأتياني بأحد؟!
قال: فكنت اختلف إليه حتى [كنت] أحب إليه منهما، فقال: يا سلمان، إذا سألك أهلك: من حبسك؟ فقل: معلمي، وإذا سألك معلمك: من حبسك؟ فقل: أهلي.
فقال لي: يا سلمان، إني أريد أن أتحول.
فقلت: أنا معك.
قال: فتحول وأتى قرية فنزلها، وكانت امرأة تختلف إليه، فلما حضر قال: يا سلمان، احتفر، قال: فاحتفرت، فاستخرجت جرة من دراهم، فقال: صبها على صدري، فصببتها، فجعل يضرب بها على صدري ويقول: ويل للقس، فمات.
قال: فنفخت في بوقهم ذلك فاجتمع القسيسون والرهبان فحضروه. قال: وهممت بالمال أن أحتمله، ثم إن الله عز وجل صرفني عنه، فلما
#267#
اجتمع القسيسون قلت: إنه قد ترك مالا، فوثب شباب من أهل القرية، فقالوا: هذا مال أبينا، كانت سريته تأتيه. فأخذوه، فلما دفن قلت: يا معشر القسيسين، دلوني على عالم أكون معه، وذكر القصة بنحوها.
وخرجها أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا أبو يزيد خالد بن النضر القرشي بالبصرة، حدثنا محمد بن المثنى، فذكرها بنحوها.
تابعه عمرو العنقزي عن إسرائيل.
ومن طرقها ما قال أبو الحسين زيد بن الحباب التميمي الكوفي، حدثني حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن سلمان رضي الله عنه قال، فذكر نحو حديث ابن عباس الذي قدمناه، وفيه: فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم من اليهود بكذا وكذا درهما، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل، يعمل فيها سلمان حتى تدرك، فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر رضي الله عنه فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غرسها؟» قالوا: عمر، فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمت من عامها.
وحدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال:
#268#
حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، أخبرنا الحسين بن واقد، فذكره بنحوه.
وسيأتي بتمامه –إن شاء الله تعالى- في ذكر الموالي.
وفي هذه الرواية تصريح بشراء النبي صلى الله عليه وسلم لسلمان، والمشهور كتابته، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أداها عنه من سأله.
وقد رويت صورة الكتابة من حديث وهب بن كثير بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن سلمان الفارسي، حدثتني أمي، عن أبي، عن أبيه، عن عبد الرحمن، عن جده سلمان رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن يكتب هذا الكتاب بإملائه: هذا ما أفادني به محمد بن عبد الله رسول الله فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي القرظي بغرس مائة نخلة وأربعين أوقية ذهبا، فقد برئ محمد بن عبد الله إلى عثمان بن الأشهل من ثمن سلمان أعتقه محمد، فليس لأحد عليه سبيل من بني قريظة، وولاؤه لمحمد وأهل بيته.
شهد على ذلك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، ومقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعويمر أبو الدرداء، وعبد الرحمن بن
#269#
عوف، وبلال مولى أبي بكر، وكتبه علي بن أبي طالب يوم الإثنين في ربيع الأول، مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
وقال محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني: حدثنا رجل، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق قال: وحدثني عاصم بن عمر، عن رجل من عبد القيس أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: حدثني من حدثه سلمان: قال سلمان رضي الله عنه إنه كان في حديثه حين ساقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صاحب عمورية قال له: إذا رأيت رجلا بكذا وكذا من أرض الشام بين غيضتين يخرج من هذه الغيضة في كل سنة مرة، ثم يخرج مثلها من العام القابل ليلة من السنة معلومة يتعرضه الناس، ويداوي الأسقام، يدعو لهم فيشفون، فأته فسله عن هذا الدين الذي تلتمس.
قال سلمان: فجئت حتى قمت مع الناس بين تينك الغيضتين، فلما كانت الليلة التي يخرج فيها من الغيضة خرج وغلبني الناس عليه، حتى دخل غيضة أخرى، وتوارى مني إلا منكبيه، فتناولته فأخذت بمنكبيه، فلم يلتفت إلي وقال: مالك؟ قلت: أسألك عن دين إبراهيم الحنيفية، فقال: إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم، قد أظلك نبي يخرج من عند هذا البيت الذي بمكة، يأتي بهذا الدين [الذي] تسأل عنه، فالحق به، ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
#370#
«لئن كنت صدقتني يا سلمان، لقد لقيت عيسى ابن مريم عليهما السلام».
وقد روي هذا عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين، حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز قال: قال سلمان، فذكره بنحوه.
والرجل الذي لم يسمه ابن إسحاق قيل هو: الحسن بن عمارة ذاك المتروك الذي كذبه شعبة وغيره، والله أعلم.
#271#
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي: حدثني محمد بن سعيد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عثمان بن سهل بن حنيف، وعبد الملك بن عيسى الثقفي، وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الثقفي، ومحمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، وغيرهم، كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة.
قال: قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك، وأنهم لما دخلوا على المقوقس قال لهم: كيف خلصتم إلي من طائفكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟!
قالوا: لصقنا بالبحر، وقد خفناه على ذلك.
قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟
قالوا: ما تبعه منا رجل واحد.
قال: ولم ذلك؟
قالوا: جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء، ولا يدين به الملك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا.
قال: فكيف صنع قومه؟
قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خالفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن كثيرة تكون عليهم الدبرة ومرة تكون لهم.
#272#
قال: ألا تخبرونني وتصدقونني إلى ماذا يدعو؟
قالوا: يدعو إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة.
قال: وما الصلاة وما الزكاة، ألهما وقت يعرف وعدد ينتهى إليه؟
قالوا: يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات، كلها لمواقيت وعدد قد سموه، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالا نصف مثقال، وكل إبل بلغت خمسا: شاة.
قال: ثم أخبروه بصدقة الأموال كلها.
قال: أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها؟
قالوا: يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد، ويحرم الزنا والربا والخمر، ولا يأكل مما ذبح لغير الله.
فقال المقوقس: هذا نبي مرسل إلى الناس كافة، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة، حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومنقطع النحور، ويوشك قومه أن يدافعوه بالرماح.
قالوا: فقلنا: لو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا معه.
قال المغيرة: فأنغض المقوقس رأسه وقال: أنتم في اللعب.
ثم قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبا.
#273#
قال: كذلك المسيح والأنبياء عليهم السلام تبعث في نسب قومها فكيف صدق حديثه؟
قال: قلنا ما يسمى إلا الأمين من صدقه.
قال: انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله؟!
قال: فمن تبعه؟ قلنا: الأحداث.
قال: هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله.
قال: فما فعلت يهود يثرب فهم أهل التوراة؟ قلنا: خالفوه فأوقع بهم فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه.
قال: هم قوم حسد حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف.
قال المغيرة: فقمنا من عنده وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد صلى الله عليه وسلم وخضعنا له، وقلنا: ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه، وقد جاء داعيا إلى منازلنا.
قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة أبي يحنس، كانوا يأتونه
#274#
بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر أحدا قط يصلي الصلوات الخمس أشد اجتهادا منه.
فأتيته فقلت: أخبرني هل بقي أحد من الأنبياء؟
قال: نعم، وهو آخر الأنبياء.
ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد، وهو نبي مرسل، قد أمرنا عيسى ابن مريم باتباعه، وهو النبي الأمي العربي، أسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، ليس بالأبيض ولا بالآدم، يعفي شعره، ويلبس ما غلظ من الثياب، ويجتزئ بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه، ولا يبالي من لاقى يباشر القتال بنفسه، ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم وأولادهم، [هم] له أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض حرم ويأتي إلى حرم، يهاجر إلى أرض سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم عليه السلام.
قال المغيرة: فقلت له: زدني في صفته.
قال: يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويخص مما لا يخص به الأنبياء قبله، كان النبي يبعث إلى قومه وبعث هو للناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبله مسددا عليهم، لا يصلون إلا في الكنائس والبيع.
#275#
قال المغيرة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك، وذكر الحديث، وفيه أن المغيرة جاء، فأسلم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع ذلك، فأعجبه أن يسمع أصحابه، قال: فكنت أحدثهم بذلك.
وقال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: قال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم، أنا.
فقال: أظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟
قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة رضي الله عنه: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟
قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبي قحافة.
قال: فخرجت حتى دخلت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل؟
قال: نعم، فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه، فإنه يدعو إلى الحق.
فأخبره طلحة بما قال الراهب.
فخرج أبو بكر بطلحة، فدخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم طلحة رضي الله عنه وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال الراهب، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
#276#
فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله أخذهما نوفل بن خويلد ابن العدوية فشدهما في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تميم، وكان نوفل بن خويلد يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة رضي الله عنهما القرينين.
وجاء من حديث أبي سعيد عبد الله بن شبيب الربعي قال: حدثني محمد بن عمر بن سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، حدثتني أمي أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير، عن أبيه قال: سمعت أبي جبير بن مطعم يقول: لما بعث الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم، وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام، فلما كنت ببصرى أتتني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم.
قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم.
فأخذوا بيدي فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور، فقالوا لي: أنظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟
فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته.
#277#
فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير وإذا فيه تماثيل أكبر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى من صورته؟
فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا لي: انظر هل ترى صفته؟ قلت: نعم.
قالوا: هو هذا، وأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.
قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟ قلت: نعم.
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده.
خرجه الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله في "دلائل النبوة".
وخرجه البخاري في "تاريخه الكبير" عن محمد غير منسوب، عن محمد بن عمر بن سعيد المذكور بنحوه، وفي آخره قال –يعني: الذي
#278#
أراه الصور –لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي.
وقال أبو بكر محمد بن حسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا عبد الله بن شبيب البصري، حدثنا محمد بن عمر الجبيري –من ولد جبير بن مطعم- حدثتني أم عثمان بنت سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيها، عن أبيه، فذكره.
ورواه الحافظ أبو عبد الله بن منده، عن محمد بن عبد الله بن أبي رجاء، عن موسى بن هارون.
وحدث به الطبراني عن موسى بن هارون، حدثنا محمد بن إدريس بن عمر وراق الحميدي، حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم من –ولد جبير بن مطعم- حدثتني أم عثمان بنت سعيد –وهي جدتي- عن أبيها فذكره.
#279#
وقال الطبراني: أخبرنا المقدام بن داود، وحدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عامر بن يحيى، عن علي بن رباح، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنت أكره أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ظننت أنهم سيقتلونه خرجت، فلحقت بدير من الديارات، فاجتمعت برئيس الدير، فقصصت عليه أمري.
فقال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم,
قال: وتعرف شبهه لو رأيته مصورا؟ قلت: نعم.
قال: فأراه صورا مغطاة، فقلت: ما رأيت شيئا أشبه بشي من هذه الصورة به؛ كأنه طوله وجسمه وبعد ما بين منكبيه.
فقال: فتخاف أن يقتلوه؟ قلت: أظنهم قد فرغوا منه.
قال: لا والله لا يقتلوه وليقتلن من يريد قتله وإنه لنبي، وليظهرنه الله، وذكر بقية الحديث.
وقال إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج": حدثنا عمر بن إبراهيم بن خالد، أخبرنا نجيح أبو معشر، عن محمد بن كعب، عن
#280#
دحية بن خليفة قال: وجهني النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم بكتابه وهو بدمشق، فناولته كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقبل خاتمه، ووضعه تحت شيء كان عليه قاعدا، ثم نادى فاجتمع البطارقة وقومه وقام على وسائد بنيت له، وكذلك كانت فارس والروم، ولم يكن لها منابر، ثم خطب أصحابه، فقال: هذا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشرنا به المسيح من ولد إسماعيل بن إبراهيم.
قال: فنخروا نخرة.
قال: فأومأ بيده أن اسكتوا، ثم قال: إنما جربتكم كيف نصرتكم للنصرانية.
قال: فبعثه إلي من الغد سرا، فأدخلني بيتا عظيما فيه ثلثمائة وثلاث عشرة صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين، قال: انظر أين صاحبك من هؤلاء؟
قال: فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينطق، قلت: هذا.
قال: صدقت.
فقال: صورة من هذا عن يمينه؟ قلت: رجل من قومه يقال له أبو بكر الصديق.
قال: فمن ذا عن يساره؟ قلت: رجل من قومه يقال له عمر بن الخطاب.
قال: أما إنا نجد في الكتاب أن بصاحبيه هذين يتم الله هذا الدين.
قال: فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال: «صدق، بأبي بكر وعمر يتم الله هذا الدين ويفتح».
#281#
وقال موسى بن هارون: حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن عبد الله بن شداد، عن دحية الكلبي رضي الله عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم بكتاب، فاستأذنت قلت: استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى قيصر، فقيل إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزعوا لذلك، فقال: أدخلوه، فأدخلني عليه وعنده بطارقة، فأعطيته الكتاب، فقرئ عليه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم، فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط الشعر، فقال: لا تقرأ الكتاب اليوم؛ لأنه بدأ بنفسه وكتب "صاحب الروم" ولم يكتب "ملك الروم".
قال: فقرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم قيصر فخرجوا من عنده، ثم بعث إلي، فدخلت عليه، فسألني فأخبرته، فبعث إلى الأسقف، فدخل عليه وكان صاحب أمرهم يصدرون عن قوله وعن رأيه.
فلما قرأ الكتاب قال: قال الأسقف: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر.
قال قيصر: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.
قال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، إن فعلت ذهب ملكي.
تابعه أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة، ومطين،
#282#
عن يحيى بن عبد الحميد الحماني بنحوه.
ورواه الحسن بن سفيان وعبد الرحمن بن موسى السباك، عن إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن جده، عن سلمة.
ورواه أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده، عن محمد بن عمرو بن البختري عن الحنيني محمد بن الحسين، عن مالك بن إسماعيل أبي غسان النهدي، عن يحيى بن سلمة أن في رواية السباك زيادة فيها كتاب هرقل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه.
وإسناده واه.
وقال أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن السري ابن أخي هناد بن السري، حدثنا المنذر بن محمد بن المنذر القابوسي، حدثني أبي، حدثنا يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ الشجري المدني، حدثنا محمد بن إسحاق قال: وأخبرني
#283#
خالد بن يسار، عن رجل من أهل الشام قال: لما قدم على هرقل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أشراف الروم، فقال: يا معشر الروم، إني قد جاءني من هذا الرجل كتاب يدعوني إلى ما هو عليه، فهلموا فلندخل في دينه تسلم لنا دنيانا وآخرتنا.
قالوا: لا نكون تحت العرب أبدا.
قال: فإذا أبيتم فلنعطه الجزية فأكسر عني شوكته وأستريح من مؤنته وحربه.
قالوا: فنحن نعطي الصغار، ونحن أكثر الناس عددا وعدة، وأوسعه بلدا!! لا والله، لا يكون ذلك أبدا.
قال: فإذا أبيتم علي هذا، فهلموا فلنقاسمه أرضنا فنعطيه أرض سورية وأرض الشام.
قالوا: قد عرفت أن أرض سورية خير بلاد الشام والروم، وهي أرض الشام، لا والله لا نفعل ذلك أبدا.
قال: أما والله ليأتين عليكم ما تكرهون، ترون أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم في مدينتكم القسطنطينية، ثم قال لغلام له: ائتني ببغلتي.
فأتاه بها فركبها وركضها، حتى إذا مر بالدرب حول وجهه، فنظر إلى أرض الشام، فقال: عليك السلام يا أرض سورية، تسليم الوداع، ثم صار حتى دخل القسطنطينية، فكان آخر العهد –يعني به وأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله في قصبة من ذهب وأمسكها عنده، ثم كتب إلى أحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هرقل أمير الروم الذي يؤمن بعيسى ابن مريم عليه السلام –يعني وبالذي يؤمن به عيسى ابن مريم- سلام عليك يا رسول الله، فإنه قد جاءني كتابك مع رسولك وإني أشهد أنك رسول الله، وإنا نجد عندنا في الإنجيل بشر بك عيسى ابن مريم، وإني دعوت الروم
#284#
ليؤمنوا بك فأبوا، ولو أطاعوني لكان خيرا لهم، ولوددت أني عندك فأغسل قدميك وأخدمك أيام حياتي.
فلما رجع دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هرقل، وما قال وفعل، قرأ كتابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثبت ملكهم».
والحديث له طرق أخرى، وقد ذكرنا منها طريقا عند ذكر خاتم النبوة من هذا الكتاب.
وفي "الصحيح"من حديث ابن عباس عن أبي سفيان بن حرب رضي الله عنهم حديث هرقل بطوله، وفيه قال هرقل بعد ذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الحديث:
قال: وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه .. .. الحديث.
قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عبد الله بن شداد، قال: قال أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه: إن أول يوم رغبت فيه في محمد صلى الله عليه وسلم ليوم قال قيصر في ملكه وسلطانه وحضرته ما قال –يعني قوله: لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قدميه.
قال أبو سفيان: وحضرته يتحادر جبينه عرقا من كرب الصحيفة التي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
#285#
قال أبو سفيان: فما زلت مرعوبا من محمد صلى الله عليه وسلم حتى أسلمت، وفي رسالته: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلى آخر الآية، {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} إلى آخر الآية، {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى آخر الآية.
وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": حدثنا محمد بن إسحاق مولى ثقيف، حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم، حدثنا علي بن بحر، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا حميد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ينطلق بصحيفتي هذه إلى قيصر وله الجنة؟».
فقال رجل من القوم: وإن لم أقتل؟
قال: «وإن لم تقتل».
فانطلق الرجل فوافق قيصر وهو يأتي بيت المقدس، قد جعل له بساط لا يمشي عليه غيره، فرمى بالكتاب والبساط وتنحى، فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه، فقال لرأس الجاثليق: اقرأه.
فقال: ما علمي في هذا الكتاب إلا كعلمك، فنادى قيصر: من صاحب الكتاب، وهو آمن؟
فجاء الرجل، فقال: إذا أنا قدمت فأتني، فلما قدم أمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديا: "ألا إن قيصر قد اتبع محمدا وترك
#286#
النصرانية"، فأقبل جنده حتى تسلحوا وطافوا بقصره، فقال لرسول [رسول] الله صلى الله عليه وسلم قد ترى أني خائف على مملكتي، ثم أمر مناديا فنادى: ألا إن قيصر قد رضي عنكم، وإنما اختبركم لينظر كيف صبركم على دينكم، فانصرفوا.
وكتب قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث معه بدنانير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذب عدو الله، ليس بمسلم وهو على النصرانية».
وقال سنيد بن داود المصيصي الحافظ في "تفسيره" وهو تفسير كبير كله بالأسانيد: حدثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فقرأ كتابه، وجمع الروم فأبوا عليه.
قال: فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفتهم الكبير وتمارض، فأرسل إليه فأبى، ثم أرسل إليه فأبى، ثم أرسل إليه فأبى، ثلاث مرات، فركب إليه، فقال له: أليس قد عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
#287#
قال: بلى، أليس قد رأيت ما ركبوا مني، فأنت أطوع فيهم مني، فتعال فادعهم.
قال: وتأذن لي في ذلك؟
قال: نعم.
قال: اذهب هو ذاك.
قال: فجاء بسواد إلى كنيستهم العظمى، فلما رأوه خروا له سجدا، الملك وغيره، فقام في المذبح، فقال: يا أبناء الموتى، هذا النبي الذي بشر به عيسى، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه.
قال: وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكليتين حتى مات.
وقد جاءت تسمية هذا الشهيد رحمة الله عليه:
قال الذهبي في كتابه "تجريد أسماء الصحابة": ضغاطر الأسقف الرومي، أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسلية فقتلوه.
قلت: وقصته هي ما قال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري: حدثنا أبو نعيم محمد بن عبد الرحمن الأديب المروذي، حدثنا عبدان بن محمد، حدثنا عمار، حدثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق وحدثني بعض أهل العلم: أن هرقل قال لدحية بن خليفة
#288#
الكلبي رضي الله عنه حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وإنه الذي كنا ننتظره، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، لولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف، فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله أعظم في الروم مني، وأجوز قولا عندهم، وانظر ما يقول.
فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه، فقال له ضغاطر: صاحبك والله نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتابنا باسمه، ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سوداء، ولبس ثيابا بيضاء، ثم أخذ عصاه فخرج على الرومية وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم، إنه قد جاءنا كتاب من أحمد صلى الله عليه وسلم يدعونا فيه إلى الله عز وجل، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه حتى قتلوه، فلما رجع دحية إلى هرقل، فأخبره الخبر، قال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا، فضغاطر كان والله أعظم عندهم وأجوز قولا مني.
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا بكر بن سوادة، عن عبيد الله بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يذهب بكتابي إلى طاغية الروم وله الجنة؟».
فقام رجل من الأنصار يدعى عبيد الله بن عبد الخالق، فقال:
#289#
أنا أذهب به إلى الجنة وإن هلكت دون ذلك؟ قال: «نعم، لك الجنة إن بلغت وإن قتلت وإن هلكت، فقد أوجب الله تعالى لك الجنة».
فانطلق بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الطاغي، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له فدخل عليه فعرف طاغية الروم أنه قد جاء بالحق من عند نبي مرسل، ثم عرض عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الروم عنده، ثم عرضه عليهم، فكرهوا ما جاء به، وأمن به رجل منهم، فقتل عند إيمانه، ثم إن الرجل رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالذي كان من قبل الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «يبعثه الله تبارك وتعالى أمة وحده» لذلك المقتول.
ورواه يحيى بن عبد الله البابلتي: حدثنا أيوب بن نهيك، سمعت عطاء بن أبي رباح، سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يذهب بكتابي إلى طاغية الروم وله الجنة؟» فقام رجل من الأنصار يقال له: عبيد الله بن عبد الخالق، فقال: أنا أذهب به، وذكر الحديث.
وخرج أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ من حديث عباد بن يزيد، عن موسى بن عقبة أن هشام بن العاص ونعيم بن عبد الله ورجلا آخر قد سماه بعثوا به إلى ملك الروم في زمن أبي بكر رضي الله عنه قال: فدخلنا على جبلة بن الأيهم وهو بالغوطة، وإذا عليه ثياب سود، وإذا كل شيء
#290#
حوله أسود، فقال: لبست هذا نذرا ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها.
قلنا: [فاتئد حتى تمنع مجلسك] فوالله لنأخذنه منك، وملك الروم الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال: فأنتم إذا السمراء؟ قلنا: السمراء!
قال: لستم بهم، قلنا: ومن هم؟
قال: هم الذين يصومون النهار ويقومون الليل. قالوا: نحن والله هم.
قال: فكيف صومكم؟ قال: فوصفنا له صومنا.
قال: فكيف صلاتكم؟ قال: فوصفنا له صلاتنا.
قال: فالله يعلم، لقد غشيه سواد حتى صار وجهه كأنه قطعة طابق، وقال: قوموا.
فأمر بنا إلى الملك، فانطلقنا فلقينا الرسول بباب المدينة، فقال: إن شئتم أتيتكم ببغال، وإن شئتم أتيتكم ببراذين.
فقلنا: لا والله لا ندخل عليه إلا كما نحن.
قال: فأرسل إليه أنهم يأبون.
قال: فأرسل أن خل سبيلهم.
#291#
قال: فدخلنا متعممين متقلدين السيوف على الرواحل فلما كنا بباب الملك، إذا هو في غرفة له عالية، فنظر إلينا، قال: فرفعنا رؤوسنا، فقلنا: لا إله إلا الله، قال: فالله يعلم لنفضت الغرفة كلها، حتى كأنها عذق نفضه الريح.
قال: فأرسل إلينا أن هذا ليس لكم؛ أن تجهروا بدينكم علي، وأرسل أن ادخلوا، فدخلوا، فإذا هو على فراش إلى السقف، وإذا عليه ثياب حمر، وإذا كل شيء عنده أحمر، وإذا عنده بطارقة الروم، وإذا هو يريد أن يكلمنا برسول، فقلنا: لا والله لا نكلمه برسول، وإنما بعثنا إلى الملك، فإن كنت تحب أن نكلمك فأذن لنا أن نكلمك، فلما دخلنا عليه ضحك، وإذا هو رجل فصيح يحسن العربية، فقلنا: لا إله إلا الله، فالله يعلم لقد نفض السقف حتى رفع رأسه هو وأصحابه.
فقال: ما أعظم كلامكم عندكم؟ قلنا: هذه الكلمة.
قال: التي قلتموها قبل؟ قلنا: نعم.
قال: فإذا قلتموها في بلاد عدوكم [نقضت سقوفهم؟ قلنا: لا.
قال: فإذا قلتموها في بلادكم] نفضت سقوفكم؟ قلنا: لا، وما رأيناها فعلت هذا، وما هو إلا شيء غبرت به.
قال: ما أحسن الصدق! فما تقولون إذا افتتحتم المدائن؟ قلنا:
#292#
نقول: لا إله إلا الله والله أكبر.
قال: تقولون: لا إله إلا الله ليس معه شيء والله أكبر، أكبر من كل شيء. قلنا: نعم.
قال: فما منعكم أن تحيوني بتحية نبيكم؟ قلنا: إن تحية نبينا لا تحل لك، وتحيتك لا تحل لنا فنحييك بها.
قال: وما تحيتكم؟ قلنا: تحية أهل الجنة.
قال: وبها كنتم تحيون نبيكم؟ قلنا: نعم.
قال: وبها كان يحييكم؟ قلنا: نعم.
قال: فمن كان يورث منكم؟ قلنا: من كان أقرب قرابة.
قال: فكذلك ملوككم؟ قلنا: نعم.
قال: فأمر لنا بنزل كثير ومنزل حسن، فمكثنا ثلاثا، ثم أرسل إلينا فدخلنا عليه وليس عنده أحد، فاستعادنا كلامنا فأعدنا عليه، فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار، ففتح منها بابا فاستخرج منها خرقة حرير سوداء، فيها صورة بيضاء، فإذا رجل طوال أكثر الناس شعرا.
فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.
قال: هذا آدم عليه السلام.
ثم أعاده وفتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم، له شعر كشعر القبط، أعظم
#293#
الناس إليتين، أحمر العينين.
فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.
قال: هذا نوح عليه السلام.
ثم أعاده وفتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء.
قال: فقلنا: النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
قال: هذا والله محمد رسول الله، فالله يعلم أنه قام ثم قعد.
قال: آلله بدينكم إنه نبيكم؟ قلنا: آلله بديننا إنه نبينا، كأنما ننظر إليه حيا.
ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب ولكني عجلته؛ لأنظر ما عندكم، ثم أعاده.
وفتح بابا آخر، فاستخرج خرقة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل مقلص الشفتين، غائر العينين، متراكم الأسنان، كث اللحية عابس.
فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.
قال: هذا موسى عليه السلام إلى جنبه رجل يشبهه غير أن في عينيه قبلا وفي رأسه استدارة، فقال: هذا هارون عليه السلام.
ثم رفعها وفتح بابا آخر، فاستخرج منه خرقة سوداء فيها صورة حمراء أو بيضاء، وإذا رجل مربوع أشبه من خلف بامرأة عجيزة وخلقا، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال هذا داود عليه السلام.
#294#
ثم عاد وفتح بابا آخر، واستخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء وإذا رجل راكب على فرس طويل الرجلين، كل شيء منه جناح يحف الريح، فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا دانيال عليه السلام.
ثم عاد وفتح بابا آخر، أخرج منه حريرة أو خرقة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا صورة شاب يعلوه صفرة، صلت الجبين حسن اللحية، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال هذا عيسى ابن مريم عليهما السلام.
ثم أعاده فأمر بالربعة فرفعت، فقلنا: هذه صورة نبينا قد عرفناها، فإنا قد رأيناها، فهذه الصورة التي لم نرها كيف نعرف أنها هي؟ قال: إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه صورة نبي نبي، فأخرج إليه صورهم في خرق الحرير من الجنة، فأصابها ذو القرنين في خزانة آدم في مغرب الشمس، فلما كان دانيال صورها هذه الصور، فهي بأعيانها، فوالله لو تطيب نفسي في الخروج عن ملكي [ما باليت] أن أكون عبدا لأشدكم ملكا، ولكن عسى أن تطيب نفسي، قال: فأحسن جائزتنا وأخرجنا.
#295#
ورواه أبو موسى المديني بطوله في كتابه "طوالات الأخبار" فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم التاجر –إذنا إن لم أسمعه- أخبرنا إبراهيم بن الهيثم بن المهلب، حدثنا عبد العزيز بن إدريس، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن هشام بن العاص رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه ورجلا آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم يدعوه إلى الإسلام.
فخرجنا حتى قدمنا الغوطة، فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، وإذا هو على سرير، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا: والله لن نكلم رسوله، وإنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لم نكلمه برسول.
فرجع إليه رسوله فأخبره ذلك، فأذن لنا، فقال: تكلموا، وكلمه هشام ودعاه إلى الإسلام، وإذا عليه ثياب سواد.
فقال له هشام: ما هذه التي عليك؟
قال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كله.
قلنا: مجلسك هذا، فوالله لنأخذنه منك وملك الملك الأعظم إن شاء الله تعالى، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون النهار ويفطرون بالليل،
#296#
فكيف صومكم؟ فأخبرناه فعلا وجهه سواد، وقال: قوموا، وبعث معنا رسولا إلى الملك.
فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة، فقال الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال.
قلنا: والله لا ندخل إلا عليها.
فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون، فدخلنا على رواحلنا مقلدين سيوفنا، حتى انتهينا إلى غرفة له، فأنخنا في أصلها، وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر، والله يعلم لقد تنقضت الغرفة حتى صارت كأنها عزق تصفقه الرياح.
فأرسل إلينا وقال: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل أن ادخلوا، فدخلنا عليه، وهو على فراش له، وعنده بطارقته من الروم، وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة، وعليه ثياب من الحمرة، فدنونا منه، فضحك وقال: ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم! وإذا عنده رجل فصيح بالعربية، كثير الكلام.
فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيا بها لا تحل لنا أن نحييك بها.
قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك.
قال: فكيف تحيون ملككم؟ قلنا: بها.
قال: فكيف يرد عليكم؟ قلنا: بها.
قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فما
#297#
تكلمناها –والله أعلم- لقد تنقضت الغرفة رأسه إليها.
قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حين تنقضت الغرفة كلما قلتموها في بيوتكم تنقض بيوتكم عليكم؟ قلنا: لا، ما رأينا فعلت هذا قط إلا عندك.
قال: وددت أنكم كلما قلتم تنقض بيوتكم عليكم أو كل شيء لكم وإني خرجت من نصف ملكي. قلنا: لم؟
قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حيل الناس.
ثم سألنا عما أراد فأخبرناه، ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا، فقمنا، فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير، فأقمنا ثلاثا، فأرسل إلينا ليلا، فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه، ثم جاء بشيء كالربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار، عليها أبواب ففتح بيتا وقفلا، فاستخرج حريرة سوداء فنشرها، فإذا فيها صورة حمراء، وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الإليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليس له لحية، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله تعالى، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعرا.
ثم فتح لنا بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل له شعر كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا نوح عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، شارع الأنف،
#298#
أبيض اللحية، كأنه يتبسم، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إبراهيم عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وبكينا، قال: فالله يعلم أنه قام قائما ثم جلس، وقال: آلله بدينكم، إنه هو؟ قلنا: نعم آلله إنه لهو، كأنما ننظر إليه، فأمسك ساعة ينظر إلينا، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت، ولكني عجلته لكم؛ لأنظر ما عندكم.
ثم عاد ففتح بابا آخر، واستخرج منه حريرة سوداء، فإذا فيها صورة أدماء سحماء، وإذا رجل جعد قطط، غائر العينين، حديد النظر عابس، متراكب الأسنان، مقلص الشفتين، كأنه غضبان، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا موسى بن عمران عليه السلام وإلى جانبه صورة تشبهه، إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين، في عينه قبل، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا هارون بن عمران عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، واستخرج حريرة بيضاء، وإذ فيها صورة رجل آدم سبط ربعه، كأنه غضبان، حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا لوط عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة، أجنأ، خفيف العارضين، حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا، قلنا: لا، قال: هذا إسحاق عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء فيها صورة تشبه صورة إسحاق، إلا أن على شفته السفلى خالا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا يعقوب عليه السلام.
#299#
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء، فيها صورة رجل أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه النور، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا إسماعيل جد نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة، كأنها صورة آدم عليه السلام كأن وجهه الشمس، قال: هل تعرفون هذا؟ ، قلنا: لا، قال: هذا يوسف عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر، فاستخرج حريرة فيها صورة رجل آخر حمش الساقين، أخفش العينين، ضخم البطن، ريعة، متقلد سيفا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا داود عليه السلام.
ثم طواها، فاستخرج حريرة بيضاء، فيها صورة رجل ضخم الإليتين، طويل الرجلين، راكب على فرس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا سليمان بن داود عليهما السلام.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، وإذا رجل شاب، شديد سواد اللحية، كثير الشعر، حسن العينين، حسن الوجه، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا، قال: هذا عيسى ابن مريم عليهما السلام.
قلنا: من أين لك هذه الصور؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنا رأينا صورة نبينا صلى الله عليه وسلم مثله، فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، وكان في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعت إلى دانيال عليه السلام، يعني فصورها دانيال في خرق من حرير –فهذه بأعيانها الصور التي صورها دانيال، ثم قال: أما
#300#
والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإن كنت عبدا لشركم ملكة حتى أموت، ثم أجازنا أحسن إجازة وسرحنا.
فلما قدمنا على أبي بكر رضي الله عنه حدثناه بما رأينا وبما قال لنا وبما أخبرناه، فبكى أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل.
ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل}.
حديث هشام حسن غريب، لا أعرفه إلا من الوجه الذي ذكرته.
وقد رواه أبو بكر القفال الشافعي، عن الحسن صاحب الشاشي، عن إبراهيم بن الهيثم، وقال: عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، وهشام هو أخو عمرو بن العاص، وكان أصغر من عمرو رضي الله عنهما قاله أبو موسى المديني.
وخرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن شرحبيل بن مسلم، عن أبي أمامة الباهلي، عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة –يعني: دمشق- فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني، فدخلنا عليه، وإذا هو على سرير، فأرسل إلينا برسول نكلمه، فقلنا، والله لا نكلم رسولا، إنما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول.
#301#
فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا، فقال: تكلموا، فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام، وإذا عليه ثياب سواد.
فقال له هشام: ما هذه التي عليك؟
فقال: لبستها وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام.
قلنا: ومجلسك هذا، فوالله لنأخذنه منك، ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن شاء الله، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. وذكر الحديث بطوله.
وخرجه الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" بنحو ما تقدم، وزاد فيه صفة لوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ويوسف، وقال في آخره: فلما أتينا أبا بكر رضي الله عنه حدثناه بما رأيناه وبما قال لنا وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: مسكين، لو أراد الله عز وجل به خيرا لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
وحدث به الزبير بن بكار، فقال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه عن جده، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر في نفر من الصحابة إلى ملك الروم لأدعوه إلى الإسلام، فخرجنا نسير على رواحلنا حتى قدمنا دمشق، فإذا على الشام لهرقل جبلة، فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فلما نظر إلينا كره مكاننا، وأمر بنا فأجلسنا ناحية، وإذا هو جالس على فرش له مع
#302#
السقف، وأرسل إلينا رسولا يكلمنا ويبلغه عنا، فقلنا: والله لا نكلمه برسول أبدا.
فانطلق الرسول فأعلمه ذلك، فنزل عن تلك الفرش إلى فرش دونها، فأذن لنا، فدنونا منه، فدعوناه إلى الله وإلى الإسلام، فلم يجب إلى خير، وإذا عليه ثياب سود، فقلنا: ما هذه المسوح؟ قال: لبستها نذرا لا أنزعها حتى أخرجكم من بلادكم.
قلنا له: تبا لك، لا تعجل، أتمنع منا مجلسك هذا، فوالله لنأخذنه وملك الملك الأعظم، خبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال: أنتم إذن السمراء. قلنا: وما السمراء؟
قال: لستم بهم. قلنا: ومن هم؟
قال: قوم يقومون الليل ويصومون النهار. قلنا: فنحن والله نصوم النهار، ونقوم الليل.
قال: فيكف صلاتكم؟ فوصفنا له. قال: فكيف صومكم؟ فأخبرناه وسؤناه به، وسألنا عن أشياء فأخبرناه، فيعلم الله لعلا وجهه سواد حتى كأنه مسح أسود، فانتهرنا وقال لنا: قوموا.
فخرجنا وبعث معنا أدلاء إلى ملك الروم، فسرنا، فلما دنونا من القسطنطينية قالت الرسل الذين معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فأقيموا حتى نأتيكم ببغال وبراذين.
قلنا: والله لا ندخل إلا على دوابنا.
فأرسلوا إليه يعلمونه، فأرسل أن خلوا عنهم، فتقلدنا سيوفنا، وركبنا رواحلنا فاستشرف أهل القسطنطينية لنا وتعجبوا، فلما دنونا إلى الملك في غرفة له، ومعه بطارقة الروم، فلما انتهينا إلى أصل الغرفة أنخنا ونزلنا وقلنا: لا إله إلا الله، فيعلم الله لنقضت الغرفة حتى كأنها عذق نخلة
#303#
تصفقها الرياح، فإذا رسول يسعى إلينا يقول: ليس لكم أن تجهروا بدينكم على بابي.
فصعدنا، فإذا رجل شاب قد وخطه الشيب، وإذا هو فصيح بالعربية، وعليه ثياب حمر، وكل شيء في البيت أحمر، فدخلنا ولم نسلم، فتبسم، وقال: ما منعكم أن تحيوني بتحيتكم؟ قلنا: إنها لا تحل لكم.
قال: فكيف هي؟ قلنا: السلام عليكم .. وذكر الحديث بنحو ما قبله، وقصة الربعة ذات البيوت، وفيه: فاستخرج صورة بيضاء، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما ننظر إليه حيا.
فقال: أتدرون من هذا؟ قلنا: هذه صورة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فقال: آلله بدينكم إنه لهو؟ قلنا: نعم، آلله بديننا إنه لهو هو،
فوثب قائما فلبس مليا قائما، ثم جلس مطرقا طويلا، ثم أقبل علينا، فقال: أما إنه في آخر البيوت، ولكني عجلته لأخبركم، وأنظر ما عندكم، وذكر بقية صور الأنبياء إلى أن قال: قلنا: أخبرنا عن هذه الصور كيف صارت عندك هكذا؟ فقد علمنا أنهم كانوا كذا؛ لأنا رأينا صورة نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي؟!
قال: إن آدم سأل ربه عز وجل أن يريه أنبياء ولده، فأنزل الله عز وجل إليه صورهم، فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم، من مغرب الشمس، فصورها دانيال في خرق الحرير، فلم نزل نتوارثها ملكا بعد ملك، حتى وصلت إلي، فهذه هي بعينها.
فدعوناه إلى الإسلام، فقال: أما والله لوددت أن نفسي سخت بالخروج من ملكي واتباعكم وأني مملوك لأسوأ رجل منكم خلقا وأشده ملكة، ولكن نفسي لا تسخو بذلك. فوصلنا وأجازنا وأحسن إلينا وأذن لنا، فانصرفنا.
#304#
ورواه بطوله أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم، فقال: حدثنا عبد الكريم بن عبد الله، حدثنا علي بن الحسن، حدثنا عبد الله، حدثنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بعث الجنود نحو الشام -يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة- فقال: أوصيكم بتقوى الله، وأمرهم بأمور، وذكر الحديث.
وفيه: فلما وصلوا إلى الشام أرسل رسولا إلى هرقل، وهو في مدينة أنطاكية، فلما وصل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنطاكية، وهم على رواحلهم وهرقل ينظر إليهم من منظرة، والقوم ينظرون إليهم وسط مدينة أنطاكية، إلى أن أناخوا رواحلهم على باب الملك، حذاء المنظرة، ثم رفعوا أصواتهم وقالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، قال: فانتقض المنظر حتى سمع الناس صوت نقضه، فأرسل إليهم هرقل: إنه ليس لكم أن تظهروا دينكم على بابي، فإن كنتم رسلا فادخلوا.
قال: فدخل إليه المسلمون، فإذا هو على سرير من ذهب مفروش بالديباج الأحمر، وجميع ما في مجلسه مفروش بالحمرة، وعليه ثياب منسوجة، وعلى رأسه تاج من ذهب يلمع من الجوهر، وإذا هو يكبر بالعربية ليس بالفصيح.
قال: فوقف المسلمون بين يديه ولم يسلموا عليه، فتبسم، ثم قال: ما منعكم أن [تحيوني بما] تحيون به ملوككم.
وكان هشام بن العاص في القوم، فقال: أيها الرجل، إن تحيتنا إنما تجوز بيننا وليس يجوز لنا أن نحييك بها.
#305#
قال هرقل: ما تحيتكم؟ فقال هشام: تحيتنا السلام.
فقال هرقل: بذلك تحيون ملوككم؟ قال: نعم، بذلك نحيي ملوكنا.
فقال هرقل: كيف يرث الميت منكم؟ فقال هشام: يرث أقرب الناس إليه.
فقال: كيف صومكم وصلاتكم؟ فوصف له هشام بن العاص ذلك.
فقال هرقل: فما أعظم كلامكم؟ فقال هشام: أعظم كلامنا: لا إله إلا الله، والله أكبر.
قال: فانتقضت القبة من سقفها، حتى فزع هرقل من ذلك، ثم رفع رأسه، فنظر إلى السقف وقال: خبروني عن هذه الكلمة، أكلما قلتموها انتقضت سقوفكم؟ قال هشام: لا، وما رأينا هذا إلا عندكم، وما نظن هذا إلا لشيء وعظت به لتعتبر.
فقال هرقل: ما أحسن الصدق وأزين الحق! ولكن خبروني عن هذه الكلمة، أتقولونها إذا أردتم أن تفتحوا المدن والحصون؟ فقال هشام: نقولها ولا نعتمد إلا عليها.
قال: فأطرق هرقل ساعة، ثم إنه راطن بعض غلمانه بالرومية، وأقبل على هشام بن العاص وأصحابه فقال: إني قد أمرت لكم بمنزل فصيروا إليه يومكم هذا.
قال: فصار هشام والمسلمون في ذلك المنزل، وأمر لهم بطعام وعلوفة ما يصلحهم، فلما كان من غد بعث إليهم فدعاهم، فدخلوا إليه، وليس في مجلسه أحد، فأمرهم بالجلوس فجلسوا، ثم دعا بشيء على مثل الصندوق الصغير إلى الطول ما هو، وفيه بيوت صغار، عليها أبواب، ففتح منها بابا، وذكر الحديث بطوله ومعناه.
وقال الإمام الزاهد أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي في
#306#
المجلس الرابع والثلاثين من "أماليه": حدثنا أبو مسلم الأصبهاني –يعني: محمد بن علي بن طلحة- أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمرو بن مسرور القواس، حدثنا علي بن محمد المصري –إملاء- حدثنا أحمد بن عمرو بن نافع، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن عمر مولى غفرة: أن عبد الملك بن مروان دخل كنيسة من بعض كنائس الشام، فنظر إلى تماثيل مصورة، فسأل عنها، فقيل له: هذه صور الأنبياء، فطفقوا يخبرونه باسم نبي من أول الأنبياء إلى عيسى.
فقال لهم: أين صورة محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: ليس نجعل صوره في كنائسنا.
قال: فنظر على أثر عيسى تابوتا مطبقا، فقال عبد الملك: فما تحت هذا التابوت؟ قالوا: لا ندري.
فأمر بالتابوت فكسر، فإذا تحته صورة رجلين على كل واحد منهما إزار ورداء، فقال: من هذان؟ قالوا: لا ندري، ما نعرفهما.
قال: فمن يعرفهما؟ فأخبروه بواحد من كبرائهم، فأرسل إليه فسأله، فضحك، فاستحلفه عبد الملك وعزم عليه، فقال: هذه صورة محمد نبي العرب، وهذا صاحبه إلى جنبه، وقد كنا نكره أن تعرفوا هذا.
قال عبد الملك: ومن صاحبه في كتبكم؟
قالوا: أبو بكر الصديق، وإذا مكتوب على رؤوسها، فدعوا من يقرؤه، فإذا هو كما قالوا.
قال لهم عبد الملك: فما حملكم أن غطيتموها، ولم تظهروها كغيرها؟
قال: حسدا لكم معاشر العرب.
#307#
وذكر الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه في المعجزات فقال: وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي رحمه الله قال المفسرون وأصحاب الأخبار في قوله تعالى: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} أنزل الله تابوتا على آدم صلى الله عليه وسلم فيه صور الأنبياء من أولاده، وفيه بيوت بعدد الأنبياء كلها، وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوتة حمراء، وإذا هو قائم يصلي، وعن يمينه الكهل المطيع، مكتوب على جبينه: أول من يتبعه من أمته أبو بكر، وعن يساره الفاروق، مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ورائه ذو النورين آخذ بحجزته، مكتوب على جبينه: بار من البررة، ومن بين يديه علي بن أبي طالب، شاهر سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بالنصر من عند الله، وذكر بقيته بطول مع ما اختصر منه الروياني في كتابه.
وجاء هذا عن كعب الأحبار، فيما علقه أبو موسى المديني في كتابه "طوالات الأخبار" عن كعب قال: لما أدرك إبراهيم عليه السلام الوفاة جمع أولاده وهم يومئذ ستة، ودعا بتابوت ففتحه وقال: أيها الأولاد، انظروا إلى هذا التابوت، قال: فنظروا في ذلك التابوت، فرأوا بيوتا بعدد الأنبياء كلهم، وآخر الأبيات بيت محمد صلى الله عليه وسلم من ياقوتة حمراء، فإذا هو قائم يصلي، وعن يمينه الكهل المطيع أبو بكر الصديق مكتوب على جبينه: هذا أول من يتبعه من أمته، وعن يساره الفاروق عمر بن
#308#
الخطاب مكتوب على جبينه: قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ورائه ذو النورين عثمان بن عفان، آخذ بحجزته، مكتوب على جبينه ثالث الخلفاء، ومن بين يديه علي بن أبي طالب سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بنصر الله، وحوله عمومته الخلفاء والنقباء والكبكبة الخضراء التي أحدقت بها سلسلة، وهم أنصار الله وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم يسطع نور من حوافر دوابهم يوم القيامة مثل نور الشمس في دار الدنيا رضي الله عنهم أجمعين.
وقال سعيد بن كثير بن عفير: حدثني عبد الحميد بن كعب بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن عمرو بن الحارث بن علقمة بن كعب بن عدي التنوخي، عن ناعم بن أجيل، عن كعب بن عدي قال: أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، ثم انصرفنا إلى الحيرة، فلما نلبث أن جاءتنا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتاب أصحابي وقالوا: لو كان نبيا لم يمت، فقلت: قد مات الأنبياء قبله، وثبت على الإسلام، ثم خرجت أريد المدينة، فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه، فعجت إليه، فقلت: أخبرني عن أمر أردته لقح في صدري منه شيء.
فقال: ائت باسمك من الأسماء، فأتيت بكعب، فقال: ألقه في هذا السفر –لسفر أخرجه- فألقيت الكعب فيه، فإذا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم
#309#
كما رأيته، وإذا بموته في الحين الذي مات فيه، فاشتدت بصيرتي في الإيمان، وقدمت على أبي بكر رضي الله عنه فأعلمته وأقمت عنده، وذكر بقيته.
وحدث به ابن منده في كتابه "معرفة الصحابة" عن أحمد بن مهران الفارسي، عن عبيد الله بن سعيد بن كثير بن عفير، عن أبيه، وعن عبد الرحمن بن أحمد، حدثني محمد [بن] موسى المصري، عن إبراهيم بن أبي داود: أنه كان في كتاب عمرو بن الحارث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، أن ناعما أبا عبد الله حدثه، عن كعب بن عدي، أنه قال: كان أبي أسقف الحيرة، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قال: هل لكم أن يذهب نفر منكم إلى هذا الرجل فتسمعوا من قوله، لا يموت غدا فتقولون: لو أن سمعنا من قوله، وقد كان على حق، فاختاروا أربعة فبعثوهم.
فقلت لأبي: ألا أنطلق معهم.
قال: ما تصنع؟
قلت: أنظر، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا نجلس إليه إذا صلى الصبح، فنسمع كلامه والقرآن، ولا ينكرنا أحد، فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيرا حتى مات، فقالت الأربعة: لو كان أمره حقا لم يمت، انطلقوا، فقلت لهم: كما أنتم حتى تعلموا من يقوم مكانه فينقطع هذا الأمر أو يتم، فذهبوا، ومكثت أنا لا مسلما ولا نصرانيا.
#310#
فلما بعث أبو بكر جيشا إلى اليمامة ذهبت معهم، فلما فرغوا من مسيلمة ورجعوا مررت براهب، فرقيت إليه فدارسته، فقال لي: أنصراني أنت؟ قلت: لا.
قال: فيهودي؟ قلت: لا.
قال: ما بلغ علم أحد انقطع لهذا علمك. قال: فذكرت له محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال: نعم هو مكتوب، قلت: فأرنيه.
قال: فأخرج شعرا ثم قال: ما اسمك؟ قلت: كعب.
قال: لا أدري ما كعب، أرني شبهه.
قال: فنزلت فالتمست كعبا حتى وجدته فجئت به فقلت: هذا اسمي.
قال: نعم، فأريد أتعرف صفته ونعته، ففتح فقرأت، فعرفت صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته، فوقع في قلبي الإيمان فآمنت حينئذ وأسلمت، وذكر الحديث، وفي آخره: قال كعب: لقد وجدت في الإنجيل نعته كله.
قال ابن منده: قال أبو سعيد بن يونس –يعني: شيخه عبد الرحمن بن أحمد المذكور- وهو ابن يونس بن عبد الأعلى، هكذا وجدته في الدرج الرق السرعة القديم حدثني به محمد بن موسى، عن ابن أبي داود، عن كتاب عمرو. وهذا حديث غريب، لا يعرف إلا من هذا الوجه.
وقال أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور القواس: حدثنا محمد بن علي المصري –إملاء- حدثنا حمدان بن عمرو بن نافع، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن عمر مولى غفرة: أن عبد الملك بن مروان دخل كنيسة من بعض كنائس الشام، فنظر إلى تماثيل مصورة، فسأل عنها، فقيل له: هذه صور الأنبياء، فطفقوا يخبرونه باسم من أول الأنبياء إلى عيسى عليهم السلام تابوتا مطبقا، فقال عبد الملك: فما تحت هذا التابوت؟
#311#
قالوا: لا ندري. فأمر بالتابوت فكسر، فإذا تحته صورة رجلين على كل واحد منهما إزار ورداء.
فقال: من هذا؟ قالوا: لا ندري، ما نعرفهما.
قال: فمن يعرفهما. فأخبروه بواحد من كبرائهم، فأرسل إليه فسأله، فضحك، فاستحلفه عبد الملك وعزم عليه.
فقال: هذه صورة محمد نبي العرب، وهذا صاحبه إلى جنبه، وقد كنا نكره أن تعرفوا هذا. قال له عبد الملك: ومن صاحبه في كتابكم؟
قالوا: أبو بكر الصديق.
وإذا مكتوب على رؤوسهما كتاب فدعوا من يقرؤه، فإذا هو كما قالوا: قال لهم عبد الملك: فما حملكم على أن غطيتموها ولم تظهروها كغيرها؟
قال: حسدا لكم معاشر العرب.
وقال أبو هاشم بن ظفر: وقرأت في ترجمة الإنجيل أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لما حبس ليقتل، بعث أناسا من أصحابه إلى المسيح عليه السلام وقال: قولوا له: أنت هو الآتي أو نتوقع غيرك؟ فأجابهم عيسى عليه السلام: بأن الحق اليقين أقول لكم: إن التوراة وكتب الله يتلو بعضها بعضا بالنبوة والوحي، فأما الآن فإن شئتم فاقتلوا، فإن "إيل" مزمع أن يأتي، فمن كانت له أذنان سامعتان فليسمع.
#312#
قال ابن ظفر: هذه ترجمة اختاروها ورضوها، و"إيل" هو الله سبحانه، ومن المضاف إليه جبرائيل وميكائيل وشبه ذلك، فإنها أسماء مضافة إلى اسم الله عز وجل كعبد الله، وقد قيل إن معنى جبر: عبد، ومجيء الله كناية عن مجيء كلامه ورسوله بوحيه، كما يقال: نادى السلطان في الناس بالأمان وجمع الرعية، وفعل كذا –أي: أمر من فعل ذلك- ولم يكن بعد المسيح رسول بكتاب إلا محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن.
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن الحسين البرجلاني، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن الأقرع مؤذن عمر، أن عمر مر على الأسقف، فقال: هل تجدوني في شيء من كتبكم؟
قالوا: نجد صفتكم وأعمالكم ولا نجد أسماءكم. قال: كيف تجدوني؟
قالوا: قرن من حديد. قال عمر: قرن من حديد، وماذا؟
قال: أمين شديد. فقال عمر: الله أكبر والحمد لله.
قال: والذي بعدي؟ قال: رجل صالح.
وذكر بقيته، وقد تقدم نحوه عن التوراة.
وقال البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق قال: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا
#313#
-وهو بمكة- وقريب من ذلك من النصارى، حين ظهر خبره في الحبشة، فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله، وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا أفاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا: خيبكم الله من ركب؛ بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم، أو كما قالوا لهم.
قالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لم نأل لأنفسنا إلا خيرا.
ويقال –والله أعلم: إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} إلى قوله: {لا نبتغي الجاهلين}.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا أبو صالح المروزي، سمعت حاتم بن عطاء، سمعت خالد بن ويدة –وكان رأسا في المجوس فأسلم- قال: كان كسرى إذا ركب ركب أمامه رجلان فيقولان له: ساعة بساعة أنت عبد ولست برب، فيشير برأسه: أي نعم.
#314#
قال: فركب يوما، فقالا له ذلك، فلم يشر برأسه، فشكياه إلى صاحب شرطته وأخبراه بذلك، فركب صاحب شرطته لمعاتبته، وكان كسرى قد نام، فلما وقع صوت حوافر الدواب في سمعه استيقظ، فدخل عليه صاحب شرطته، فقال: أيقظتموني ولم تدعوني أنام، إني رأيت أنه رقي بي فوق سبع سموات، فوقفت بين يدي الله عز وجل، فإذا رجل بين يديه عليه إزار ورداء، فقال لي: سلم مفاتيح خزائن الأرض إلى هذا، ألست المأمور بكذا فلم تغير، فالآن أردت أن أقوم فأستردها منه أيقظتموني.
قال: صاحب الإزار والرداء يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتابه "المجالسة": حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب قال: قرأت في زبور داود عليه السلام ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يجوز من البحر [إلى البحر] ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وأنه يخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، ويلحس أعداؤه التراب من تحت قدميه، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد؛ لأنه يخلص المضطهد ممن هو أقوى منه، ويرأف بالضعفاء والمساكين، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك عليه في كل يوم، ويدوم ذكره مع ذكر الله إلى الأبد.
#315#
وقال أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي: أخبرنا عبد المنعم بن إدريس، عن أبيه قال: وذكر وهب بن منبه في قصة داود النبي عليه الصلاة والسلام، وما أوحي إليه في الزبور: يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي يسمى أحمد ومحمدا صادقا، لا أغضب عليه أبدا، ولا يغضبني أبدا، وقد غفرت له قبل أن يعصيني: ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة، أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء والرسل، حتى يأتوني يوم القيامة نورهم مثل نور الأنبياء.. وذكر بقيته.
خرجه بطوله البيهقي في "الدلائل" لابن البراء.
ومما ترجموه من المزامير قوله: لترتاح البوادي وقراها، ولتصير أرض قيذار مروجا، ولتسبح سكان الكهوف، ويهتفوا من قلل الجبال بحمد الرب، ويذيعوا تسابيحه في الجو.
قال المترجم: فمن أهل البوادي من الأمم سوى أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ومن قيذار غير ولد إسماعيل جد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن سكان الكهوف وقلل الجبال سوى العرب؟!
قال أبو هاشم محمد بن ظفر: قرأت في زبور داود عليه السلام
#316#
ما ترجمه أهل الكتاب: قال داود عليه السلام: اللهم ابعث جاعل السنة تحيا، يعلم الناس أنه بشر.
قال: فظاهر هذا الكلام ومفهومه، أن داود عليه السلام أطلعه الله عز وجل على ما سيقوله النصارى في المسيح عليه السلام : بأنه إله معبود، فدعا الله سبحانه أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيعلمهم أن المسيح بشر.
وقال غير ابن ظفر: قوله في الزبور لداود: سيولد لك ولد أدعى له أبا ويدعى لي ابنا، اللهم ابعث جاعل السنة كي يعلم الناس أنه لبشر.
قال المترجمون: فهذا إخبار عن المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم قبل ظهورهما بزمن طويل، يريد: ابعث محمدا حتى يعلم الناس أن المسيح بشر، ليس إلها، وأنه ابن البشر لا ابن خالق البشر، فبعث الله هادي الأمة وكاشف الغمة؛ يبين للأمم حقيقة أمر المسيح، وأنه عبد كريم ونبي مرسل، لا كما ادعته فيه النصارى، ولا كما رمته به اليهود.
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" قال: من بشائر داود في الزبور: "فسبحان الله الذي هيكله الصالحون يفرح إسرائيل بخالقه وبيوت صلبون من أجل أن الله اصطفى له أمة، وأعطاه النصر،
#317#
وسدد الصالحين منه بالكرامة، ليسبحوه على مضاجعهم، فيكبرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين؛ لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال.
قال: ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو المنتقم بها من الأمم.
وقال ابن ظفر: وفي الزبور أيضا ما ترجموه أنه قال: فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك إلى الأبد، فتقلد السيف –وفي لفظ غير ابن ظفر: فتقلد أيها الجبار بالسيف- فإن بهاءك وحمدك الغالب، واركب كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، والأمم يخرون تحتك.
#318#
قال ابن ظفر: فمن هذا الذي قرنت شريعته بهيبة يمينه، وخرت الأمم تحته، هل هو إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟!
وقال المترجمون لهذا غير ابن ظفر: فليس يتقلد السيف من الأنبياء بعد داود عليه السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خرت الأمم تحته، وقرنت شرائعه بالهيبة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» وقد أخبر داود أن له ناموسا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبار؛ إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور، وهو صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكافر، رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، بخلاف الأذلاء المقهورين المستكبرين الذين يذلون لأعداء الله تعالى ويتكبرون عن قبول الحق.
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، عن حميد بن أبي البختري، عن الشعبي قال: في مجلة إبراهيم عليه السلام: إنه كان من ولدك شعوب وشعوب، حتى يأتي النبي الأمي الذي يكون خاتم الأنبياء.
المجلة: الصحيفة.
وقال ابن سعد أيضا: حدثنا علي بن محمد، عن أبي زكريا العجلاني، عن محمد بن كعب القرظي قال: أوحى الله عز وجل إلى يعقوب عليه السلام: إني باعث من ذريتك ملوكا وأنبياء، حتى أبعث النبي الحرمي الذي تبني أمته هيكل بيت المقدس، وهو خاتم الأنبياء، واسمه أحمد صلى الله عليه وسلم.
#319#
وقال ابن ظفر: ومن ذلك ما ترجمه السريانيون من كتاب شعيا عليه السلام أنه قال: قيل لي: قم نظارا فانظر ما ترى فأخبر به، فقلت: أرى راكبين مقبلين: أحدهما على حمار، والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها.
قال: فهذه بشارة صريحة بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه راكب الجمل لا محالة، ولأن ملك بابل إنما ذهب بنبوته وعلى يد أصحابه، كما أن راكب الحمار هو المسيح عليه السلام.
وما ذكر ابن ظفر من "كتاب شعيا عليه السلام": رواه أبو بكر الدينوري في كتابه "المجالسة" فقال: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبد المنعم، عن أبيه، عن وهب قال: قرأت في كتاب شعيا: قيل لي: قم نظارا، فانظر ما ترى حتى تخبر به، قال: أرى راكبين مقبلين أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما لصاحبه: سقطت بابل وأصنامها السحرة.
وصاحب الحمار: المسيح عليه السلام، وصاحب الجمل: محمد صلى الله عليه وسلم.
ولم تزل في إقليم بابل ملوك يعبدون الأوثان من لدن إبراهيم إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وكان سقوطه على يدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إسناده واه.
#320#
ومما ترجموه من نبوة شعيا عليه السلام ما نصه: عبدي الذي بشرت به –وفي لفظ: سرت به نفسي أنزل عليه وحيي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصيهم بالوصايا لا يضحك، ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور والآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي أحدا، مشفح، يحمد الله حمدا جديدا، يأتي من أقصى الأرض، ويفرح البرية وسكانها، يهللون الله على كل شرف، ويكبرون الله على كل رابية، لا يضعف ولا يغلب، ولا يميل إلى الهوى، ولا يذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوي الصديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، أثر سلطانه، على كتفه علامة النبوة.
قال بعض العلماء: لا يخفى على من له أدنى ذوق أن هذه الصفات لنبينا صلى الله عليه وسلم وأمته.
وفي كتاب شعيا أيضا: عبدي وخيرتي، ورضا نفسي، أفيض عليه روحي، فيظهر في الأمم عدلي، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك، ولا يسمع صوته، يفتح العيون العمي، ويسمع الآذان الصم، ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا أعطي غيره، لا يضعف، ولا يغلب،
#321#
ولا يميل إلى اللهو، ولا يسمع في الأسواق صوته، ركن للمتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ، ولا يخصم حتى يثبت في الأرض حجتي، وتنقطع به المعذرة.
قالوا: فمن وجد بهذا الوصف غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؟! ولو اجتمع أهل الأرض لم يقدروا أن يذكروا نبيا جمع هذه الأوصاف كلها –وهي باقية في أمته إلى يوم القيامة- سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلا.
وقد صرح به في نبوة شعيا فيما ترجموه، وهو: إني جعلت أمرك يا محمد بالحمد، يا قدوس الرب، اسمك موجود من الأبد.
قال المترجمون: فهل بقي بعد ذلك لزائغ مقال، أو لطاعن مجال.
وقوله: "يا قدوس الرب": يا من طهره الرب وأخلصه واصطفاه.
وروي عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى شعيا: إني مبتعث لذلك نبيا أفتح به آذانا صما وقلوبا غلفا، وأعينا عميا، مولده بمكة، ومهاجره بطيبة، وملكه [بالشام]، يعفو ويصفح ويغفر، رحيما بالمؤمنين، يبكي للبهيمة المثقلة، ويبكي لليتيم في حجر الأرملة، وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوال بالخنا، أسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل
#322#
السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والوفاء والصدق طبيعته، والعفو والمغفرة والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الحمالة، وأسمي به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، توحيدا لي، وإيمانا بي، وإخلاصا لي، وتصديقا لما جاءت به رسلي، وهم رعاة الشمس، طوبى لتلك القلوب والوجوه والأرواح التي أخلصت لي، ألهمهم التسبيح والتكبير والتحميد والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ويصفون في مساجدهم كما تصف الملائكة حول عرشي، هم أوليائي وأنصاري، وذكر بقية الأثر مطولا.
وشعيا هو ابن راموص، ابتعثه الله نبيا في بني إسرائيل، كانوا زمانا يطيعون الله، ثم كثرت فيهم الأحداث والبدع، فابتعث الله تعالى سخاريب ملك بابل، فأقبل إليهم حتى نزل بساحتهم، فتابوا إلى الله تعالى وأنابوا، فقبل الله منهم، وسلط على عدوهم الطاعون، فأصبحوا موتى وغنمهم عسكرهم جميعهم بجميع ما فيه، ولم يفلت منهم إلا سخاريب ملكهم وخمسة نفر معه، ثم أحدثوا بعد ذلك أحداثا،
#323#
ونبذوا كتاب الله، وتنافسوا الملك، فأمر الله شعيا أن يقوم فيهم مقاما بوحيه، فلما فعل قتلوه، فسلط الله عليهم عدوهم فشردهم وأفناهم، وضرب عليهم الذلة والمسكنة، ونزع منهم الملك والنبوة، فليسوا في أمة من الأمم إلا وعليهم الذل والصغار إلى يوم القيامة.
وشعيا هو الذي بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ووصفه وبشر بعيسى عليه السلام، قاله أبو محمد ابن قتيبة في كتابه "المعارف".
وقال ابن ظفر: ومن كتاب حزقيل عليه السلام ما ترجموه من قصة ذكر فيها ظهور اليهود وكثرتهم وكفرانهم النعم وتشبيههم بشجرة الكرم فقال: لم تلبث تلك الكرمة أقلعت بالسخطة ورمي بها إلى الأرض، فأحرقت السمائم ثم ثمرتها، فعند ذلك غرس غرس في البدو في الأرض المهملة العطشى فخرجت من أغصانه الفاضلة نار فأكلت تلك الكرمة، حتى لم يوجد فيها قضيب.
قال ابن ظفر: فلا شك أن أرض البدو المهملة هي أرض العرب، وغرس الله الذي غرسه فيها هو محمد صلى الله عليه وسلم وقد أخزى الله به اليهود. انتهى.
حزقيل هو ابن بوذي الذي أصاب قومه الطاعون فخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم.
#324#
قاله ابن قتيبة في "المعارف".
وقرأت على عبد القادر بن الأرموي، أخبرتك فاطمة بنت العز إبراهيم، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا إسماعيل الخزوي، أخبرنا إسماعيل بن السمرقندي، أخبرنا عبد الدائم بن الحسن، أخبرنا عبد الوهاب الكلابي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، أخبرنا إسماعيل بن عباس، حدثنا محمد بن مهاجر الأنصاري، عن العباس بن سالم قال: مكتوب في كتاب دانيال: أبشري يا أورشلم بعباد لي يأتوك من نحو تيماء، آدم جلودهم، بيض أسنانهم، يأتزرون على أنصافهم، ويوضئون أطرافهم ويطيلون، وينتعلون النعال، أناجيلهم في صدورهم، رهبان بالليل، أسد بالنهار.
تابعه سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شراحيل الحافظ، عن إسماعيل بن عباس، إلا أنه جعله من قول ابن مهاجر.
وجاء أن دانيال عليه السلام سأله بخت نصر عن تأويل رؤيا رآها، ثم أنسيها، فقال له دانيال: رأيت أيها الملك صنما عظيما قائما بين يديك، رأسه من ذهب، وساعداه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من الحديد، ورجلاه من الخذف، فبينا أنت تتعجب منه إذ
#325#
أقبلت صخرة فدقت ذلك الصنم فتفتت وتلاشى وعاد رفاتا، ثم نسفته الرياح، وذهب وتحول ذلك الحجر إنسانا عظيما ملأ الأرض، فهذا ما رأيت أيها الملك.
فقال بخت نصر: صدقت، فما تأويلها؟
قال: أنت الرأس الذي رأسه من الذهب ويقوم بعدك ولدك، وهو الذي دابته من الفضة، وهو دونك، وتقوم بعده مملكة أخرى هي دونه وهي تشبه النحاس، وبعدها مملكة قوية مثل الحديد، وأما الرجلان اللذان رأيت من خذف: مملكة ضعيفة، وأما الحجر العظيم الذي رأيته دق الصنم ففته فهو نبي يقيمه إله الأرض والسماء بشريعة قوية، فيدق جميع ملوك الأرض وأممها حتى تمتلئ الأرض، ومن أمته يدوم سلطان ذلك النبي إلى انقضاء الدنيا، فهذا تعبير رؤياك أيها الملك.
ولا يخفى على من له أدنى فهم أن وصف هذا النبي منطبق على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي جاء بشريعة قوية دق بها جميع ملوك الأرض، وسلطانه دائم إلى انقضاء الدنيا.
وتقدم في حديث هشام بن العاص حين بعث رسولا إلى ملك الروم مع صاحبيه أن دانيال عليه السلام كانت عنده صورة نبينا صلى الله عليه وسلم مصورة مع صور الأنبياء.
ودانيال فتح عليه قبره في زمن عمر رضي الله عنه لما فتحت السوس.
قال علي بن يعقوب بن أبي العقب: حدثنا محمد بن خريم، حدثنا حميد –يعني ابن زنجويه- قال: قال أبو عبيد: حدثنا حسان بن عبد الله، عن السري بن يحيى، عن قتادة قال: لما فتحت السوس
#326#
وعليهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال في أبزن، وإذا إلى جنبه مال موضوع من شاء أن يستقرض منه إلى أجل، فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلا برص، قال: فالتزمه أبو موسى وقبله، وقال: دانيال ورب الكعبة، ثم كتب في شأنه إلى عمر، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أن كفنه وحنطه وصل عليه، ثم ادفنه كما دفنت الأنبياء، وانظر ماله فاجعله في بيت مال المسلمين، قال: فكفنه في قباطي وصلى عليه ودفنه.
وحدث به أبو بكر ابن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا هدبة بن خالد القيسي، حدثنا همام بن يحيى، حدثنا قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن مطرف بن مالك أنه شهد فتح أهل السوس إذا أسنوا استخرجوه، فاستسقوا به، وأصبنا معه ريطتي كتان، وأصبنا معه ستين جرة مختومة، ففتحنا جرة من أدناها وجرة من أوسطها وجرة من أقصاها، فوجدنا في كل جرة عشرة آلاف، قال همام: أحسبه قال: واف، وأصبنا معه ربعة فيها ثياب، وكان معنا أجير نصراني يقال له: نعيم، فقال: أتبيعوني هذه الربعة وما فيها قلنا: إن لم يكن فيها ذهب أو ورق أو كتاب، قال: فالذي فيه كتاب الله تعالى، قال: فكره الأشعري ومن عنده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع ذلك الكتاب، فمن ثم كره بيع المصاحف؛ لأن الأشعري وأصحاب الأشعري كرهوا بيع ذلك الكتاب، فبعناه الربعة بدرهمين، ووهبنا له الكتاب.
قال همام: قال قتادة: وحدثني حسان أن أول من وقع عليه رجل من بني العنبر يقال له: حرقوص، فأعطاه الأشعري الريطتين وأعطاه مائتي
#327#
درهم، ثم إن الأشعري طلب إليه أن يرد عليه الريطتين فأبى، فشققها عمائم بين أصحابه، فكتب الأشعري في ذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر أنه نبي الله، دعا الله عز وجل أن لا يرثه إلا المسلمون، فصل عليه وادفنه .. .. الحديث، وفيه قصة في آخره.
وجاء عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما كان في الأوس والخزرج أوصف لمحمد صلى الله عليه وسلم من أبي عامر الراهب، كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين ويخبرونه بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء، فأخبروه بمثل ذلك، ثم خرج إلى الشام، فسأل النصارى، فأخبروه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وأن مهاجره يثرب، فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا على دين الحنيفية وأقام مترهبا ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم عليه السلام، وأنه ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لم يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسده وبغى ونافق.
وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد بم بعثت؟ قال: «بالحنيفية».
قال: أنت تخلطها بغيرها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتيت بها بيضاء، أين ما كان يخبرك الأحبار من اليهود والنصارى من صفتي».
فقال: لست بالذي وصفوا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذبت».
فقال: ما كذبت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الكاذب أماته الله وحيدا طريدا».
قال: آمين.
ثم رجع إلى مكة فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك ما كان عليه، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.
#328#
$[ما روي في معرفة زيد بن عمرو بن نفيل بالنبي صلى الله عليه وسلم]$
ويروى عن عامر بن ربيعة بن مالك العدوي رضي الله عنه سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول –قبل الإسلام-: أنا أنتظر نبيا من بني إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك، قلت: هلم، قال: هو رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليس تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به، حتى يهاجر إلى يثرب، فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها شرقها وغربها أطلب [الدين الصحيح] دين إبراهيم، فكل من سئل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه بمثل ما نعته، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر رضي الله عنه: فلما أسلمت أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بقول زيد بن عمرو وأقرأته منه السلام، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وترحم عليه، وقال: «قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا».
حدث به ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني علي بن عيسى الحكمي، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة، فذكره.
#329#
وقال يونس بن بكير: عن المسعودي، عن نفيل بن هشام، عن أبيه؛ أن جده سعيد بن زيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه زيد بن عمرو، فقال: يا رسول الله إن أبي زيد بن عمرو كان كما رأيت وكما بلغك، فلو أدركك آمن بك، فاستغفر له [قال: «نعم»، فاستغفر له، وقال]: «فإنه يجيء يوم القيامة أمة وحده».
وكان فيما ذكروا يطلب الدين، فمات في طلبه، وهو ما رواه يونس عن ابن إسحاق قال: وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد أجمع على الخروج من مكة، ليضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم،
#330#
وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آذنت الخطاب بن نفيل، فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول: دين إبراهيم، ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك، فيما يزعمون، حتى أتى الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى [لقي] راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية، فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم.
فقال له الراهب: إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم بعد [أن] درس علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظلك خروج نبي يبعث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم الحنيفية، فعليك ببلادك، فإنه مبعوث الآن، وهذا زمانه.
وقد كان –يعني زيدا- شام اليهودية والنصرانية، فلم يرض شيئا منهما، فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه، وذكر بقيته.
#331#
وقد وجد ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم وشهر في مواضع كثيرة من الكتب المتقدمة لا تكاد تحصر، وأشار إلى ذلك عم النبي صلى الله عليه وسلم أبو طالب:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة ... ولا ضير ممن خصه الله بالحب
وقد تواتر عن كثير من علماء أهل الكتاب والأحبار والرهبان: أنه صلى الله عليه وسلم موجود في كتبهم، يعرفون صفته، ويتحققون نعته، ويقرون به، ويتوقعون ظهوره، ويوصون أهاليهم بالإيمان به، فمنهم من كان ذلك سبب إسلامهم، بل أعظم سبب إسلامهم، وهؤلاء منهم من كان عنده علم بصفته صلى الله عليه وسلم، ووجده مذكورا في الكتب وكان سبب هداه، ومنهم من أخبر بذلك وثبت عنده فآمن به واتبعه، وحمل الحسد آخرين على العناد فثبتوا على الكفر وماتوا عليه.
وكان أول من نوه بذكر نبينا صلى الله عليه وسلم وشهره في الناس: أبوه إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم.
#332#
ولم يزل ذكره في الناس مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه الشريف خاتم أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم حيث قام خطيبا في بني إسرائيل فقال: {إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.
$[ما روي في ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم عند التبابعة]$
وقد وقع ذكره صلى الله عليه وسلم عند التبابعة الذين دوخوا البلاد وضمضموا ممالك العباد.
قال الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه المؤلف في المعجزات وقال محمد بن إسحاق الإمام صاحب "المغازي" رحمه الله: سار تبع الأول إلى الكعبة وأراد هدمها، وكان من الخمسة الذين لهم الدنيا بأسرها، وخرج في مائة ألف وثلاثة وثلاثين ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، فكان الناس يعظمونه في كل بلدة يدخلها، وكان معه أربعة آلاف من العلماء والحكماء، فلما قرب من مكة لم يتحرك أهل مكة له.
فغضب ودعا الوزير وقال: كيف شأن أهل هذه البلدة الذين لم يهابوني؟
فقال: إنهم قوم عرب جاهلون وإن لهم بيتا يقال له: كعبة يفتخرون بها.
فتفكر في نفسه أن يأمر بهدم البيت، حتى يسمى خربة، ويقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم، فأخذه الله في الحال بالصداع وفتح من عينيه
#333#
وأذنه وأنفه وفمه ماء منتنا؛ حتى لا يصير عنده أحد طرفة عين.
فأمر بجمع الأطباء، فعجزوا وقالوا: هذا أمر سماوي لا نقدر عليه.
فاشتد الأمر عليه وعلى الناس، فجاء واحد من العلماء إلى وزيره وقال: إن صدقني الأمير في كلامه عالجته، فأخذ بيده وحمله إلى الملك، وخلا به فقال له: هل نويت في هذا البيت شيئا؟
فذكر ما نوى.
فقال: هذا الذي بك من ذلك، إن صاحب هذا البيت قوي يعلم ما في قلبك وما في الأسرار ، فأخرج من قلبك جميع ما هممت به.
ففعل وأخلص، فشفاه الله في الحال، وآمن بالله تعالى على دين إبراهيم الخليل صلوات الله عليه، وخلع على الكعبة سبعة أبواب، وهو أول من كسا البيت، ودعا أهل مملكته وأمرهم بحفظها.
وخرج إلى يثرب وهي تبعة، فيها عين ماء ولا بناء فيها أصلا، فنزل على رأس العين مع عسكره، واجتمع العلماء، ورئيسهم ذلك العالم الذي أخبره بشأن الكعبة.
فقال أربعمائة نفر من العلماء من أربعة آلاف: لا نخرج من هذا الموضع، وإن ضربهم الملك وقتلهم، وخرجوا إلى الملك وأخبروه ببيعتهم.
فقال الوزير: لم اخترتم هذا؟
قالوا: لأنا قرأنا في الكتب: أن شرف الكعبة وشرف هذا الموضع بسبب نبي، يخرج يقال له: محمد صلى الله عليه وسلم، إمام الحق، صاحب القضيب والناقة، صاحب اللواء والمنبر، صاحب قول: لا إله إلا الله، مولده بمكة، وهجرته إلى ها هنا، فطوبى لمن أدركه وآمن به، ونحن على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا.
#334#
فهم الوزير أن يقيم معهم، فجاء الوزير إلى الملك وأخبره بقولهم، وأخبره أنه يريد المقام معهم.
فتفكر الملك أن يقيم هناك سنة رجاء أن يدرك محمدا صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس أن يبنوا أربعمائة دار، لكل واحد منهم دار، واشترى لكل واحد منهم جارية وأعتقها وزوجها منه، وأعطى كل واحد منهم عطاء جميلا، وأذن لهم أن يقيموا، ولم يأذن للوزير أن يفارقه، وكتب كتابا وختمه بالذهب، ودفعه إلى العالم الناصح، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وإن لم يدركه دفعه إلى أولاده، وكان في الكتاب.
"أما بعد، يا محمد، إني آمنت بك وبكتابك الذي ينزله الله عليه، وأنا على دينك وسنتك، وآمنت بربك ورب كل شيء، وبشرائع الإسلام، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة".
ودفعه إلى العالم، وتركهم في ذلك الموضع، وهو مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ألف سنة، والأنصار بالمدينة من أولاد أولئك العلماء.
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أراد كل واحد أن ينزل في داره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوا ناقتي فإنها مأمورة» فبركت في دار أبي أيوب الأنصاري، وهو من أولاد العالم الناصح.
والأنصار كانوا ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وعلموا خروجه اختاروا ثقة يقال له: أبو ليلى، ودفعوا إليه الكتاب، وأخرجوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة على طريق مكة، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبيلة بني سليم.
فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، فدعاه، فقال: «أنت أبو ليلى؟».
قال: نعم.
#335#
قال: «ومعك كتاب تبع الأكبر».
فبقي متحيرا، وقال: هذا من العجائب، ولم يعرفه، فقال: من أنت؟ فإني لا أعرف في وجهك أثر السحر، وتوهم أنه ساحر.
فقال: «أنا محمد، وعليه السلام الكثير الجزيل من يومنا هذا إلى يوم القيامة، هات الكتاب».
ففتح الرجل رحله، وكان يخفي الكتاب، فأخرجه ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرأه.
فلما سمع كلام تبع قال: «مرحبا بالأخ الصالح» ثلاث مرات، وأمر أبا ليلى بالانصراف إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحد عطاء على وجه البشارة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة.
وفي هذا الخبر دلائل النبوة من خمسة أوجه: قول العالم الناصح، واختيار العلماء المقام هناك، وكتاب الملك الذي كتب إليه، وترك البعير في باب دار أبي أيوب الأنصاري، ومعرفته صلى الله عليه وسلم بأبي ليلى، وبما جاء به من الكتاب.
قاله أبو المحاسن الروياني.
وقد خرج هذا بنحوه أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" واستنكره.
وتبع الأول: هو تبع بن الأقرن، فيما قاله أبو محمد ابن قتيبة، وهو تبع بن الأقرن بن شمر يرعش ابن أفريقيس بن أبرهة بن الحارث الرائش.
قيل: هو أحد من ملك الأرض كلها شرقها وغربها، وقيل: الذي ملك
#336#
الأرض من التبابعة هو أسعد أبو كرب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل: تبع الأول هو زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الحارث الرائش بن عدي بن صيفي، بن سبأ الأصغر بن كعب بن كهف الظلم.
وقال بعضهم: تبع الأكبر هو شمر يرعش، وقال: ملك الأرض بأسرها، وعمر ألف سنة وستين سنة، وكانت عنده علوم من علوم الدهر من ذي القرنين وموسى والخضر وسليمان، وكانت العرب تضرب به المثل، ومن شعره:
طربت وما ذاك مني طرب ... ولكن بدا لي من ذا سبب
قتلت جموعا وأفنيتها ... وفي الأرض مني لاقوا أرب
ومنها:
وسوف إذا ما اقتضاني الردى ... يلي الملك بعدي رجال قشب
ويستلب الملك من حمير ... بحوش أسود عليها رهب
وينقلب الدهر عن وجهه ... ويفحا به الرأس تحت الذنب
#337#
إلى أن يلي الملك من هاشم ... نبي أمين كريم النسب
رسول من الله أتباعه ... على الحق منا رجال غلب
فلو مد عمري إلى عمره ... لفرجت عنه جميع الكرب
وعد بعضهم الحارث الرائش من التبابعة، وجعله أولهم.
وكان الملك في ولد حمير لا يعدو ملكهم اليمن، ولا يغزو أحد منهم حتى مضت قرون، وصار الملك إلى الحارث الرائش، وبينه وبين حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان خمسة عشر أبا فيما قيل.
ولقب "الرائش"؛ لأنه أول من غزا وأدخل المغانم اليمن، وراش الناس، وكان ملكه فيما قيل مائة سنة وخمسا وعشرين سنة.
وجاء عنه أنه أري في منامه كأن السماء ربت، والأرض ربت، والنجوم تساقطت، والجبال اهتزت، فقال: ما هذا الحديث العظيم والأمر الجسيم؟
فقيل له في منامه: هذا عند مولد السيد الأعظم والنبي المكرم، صاحب البيت والحرم، جامع المحامد أحمد.
قال: أفيصير ذلك؟
#338#
قيل له: نعم، نعم ورب البيت والحرم.
فانتبه وهو قلق، فأخبر به فأري فقال له: هذا رجل سيد يظهر بدين أهل أمانة، طوبى لمن لحقه، طوبى له، وكان ذلك على خاطره، ونشره في قومه، وبشره في قومه، وبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكره في شعر له ومنه:
ويملك بعد قحطان نبي ... تقي خبتة خير لأنام
يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام
فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه ... ومن يلقاه يبلغه سلامي
وحدث يونس بن بكير الشيباني في "المغازي" عن محمد بن إسحاق، قال: ثم إن تبعا أقبل من مسيره الذي كان سار يجول الأرض
#339#
فيه، حتى نزل على المدينة، فنزل بوادي قناة فحفر فيها بئرا، فهي اليوم تدعى "بئر الملك".
قال: وبالمدينة إذ ذاك يهود، والأوس والخزرج، فنصبوا [له] فقاتلوه، فجعلوا يقاتلونه بالنهار، فإذا أمسى أرسلوا إليه الضيافة وإلى أصحابه، فلما فعلا ذلك به ليال استحيى، فأرسل إليهم يريد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له أحيحة بن الجلاح بن حريش بن جحجبا بن كلدة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وخرج إليه من يهود بنيامين القرظي.
فقال له أحيحة: أيها الملك نحن قومك.
وقال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر أن تدخلها، لو جهدت بجميع جهدك.
قال: ولم؟
قال: لأنها منزل نبي من الأنبياء يبعثه الله من قريش.
وجاء تبعا مخبر خبره عن اليمن أنه بعث عليها نار تحرق كل ما مرت به، فخرج سريعا وخرج معه بنفر من يهود فيهم بنيامين وغيره، وهو يقول:
#340#
إني نذرت يمينا غير ذي خلف ... أن لا أجوز وبالحجاز مخلد
حتى أتاني من قريظة عالم ... حبر لعمرك في اليهود مسود
ألقى إلي نصيحة كي أزدجر ... عن قرية محجورة بمحمد
ولقد تركت بها رجالا وضعا ... للنصر ينتظرون نورا مهتدي
هكذا روي.
قال ابن إسحاق: ثم خرج يسير حتى إذا كان بالدف من جمدان من مكة على ليلتين أتاه ناس من هذيل بن مدركة، وتلك منازلهم. فقالوا: أيها الملك، ألا ندلك على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا تصيبه وتعطينا منه.
فقال: بلى. فقالوا: هو بيت بمكة.
فراح تبع وهو مجمع لهدم البيت، فبعث الله عليه ريحا فقفعت يديه ورجليه، وشنجت جسده، فأرسل إلى من كان معه من يهود، فقال: ويحكم ما هذا الذي أصابني؟ قالوا: أحدثت شيئا؟
قال: وما أحدثت؟ قالوا: أحدثت نفسك بشيء؟
#341#
قال: جاءني نفر من أهل هذا المنزل الذي رحنا منه، فدلوني على بيت مملوء ذهبا وياقوتا وزبرجدا، ودعوني إلى تخريبه وإصابة ما فيه على أن أعطيهم منه شيئا، فنويت لهم بذلك، فرحت وأنا مجمع لهدمه.
قال النفر الذين كانوا معه من يهود: وذلك بيت الله الحرام، ومن أراده هلك.
فقال: ويحكم فما المخرج مما دخلت فيه؟
قالوا: تحدث نفسك أن تطوف به كما يصنع به أهله، وتكسوه وتهدي له.
فحدث نفسه بذلك، فأطلقه الله عز وجل، وقال في شعره:
بالدف من جمدان فوز مصعد ... حتى أتاني من هذيل أعبد
ذكروا لي البيت وقالوا كنزه ... در وياقوت وفيه زبرجد
فأردت أمرا حال ربي دونه ... والرب يدفع عن خراب المسجد
قال: ثم سار حتى دخل مكة، فطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، فأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف، وكان أول من كساه، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر،
#342#
ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الوصائل –وصائل اليمن- وأقام بمكة ستة أيام فيما ذكر لي، ينحر بها للناس، ويطعم من كان بها من أهلها، ويسقيهم العسل.
قال: وكان تبع فيما ذكر لي أول من كساه، وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وأن لا يقربوه ميتة ولا دما ولا ميلاثا –وهي المحائض- وجعل له بابا ومفتاحا، وقال تبع من الشعر:
ونحرنا في الشعب ستة آلاف ... ترى الناس نحوهن ورودا
وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا وبرودا
وأقمنا به من الشهر ستا ... وجعلنا له به إقليدا
وأمرنا للجرهميين خيرا ... وكانوا لحافتيه شهودا
وأمرنا أن لا نريق حوالينا ... منيا ولا دما مفصودا
#343#
ثم سرنا نؤم قصد سهيل ... قد رفعنا لواءنا معقودا
وروى الواقدي بإسناد له عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بقناة، فبعث إلى أحبار يهود، فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهود.
فقال له شامول اليهودي، وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك، إن هذا البلد يكون مهاجر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكة، اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، وذكر أشياء من شأنه في القتال، وقال: ثم تكون العاقبة له ويظهر، فلا ينازعه هذا الأمر أحد.
قال: وما صفته؟
قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يركب البعير، ويلبس الشملة، سيفه على عاقته، لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره.
وتبع هذا المذكور في هذا الحديث: تبع بن حسان بن كليكرب بن تبع بن الأقرن، وهو تبع الأصغر آخر التبابعة، وكان مهيبا، فبعث ابن أخته الحارث بن عمرو بن حجر الكندي، وهو جد امرئ القيس الشاعر إلى معد وملكه عليهم وسار إلى الشام وملوكها غسان فأعطته القادرة،
#344#
واعتذروا من دخولهم في النصرانية، وصار إلى ابن أخيه الحارث بن عمرو، وهو بالمشقر من ناحية هجر فأتاه قوم كانوا وقعوا إلى يثرب ممن خرج مع عمرو بن عامر مزيقياء، وحالفوا اليهود بيثرب، فشكوا اليهود، وذكروا سوء مجاورتهم ونقضهم الشرط الذي شرطوه لهم عند نزولهم ومتوا إليه بالرحم.
فأحفظه ذلك، فسار إلى يثرب ونزل في سفح أحد، وبعث إلى اليهود فقتل منهم ثلاثمائة وخمسين رجلا صبرا وأراد خرابها.
فقام إليه رجل من اليهود قد أتت له مائتان وخمسون سنة، فقال: أيها الملك، مثلك لا يقتل على الغضب، ولا يقبل قول الزور، وأمرك أعظم من أن يطير بك نزق أو يسرع بك لجاج، وإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية.
قال: ولم؟
قال: لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل، يخرج من عند هذه البنية –يعني: البيت الحرام.
فكف تبع ومضى يريد مكة، ومعه هذا اليهودي، ورجل آخر من اليهود عالم، وهما الحبران، فأتى مكة فكسا البيت وأطعم الناس، وهو القائل:
وكسونا البيت الذي حرم الله ... ملاء معضدا وبرودا
#245#
ويقول قوم: إن القائل هذا هو تبع الأوسط.
وقال أبو القاسم ابن عساكر: ويقال اسم تبع هذا حسان بن تبع بن أسعد بن كرب الحميري.
وقال ابن قتيبة في ترجمة تبع بن كليكرب بن تبع: وهو أسعد أبو كرب وهو تبع الأوسط، ويقال: إن تبعا هذا هو الذي آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم [وقال]:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وقال: رويت أبيات تبع التي منها هذا، فيما روي عن أبي سهل بن إسماعيل، عن أبيه قال: بلغني أن شافع بن كليب الكاهن، وكان قد عمر دهرا، وأنه أراد أن يظعن إلى أهله أتى تبعا للسلام عليه.
فقال تبع: ألا تخبرنا عما بقي من علمك.
قال: بقي منه علم صادق، يفوه به لسان ناطق.
قال تبع: هل يملك أحد من العرب ملكا يواطئ ملكي؟
قال: نعم.
#346#
فوثب تبع عن فرسه واستوى جالسا، ثم قال: ومن هو؟
قال: هو رجل بار مبرور أيد منصور، صفته في الزبور، يفرج الظلماء بالنور، قد فضلت أمته في الشهور، بملكهم آخر الزمان والدهور.
قال: وما اسمه؟
قال: محمد، طوبى لقومه يوم يجيء.
قال: وممن هو؟
قال: من قصي أحد بني لؤي.
فلم يزل تبع يسأل عن شأن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اشتهر عنده، ففي ذلك يقول:
شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم
له أمة سميت في الزبور ... وأمته هي خير الأمم
رسول أمين يولي الأمين ... دوين الشريف ودون الرحم
يسود قريشا بآبائها ... معانا يقوي ونسل العجم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
[فظاهرته ثم كانفته ... وجليت عن صدره كل غم][2]
ليهنئ قريشا إذا جاءها ... فجاش بها بحرها ثم جم
وفي غير هذه الرواية بعد قوله:
#347#
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل غم
وألزمت طاعته كل من ... على الأرض من عرب أو عجم
ولكن قولي له دائما ... سلام على أحمد في الأمم
وكان إيمان تبع هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بسبعمائة سنة فيما قيل.
وأسعد أبو كرب هذا ذكره ابن الكلبي في الستة الذين ملكوا الأرض كلها، فإنه قال: لم يملك الأرض كلها إلا ثلاثة أبرار وهم: سليمان وذو القرنين وتبع وهو أسعد أبو كرب، وثلاثة أشرار وهم: النمرود وبخت نصر والضحاك.
قال أبو القاسم الطبراني في معجمه "الأوسط": حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا أحمد بن محمد بن [أبي] بزة المكي، حدثنا مؤمل بن إسماعيل، حدثنا سفيان الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم».
#348#
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن سفيان إلا مؤمل، تفرد به ابن أبي بزة.
قال الطبراني أيضا في المعجم المذكور من طريق ابن لهيعة من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعا به: تفرد ابن لهيعة.
وخرجه أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة" زادها الله شرفا: حدثني جدي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن [أبي] يحيى، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى [عن] سب أسعد الحميري، وهو تبع، وكان هو أول من كسا الكعبة.
#349#
قال أبو القاسم ابن عساكر: وتبع لقب للملك الأكبر بلغة حمير.
أنبأنا الإمام القاضي أبو المحاسن يوسف بن موسى بن محمد بن أحمد بن أبي تلين الملطي الحنفي قدم علينا دمشق قال: أنبأنا الحافظ مغلطاي بن عبد الله قليج البكجري بالقاهرة في سلخ ذي القعدة سنة ستين وسبعمائة قال: "النجاشي" اسم لكل من ملك الحبشة، ويسميه المتأخرون "الهجري"، و"خاقان" لمن ملك الترك، و"قيصر" لمن ملك الروم، و"تبع" لمن ملك اليمن، فإن ترشح للملك سمي "قيلا" و"بطليموس" لمن ملك اليونان، "والفيطون" لمن ملك اليهود، هكذا قاله ابن خرداذبه، والمعروف سالخ، ثم رأس الجالوت، و"النمرود" لمن ملك الصابئة، و"دهن" و "فغفور" لمن ملك الهند، و"فور" لمن ملك السند، و"لغيور" لمن ملك الصين، و"الهياج" لمن ملك الزنج و"غانة" أيضا، و"الأصفر" لمن ملك علوا، و"رتبيل" لمن ملك الخزر، و"كابل" لمن ملك النوبة، و"ماجد" لمن ملك الصقالبة، و"شهرمان" لمن ملك خلاط، و"الأذفرنس" لأكبر ملوك الفرنج، و"فرعون" لمن ملك مصر والشام، و"العزيز" لمن ملكهما مع الإسكندرية، ويقال: "المقوقس" و"النعمان" لمن ملك العرب من قبل العجم، و"جالوت" لمن ملك البربر.
وفي بعض ما ذكره مغلطاي نظر، ومما فاته: "كسرى" لمن ملك الفرس، كما قاله أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه في كتاب "المسالك والممالك".
#350#
وفاته "الأفشين" لقب لمن ملك أشروسنة، وهي بلدة كبيرة بما وراء النهر بين سيحون وسمرقند.
ومما ذكر مع هؤلاء "أمير المؤمنين" في الإسلام، أول ما تسمى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال ابن دحية: وقد كان تسمى به قبله مسيلمة الكذاب، خرجه البخاري في قصة وحشي.
ورد هذا الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح، فوجدت بخط شيخ الإسلام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي رحمه الله: قال الشيخ تقي الدين ابن الصلاح رحمه الله: ليس كما قال، فإنه ليس فيه أكثر من أن الصائحة صاحت لما أصيب مسيلمة: وا أمير المؤمنين، ولا يلزم من ذلك تسمية أو تسميته بذلك على ما لا يخفى، والله أعلم.
#351#
$[إخبار سيف بن ذي يزن بالنبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده: أخبرنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عفير بن عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف ذي يزن، حدثنا عمي: أبو رحي أحمد بن خنبش بن عبد العزيز، حدثني عمي: محمد بن عبد العزيز، حدثني أبي: عبد العزيز بن عفير، حدثني أبي: عفير بن عبد العزيز، حدثني أبي: عبد العزيز بن السفر، حدثني أبي: السفر بن عفير، عن أبيه، عن أبيه زرعة بن سيف ذي يزن الحميري رضي الله عنه قال:
لما ظهر جدي سيف على الحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنيه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، فأتاه وفد قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وأسد بن عبد العزى، ووهب بن
#352#
عبد مناف، وقصي بن عبد الدار، فدخل عليه آذنه، وهو في رأس قصر له يقال له غمدان، وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت الثقفي:
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... في رأس غمدان دار منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
#353#
قال: والملك متضمخ بالعنبر، ينطف وبيص المسك من مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران مرتد بأحدهما متزر بالآخر عن يمينه الملوك، وعن شماله الملوك وأبناء الملوك والمقاول.
فأخبر بمكانهم، فأذن لهم فدخلوا عليه، فدنا منه عبد المطلب، فاستأذن في الكلام.
فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك، فقد أذنا لك.
فقال: إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعا باذخا شامخا منيعا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أطيب موطن، وأكرم معدن، وأنت –أبيت اللعن- ملك العرب ونابها وربيعها الذي به تخصب، وأنت أيها الملك ملك العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه، نحن أهل حرم الله، وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا، لكشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
فقال له الملك: من أنت أيها المتكلم؟
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا؟
#354#
قال: نعم.
قال: ادنه.
ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال: مرحبا وأهلا وناقة ورحلا – فأرسلها مثلا وكان أول من تكلم بها- ومستناخا سهلا وملكا ربحلا يعطي بعض عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم، انهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجرى عليهم الأنزال.
فأقاموا على ذلك شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الانصراف، ثم إن الملك انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب: إني مفض من سر علمي أمرا لو غيرك يكن لم أبح له به، ولكن رأيتك معدنه، فأطلعتك طلعة، فليكن عندك مطويا، حتى يأذن الله عز وجل: إني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة
#355#
الوفاة: للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
[فقال عبد المطلب: أيها الملك، مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر؟
قال: إذا ولد مولود بتهامة، غلام به علامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة].
فقال له عبد المطلب: لقد أبت بخير ما آب أيها الملك بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي ما ازداد به سرورا.
فقال له الملك: هذا حينه الذي يولد أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، وقد ولدناه مرارا، والله عز وجل باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض ، ويستبيح بهم كرائم أهل الأرض، تخمد به النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، وتكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال له عبد المطلب: عز جارك ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك سارني بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح.
#356#
فقال له ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب.
قال: فخر عبد المطلب ساجدا.
فقال له ابن ذي يزن: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟
قال: نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، وبه شفيقا، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
فقال له الملك: إن الذي قلت لك لكما قلت، فاحفظ ابنك، واحذر عليه من اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله عز وجل لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تداخلهم النفاسة في أن تكون لك الرئاسة، فينصبون له الحبائل، ويبتغون له الغوائل، وهم فاعلون ذلك، أو أبناؤهم، غير شك، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أجعل يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن في يثرب دار استحكام أمره، وأهل نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات
#357#
وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطأت أسنان العرب كعبه، ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك.
ثم دعا بالقوم، فأمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد سود، وعشر إماء سود، وحلتين من حلل البرود، وخمسة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوء عنبرا، ومائة من الإبل، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.
وقال: إذا كان الحول فأتني بما يكون منه.
فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول عليه الحول.
فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني أحد منكم بجزيل عطاء الملك وإن جل، فإنه إلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره.
فإذا سئل: ما هو؟
قال: سيعلم ما أقول، ولو بعد حين.
وفيه يقول أمية بن عبد شمس وفي سيرهم إلى سيف ذي يزن:
جلبنا النصح تحمله المطايا ... على أكوار أجمال ونوق
#358#
مغلغلة مرافقها تعالي ... إلى صنعاء من فج عميق
تؤم بنا ابن ذي يزن وتفري ... ذوات بطونها أم الطريق
وترعى من مخائله بروقا ... مواصلة الوميض إلى بروق
فلما وافقت صنعاء حلت ... بدار الملك والحسب العتيق
هذا الإسناد متصل مشهور من حديث أولاده بحمص وعقبهم بها.
قاله أبو عبد الله ابن منده.
ونسب شيخه إبراهيم بن عبد الله الذي ذكره يخالف الإسناد الذي ساقه، من تأمل ذلك عرفه.
وقال أبو نعيم في "الدلائل": أخبرت عن أبي الحسين علي بن إبراهيم بن عبد الله بن [محمد بن] عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن، حدثني أبي أبو يزن إبراهيم، حدثنا عمي
#359#
أحمد بن محمد أبو رحي، حدثنا عمي محمد بن عبد العزيز، وذكر الحديث بطوله.
وقد خرجه أبو بكر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان"، فقال: حدثنا علي بن حرب، حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم، حدثنا عمرو بن بكر، عن أحمد بن القاسم هو: الطائي، عن محمد بن السائب الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ظهر سيف بن ذي يزن، وذكر الحديث بطوله بنحوه.
وحدث به أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" عن أبي الحسن محمد بن علي بن محفل، حدثنا عمر بن حماد الفقيه، حدثنا عمر بن محمد بن بحير السمرقندي، حدثنا أحمد بن عبد ربه الضبي، حدثنا عبد الرحمن بن نوح بن عبيد، حدثنا عمرو بن بكر، فذكره بنحوه.
ورواه أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، عن أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي، عن عمرو بن بكر بن بكار القعنبي.
#360#
تابعهما عبد الله بن شبيب، عن عمرو.
ورواه [أبو المعمر المسدد بن علي بن][3] عبد الله الأملوكي الحمصي، عن أبي بكر أحمد بن عبد الكريم بن يعقوب الحلبي المؤدب، عن أبي عمير عدي بن أحمد ابن عبد الباقي الأذني، عن عبد الله بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن عثمان بن حليم الأزدي، عن بكر بن بكار القعنبي، عن محمد بن السائب، فذكره.
كذا قال: "بكر بن بكار" أسقط عمرا، والمعروف الأول.
ورواه أبو بكر بن عبد الله بن أبي الدنيا في كتابه: "دلائل النبوة" عن أحمد بن عباد الحميري، حدثنا هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، فذكره.
ورواه عبد الواحد بن أبي عمرو الأسدي ومزروع بن الكلبي، عن الكلبي.
ورواه أبو علي أحمد بن عثمان الأزهري الأصبهاني بإسناد فيه مجهولون إلى عبد الله بن عبد الغفار، عن مقسم، عن ابن عباس، عن أبيه، عن جده عبد المطلب، فذكر القصة.
وقد علقها أبو هاشم محمد بن أبي محمد بن ظفر في كتابه:
#361#
"أنباء نجباء الأبناء" بنحوها، ثم قال: ففيها هكذا يقول أكثر الرواة أنه سيف بن ذي يزن، وقد صححت عن من أثق به أنه معدي بن كرب بن سيف بن ذي يزن.
قلت: هذا التصحيح ضعيف، فقد اشتهر وتداول بين من ذكرنا من الأئمة ومن لم نذكره منهم أن صاحب هذه القصة سيف بن ذي يزن، والله أعلم.
ذكره أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد الشيرازي في كتابه "معرفة الألقاب": سيف بن ذي يزن النعمان بن قيس.
وابنه زرعة أسلم وكتب إليه رسول [الله صلى الله عليه وسلم كتابا] .. ..
إلى جزيرة كبيرة فيها شجر عظيم، ما رأيت شجرا أكبر منه، وله ورق، تغطي الورقة الفئام من الناس، يحمل شيئا مثل النبق وليس به، أحلى من التمر، لا عجم له، ونهر في الجزيرة جار عذب شديد الجريان، فأكلت من ذلك الثمر، وشربت من ذلك الماء، وقلت: لا أبرح من هذا الموضع أو يأتي الله بالفرج أو الموت، فلما أن أمسيت وغربت الشمس، وأقبل الليل بسواده، فإذا بقائل يقول مثل الرعد في الشدة: "لا إله إلا الله، الملك الجبار، العزيز، الغفار، محمد رسول الله الحبيب المصطفى المختار،
#362#
أبو بكر الصديق صاحب الغار، عمر الفاروق مفتاح الأمصار، عثمان بن عفان حسن الجوار، علي المرضي قاصم الكفار، أصحاب محمد المنتخبين الأخيار، وقاهم الله عذاب النار، على من سبهم لعنة الله ومأواه جهنم ولبئس القرار".
قال: فانخلع لذلك قلبي: وطار نومي، ثم هدأ الصوت، فلما أن كان في وسط الليل عاد الكلام، فلما أن أصحبت وطلعت الشمس إذا أنا بصورة رأس جارية في البحر تسبح لم أر أحسن وجها منها بشعر قد جللها، وإذا أنا بالصورة تقول: "لا إله إلا الله القريب المجيب، محمد رسول الله المصطفى الحبيب، أبو بكر الصديق الرفيق السديد، عمر الفاروق قرن من حديد، عثمان بن عفان المظلوم الشهيد، علي الرضي".
ثم لم تزل تدنو مني حتى قربت وخرجت عن الماء، فإذا رأسها رأس جارية، وعنقها عنق نعامة، وبدنها بدن سمكة، وساقها ساق ثور، فقالت لي: ما دينك؟ قلت: النصرانية. فقالت: ويحك، إن الدين عند الله الإسلام الحنيفية السمحة، أسلم وإلا هلكت، إنك قد حللت بجزيرة قوم صالحين مسلمين، لا ينجو منهم إلا من كان على دين محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته وهديه وسنته.
قال: فقلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله .. وذكر باقي القصة بنحو ما تقدم.
#363#
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي، أخبرنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا مجالد، عن عامر قال: انتهينا إلى أفنية جهينة، فإذا شيخ جالس في بعض أفنيتهم، فجلست إليه فحدثني قال: إن رجلا منا في الجاهلية اشتكى فأغمي عليه، فسجيناه وظننا أنه قد مات، وأمرنا بحفرته أن تحفر، فبينا نحن عنده إذ جلس، فقال: إني أتيت حيث رأيتموني أغمي علي.
فقيل لي أمك هبل
ألا ترى حفرتك تنتثل
وقد كادت أمك تثكل
أرأيت إن حولناها عنك بمحول
وقذفنا فيها القصل
الذي مشى وأجزل
أتشكر لربك وتصل
وتدع سبيل من أشرك فأضل
فقلت: نعم.
فانطلقت. فانظروا ما فعل القصل؟ قالوا: مر آنفا.
فذهبوا ينظرون فوجدوه قد مات، فدفن في الحفرة، وعاش الرجل حتى أدرك الإسلام.
#364#
ورواه ابن أبي الدنيا أيضا من طريق زياد بن عبد الله عن مجالد. ومن طريق عبيد الله بن عمرو الرقي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي. فذكر نحوه وفيه: قال: وزادني الحسن بن عبد العزيز في هذا الشعر [بيتا] آخر:
أتؤمن بالنبي المرسل
وقال الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد، حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، عن عمر بن الحكم بن رافع بن سنان –وهو عم عبد الحميد بن جعفر- قال: حدثنا بعض عمومتي وآبائي أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية، حتى جاء الله بالإسلام وهي
#365#
عندهم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ذكروا له وأتوه بها مكتوب فيها : "بسم الله، وقول الحق، وقول الظالمين في تباب، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان، يسبلون أطرافهم ويأتزرون على أوساطهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، وفي عاد ما أهلكوا بالريح، وفي ثمود ما أهلكوا بالصيحة، بسم الله، وقوله الحق، وقول الظالمين في تباب" كأنه استقبل قصة أخرى، قال: فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرئت عليه لما فيها.
#366#
$[ذكر ما وجد من اسمه الشريف مكتوبا في الأزل في خواتم الأنبياء والأحجار والنبات والحيوان]$
وقد وجد اسمه صلى الله عليه وسلم منقوشا على الحجارة بالخط القديم، فمن ذلك:
ما روي عن طلحة بن مصرف بن عمرو اليامي قال: وجد في البيت كتاب في صخر منقور في الهدمة الأولى، فدعي رجل، فقرأه، فإذا فيه "عبدي المنتخب المتمكن المنيب المختار، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، لا يذهب حتى يقيم السنة عوجا ويشهد أن لا إله إلا الله، أمته الحمادون يحمدون الله بكل أكمة، يأتزرون على أوساطهم، ويطهرون أطرافهم".
حدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن عبد الله بن براد أبي عامر الأشعري، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن حريش بن أبي حريش، عن طلحة.
ويروى عن معمر، عن الزهري قال: أشخصني هشام بن عبد الملك إلى الشام، فلما كنت بالبلقاء وجدت حجرا مكتوبا عليه بالخط العبراني، فطلبت من يقرؤه، فأرشدت إلى شيخ، فانطلقت به إلى الحجر، فقرأه وضحك، قلت: مم تضحك؟ قال: أمر عجيب، مكتوب على هذا
#367#
الحجر: "باسمك اللهم، جاء الحق من ربك، لسان عربي مبين، لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وكتبه موسى بن عمران بخط يده، وأراني والدي –رحمه الله وعفا عنه- حجرا قبل الفتنة في الجدار القبلي من جامع دمشق بين مقصورة الخضر ومصلى الخطيب، مكتوب فيه بالبياض في السواد: "محمد" كتابة بينة من جنس الحجر، لا صنع في ذلك للبشر، واحترق ذلك الحجر في الفتنة، والله أعلم.
ويحكى أيضا: أنه وجد أيضا على الحجارة القديمة مكتوب: "محمد تقي مصلح وسيد أمين".
ذكره القاضي عياض في "الشفا".
وقال أيضا: وذكر السمنطاري –وهو فيما أظن: عتيق بن علي الصقلي، مؤلف كتاب "دليل القاصدين"- أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد، على أحد جنبيه مكتوب: "لا إله إلا الله"، وعلى الآخر: "محمد رسول الله".
وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا محمد بن علي بن خنيس، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن سلمة، حدثنا محمد بن زيد الأيلي، حدثنا إسماعيل بن حبيب، عن أبي عصام الوراق، عن عبد الله بن الديلمي، عن وهب بن منبه أنه قال: بينما نبيكم صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا
#368#
نائم أو شبه نائم إذ أتي بلوزة أو شبه اللوزة، ففضها فإذا فيها ورقة خضراء مكتوب فيها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ما أنصف الله من خلقه من اتهمه في قضائه، أو استبطأه في رزقه".
وقال القاضي عياض: ذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب عليه بالأبيض: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" .
وهذا الذي ذكره القاضي عياض عن الأخباريين رواه عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، حدثنا قريش بن أنس، عن كليب أبي وائل –رجل من المطوعة-قال: رأيت ببلاد الهند وردا أحمر فيه بياض: "محمد رسول الله".
ورواه أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر بن أبان العبدي اللتباني، فقال: حدثنا أبو العباس –يعني: محمد بن موسى البصري- حدثنا قريش بن أنس، حدثنا كليب أبو وائل –إمام مسجد المسارح- قال: غزونا في صدر هذا الزمان الهند، فوقعنا في غيضة، فإذا فيها
#369#
شجر عليه ورد أحمر مكتوب فيه بالبياض: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
ووجدت بخط أبي الحسن علي بن محمد النيسابوري الميداني، أخبرنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن أحمد الكشي –بقراءتي عليه بقزوين في سنة إحدى وأربعين وأربعمائة- فذكر أحاديث منها:
قال –يعني: الكشي: أخبرنا أبو الفضل منصور بن نصر، حدثنا أبو أحمد بكر بن محمد بن حمدان، حدثني محمد بن يونس، حدثنا قريش بن أنس، حدثنا قرة بن خالد السدوسي، عن نجيح السدوسي قال: غزونا في صدر الزمان بلاد هند، فوقعنا في غيضة فيها شجر عليه ورد أحمر مكتوب فيه بالبياض: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
وقال أبو علي الحسن بن عبد الله بن البنا في كتابه "فيما وجد على الأبنية والأحجار من طرائف الحكم والأشعار": أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عمر العلاف المقري رحمه الله، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن إبراهيم الفامي، حدثنا أبو الحسين محمد بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد الواعظ بالبصرة، حدثنا محمد بن جمعان، حدثنا أحمد بن محمد المدني، حدثنا محمد بن عزيز، عن الفضيل بن عياض، عن ابن السائب عن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما قال: كنت قاعدا أنا وجماعة من أصحابنا نتوقع خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل تام الخلق، فوقف علينا ولم يسلم، فأضحكنا، قلنا له: يا أعرابي، رأيت
#370#
النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا اليوم؟ فقال: لا، ولكن رأيت صفته.
قال ابن عباس: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فابتدر إليه الأعرابي ومعه هدية تساوي ألوفا، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وصير الهدية بين يديه.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «من أين أقبلت؟ وأين تريد؟»، قال: كنت قاصدا إليك.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتيتني منافقا أو على دين من الأديان؟» قال: بل أنا على دينك يا محمد.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فلم تسميني محمدا، والمنافقون يسموني محمدا؟» فقال له الرجل –ثم أخرج من جيبه ورقتين: إحداهما: بيضاء، والأخرى: خضراء، فقال: يا نبي الله، إني رجل تاجر، كنت أختلف إلى بلاد الهند، فدخلت إلى بعض بساتينهم، فأصبت شجرة تزهو على الشجر، فقطعت من ورقها ورقة، وهي هذه الورقة فيها مكتوب: "لا إله إلا الله –محمد رسول الله"، وأتاني خادم الحديقة بهذه الورقة الخضراء وهي ورقة الموز، فقال لي: اقرأ إن كنت تحسن أن تقرأ، فرأيت مكتوبا عليها سطرين: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، من قبل وصيته اهتدى، ومن خالف وصيته ضل وغوى .. .. " وذكر الحديث بطوله.
وقال أبو الحسن بن البنا في الكتاب المذكور: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الحافظ، حدثنا محمد بن أحمد بن حمدويه الواسطي، حدثنا محمد بن يعقوب الأصم، سمعت الحسن بن إسحاق ابن يزيد العطار، سمعت عبد الرحمن بن هارون يقول: كنا
#371#
خارجين من مصر إلى أفريقية في البحر، فركدت علينا الريح، فأرسينا إلى موضع يقال له: "البرطون" ، وكان معنا صبي صقلابي يقال له: "أيمن"، وكان معه شص يصداد به السمك، قال: فاصطاد به سمكة نحوا من شبر أو أقل، قال وكان على [صنيفته اليمنى مكتوب "لا إله إلا الله" ، وعلى قذالها] صنيفة أذنها اليسرى: "محمد رسول الله"، قال: وكان أبين من نقش على حجر، وكانت السمكة بيضاء والكتاب أسود، كأنه بحبر، قال: فقد قتلها في البحر، وامتنع الناس أن يصيدوا من ذلك الموضع حتى أوغلنا.
ورواه الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني في كتابه في المعجزات، فقال: أخبرنا الشيخ العالم ناصر الطوسي رحمه الله بنيسابور،
أخبرنا أبو سعيد الصيرفي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا الحسن بن إسحاق العطار ببغداد، سمعت عبد الرحمن بن هارون يقول: كنا في البحر سائرين إلى أفريقية –وذكر القصة بنحوها.
ورواها أبو بكر الخطيب في "تاريخه" عن أبي سعيد المذكور وهو: أحمد بن موسى بن الفضل الصيرفي عن الأصم.
#372#
وجاء من حديث [محمد بن] أبي السري العسقلاني، حدثنا شيخ بن أبي خالد البصري، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان نقش خاتم سليمان بن داود: لا إله إلا الله، محمد رسول الله».
حدث به أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني والقاضي أبو صالح سهل بن إسماعيل بن سهل الطرسوسي، عن أبي العباس عبد الله بن وهب الغزي، عن ابن أبي السري.
تابعه خيثمة بن سليمان ومحمد بن إدريس بن حماد الأنطاكي، عن ابن أبي السري.
ورواه الحسن بن جرير الصوري، عن محمد بن أبي السري ونوح بن الهيثم ختن آدم العسقلاني، كلاهما عن شيخ، وهو تالف متهم بالوضع، وهذا من أباطيله. وفيما ذكرناه غنية عنه.
#373#
والأخبار والآثار بما سمع من هواتف الجنان، وذبائح الأوثان، وظهر على ألسنة الأصنام: من صفة نبينا محمد –عليه أفضل الصلاة والسلام- وإرساله إلى الأنام: كثيرة لا تحصى، وغزيرة لا تستقصى، اقتصرنا منه على ما ذكرناه، واكتفينا منها بما أوردناه، وبالله نستعين لا إله سواه.
#374#
&فصل في اختيار الله تعالى له، واجتبائه وتفضيله على الخلائق واصطفائه&
قال الله عز وجل: {وربك يخلق ما يشاء ويختار}.
خلق الله عز وجل المخلوقات، واختار منها ما شاء، وفضله على ما سواه، فاختار الله عز وجل من المخلوقات ذوات الأرواح، ثم اختار من ذوات الأرواح من بني آدم، ثم اختار من بني آدم العقلاء، ثم اختار من العقلاء المؤمنين، ثم اختار من العلماء الأنبياء.
ذكر نحوه أبو الفرج ابن الجوزي.
ولما كان أنبياء الله –عليهم الصلاة والسلام- صفوة عباده وخير خلقه كلفهم القيام بحقه، واستخلصهم من أكرم العناصر، وأمدهم بأكرم الأواصر، حفظا لنسبهم من قدح، ولمنصبهم من جرح؛ لتكون النفوس لهم أوطأ والقلوب لهم أصفى، فيكون الناس إلى إجابتهم، ولأوامرهم أطوع.
قاله أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة" .
والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، ثم اختار من الأنبياء، والرسل وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا –صلى الله عليهم أجمعين.
والعدد المذكور للأنبياء والرسل الذين منهم على ما هو مذكور في حديث إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، عن أبيه، عن جده، عن
#375#
أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر رضي الله عنه وفيه: قلت: يا رسول الله، كم الرسل والأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا»، قلت: يا رسول الله، كم الرسل من ذلك؟ قال: «ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير».
الحديث خرجه أحمد بن حنبل في "مسنده"، وأبو حاتم ابن حبان في "صحيحه"، وتقدم.
وقال أبو توبة الربيع بن نافع: حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد ابن سلام: أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني أبو أمامة- رضي الله عنه: أن رجلا قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: «ثلاثمائة وخمسة عشر».
#376#
هذا من أفراد معاوية، وفيه اختصار، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «الرسل ثلاثمائة وخمسة عشر».
وقيل في عدة الرسل غير ذلك.
ثم اختار الله عز وجل من الرسل أولي العزم، وهم خمسة مذكورون جميعا في سورتي الأحزاب والشورى:
قال الله عز وجل: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}.
وقال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
وقد جمعت أسماء أولي العزم الخمسة في بيت واحد، فقلت:
أولو العزم نوح والخليل بن تارح ... وموسى وعيسى والحبيب محمد
وقال بعضهم: أولو العزم: إبراهيم، ثم محمد، فموسى، فعيسى، ثم نوح.
وفي تسمية أولي العزم وعدتهم خلاف، والمذكور المشهور.
#377#
ثم اختار الله من أولي العزم الخمسة: خليله إبراهيم وحبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم، ثم اختار منهما محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حمزة الزيات، عن عدي بن ثابت، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خير ولد آدم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
حدث به أبو بكر المروذي عن الإمام أحمد.
وخرجه أبو سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي في "معجمه" فقال: أخبرنا ابن الجنيد –هو: أبو جعفر محمد بن أحمد بن الجنيد، حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا حمزة الزيات- فذكره بنحوه.
واختار الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من سائر الأمم، قال الله عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ومعنى {كنتم}: أنتم.
قال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": أخبرني أبو عبد الله محمد بن الصنعاني بمكة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم بن معاوية، عن
#378#
أبيه، عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} قال: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل».
وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقد تابع سعيد بن إياس الجريري بهزا في روايته عن أبيه، وأتى بزيادة في المتن، أخبرناه أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، حدثنا سعيد بن مسعود ح.
وأخبرنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا محمد بن مسلمة، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الجريري، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم أكرمهم على الله عز وجل وأفضلهم».
وخرجه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق بنحوه، وقال: هذا حديث حسن، وقد روى غير واحد هذا الحديث عن بهز بن
#379#
حكيم نحو هذا، ولم يذكروا فيه: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}.
وخرجه ابن ماجة في "سننه" من حديث إسماعيل ابن علية، عن بهز بنحوه.
وخرجه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو بكر بن محمد بن هارون الروياني في مسنديهما.
وحديث بهز، عن أبيه، عن جده: صحيح. قاله علي بن المديني والإمام أحمد.
#380#
أخبرنا الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله الحنبلي إجازة، قال: قرأت على الشيخ علي بن إسماعيل بن عباس بن قرقين، أخبرتك زينب بنت عمر بن كندي وأنت في الخامسة، أنبأنا أحمد بن ظفر ابن الوزير أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة، أخبرنا أبو الفضل محمد بن ناصر سماعا، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن أبي الصقر، أخبرنا محمد بن الفضل الفراء، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن خروف إملاء، حدثنا الحسن بن علي بن موسى البغدادي، حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحيم، عن زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الأولين والآخرين، وينزل في ظلل من الغمام» قال: «فيكون أول ما يقضى له: نوح النبي -عليه الصلاة والسلام- وقومه، يقول الله عز وجل لقوم نوح: ماذا أجبتم؟ قال: فيقول نوح: رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وسرا وعلانية فكذبوني واتهموني، فيقول الله عز وجل لقوم نوح: ماذا تقولون؟ فيقولون: ربنا ما بلغنا الرسالة، وقد كان فينا حتى خرج قرن بعد قرن، ولقد كتم الرسالة فلم يدعنا ولم ينذرنا. فيقول الله عز وجل لنوح: ماذا تقول؟ فيقول: رب، لي بينة. فيقول: أئت ببينت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فيأتيني نوح، فيقول: يا محمد، أنشدك الشهادة، فإن قومي قد كذبوني عند ربي عز وجل وجحدوا» قال صلى الله عليه وسلم:«فأبعث معه ركبا من أمتي فيشهدون
#381#
له». قال: «فينطلق الرهط حتى يقفوا على الرب عز وجل، فيقول الرب عز وجل: بما تشهدون؟ فيقولون: نشهد أن نوحا قد بلغ قومه الرسالة، ودعاهم ليلا ونهارا سرا وعلانية، فكذبوه واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا. فيقول الله عز وجل لقوم نوح: ما تقولون؟ فيقولون: ربنا، وكيف يشهد هؤلاء علينا ونحن أول الأمم وهم آخر الأمم؟ فيقول الله عز وجل للرهط: أجيبوهم. فيقول الرهط: ربنا، بعثت إلينا رسولا من أنفسنا فآمنا به وصدقنا بما أنزلت عليه من الكتاب، فكان فيما أنزلت عليه: أنك أرسلت نوحا إلى قومه فبلغهم الرسالة، ودعاهم ليلا ونهارا وسرا وعلانية، فكذبوه واتهموه». قال: «فيقرؤون سورة نوح، فيقول الله عز وجل لقوم نوح: أخصمهم. فيقوموا، فما من نبي يومئذ يكذبه قومه إلا يأتيني فيسألني الشهادة فأبعث معه رهطا من أمتي يشهدون له، وأنا عليكم شهيدا» ثم قرأ: {فكيف إذا جئنا} ثم قرأ: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
#382#
فهذه الأمة –زادها الله شرفا- اختارها الله عز وجل لنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم اختار له من أمته أصحابه، ثم اختار منهم السابقين الأولين، ثم اختار منهم المهاجرين والأنصار، ثم اختار منهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، ثم اختار منهم العشرة المشهود لهم في الجنة، ثم اختار منهم الأربعة: أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب –رضي الله عنهم أجمعين-، ثم اختار منهم أبا بكر رضي الله عنه.
ذكر نحوه ابن الجوزي أيضا.
فظهر بهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات مطلقا، ولا يخرج من هذا الملائكة.
قال سلطان العلماء أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي الشافعي –رحمة الله عليه- في الإملاء الذي سماه: "بداية السول فيما سنح من تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم"، فيما أنبأنا به أبو المحاسن يوسف بن عثمان بن عمر بن مسلم العوفي وغيره، قالوا: أخبرنا الإمام أبو أحمد إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر المكي كتابة منها، قال: أنبأنا العلامة أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام السلمي قال: وكما فضله الله تعالى على أنبيائه ورسله –صلواته وسلامه عليهم- من البشر، فكذا فضله على من اصطفاه من رسله من أهل السماء وملائكته؛ لأن أفاضل البشر أفضل من الملائكة؛ لقوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية}. والملائكة من جملة البرية؛ لأن {البرية}: الخليقة مأخوذة من "برأ الله الخلق" أي: اخترعه وأوجده.
#383#
ولا تدخل الملائكة في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات}؛ (لأن هذا اللفظ مختص) بمن آمن من البشر، بدليل أنه المتبادر إلى الأفهام عند الإطلاق.
فإن قيل: {البرية} مأخوذة من "البرى" وهو: التراب، والبشر مخلوقون من التراب، فكأنه قال: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البشر؟
فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أن أئمة اللغة قد عدوا "البرية" في جملة ما ترك العرب الهمزة.
قلت: ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه "غريب الحديث" عن أبي عبيدة قال: ثلاثة أحرف تركت العرب فيها الهمز وأصلها الهمز:
"البرية": الخلق، هم من "برأ الله الخلق".
و"النبي": وأصله من "النبأ"، و"قد نبأته": أخبرته.
و"الخابية" وأصلها الهمزة من "خبأت".
قال: وقال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب يهمزون "النبيء" و"البريئة"، وذلك أنهم يشبعون الكلام.
#384#
وقد صرح أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج في كتابه "معاني القرآن" بأن "البرية" وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة وأصلها الهمز، قال: وأكثر القراءة والكلام: "البرية" بغير همز، وقد قرأ قوم بالهمزـ والاختيار ما عليه الجمهور.
وهو ترك الهمز فيها.
وقال مرة في "النبيين" و"الأنبياء" و"البرية": والأجود ترك الهمز.
وقال أبو عبيد الهروي: والعرب تترك الهمز في خمسة أحرف:
-"البرية"، وأصلها: برأت.
-و"النبوة" وأصلها: أنبأت.
-و"الذرية" وأصلها: ذرأت.
-و"الروية" وأصلها: روأت.
-والخابية" وأصلها: خبأت.
قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام: "والوجه الثاني وهو الأظهر:
#385#
أن نافعا قرأ بالهمز، وكلا القراءتين كلام الله، فإن كانت إحدى القراءتين قد فضلت {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} على سائر البشرية، فقد فضلتهم الأخرى على سائر الخلق".
قلت: وجاء عن معمر بن سهل الأهوازي، حدثنا عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، عن بشر بن شغاف، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما شيء أكرم على الله من ابن آدم» قيل: يا رسول الله، ولا الملائكة؟ قال: «ولا الملائكة؛ الملائكة مجبورون مثل الشمس والقمر».
#386#
وقال وكيع بن الجراح في كتابه في "الزهد": حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
وقد جاء مرفوعا فيما قال خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي الخناجر، حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من قتل رجل مؤمن، والمؤمن أكرم على الله عز وجل من الملائكة الذين عنده».
وخرج أبو الحسن علي بن عبد الله بن جهضم الهمداني في كتابه
#387#
"بهجة الأسرار" من طريق ابن وهب، أخبرنا ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتعجبون من منزلة الملائكة عند الله تعالى؟! فوالذي نفس محمد بيده، لمنزلة المؤمن عند الله تعالى أعظم من تلك، أقرؤوا إن شئتم: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية}.
ووجدت بخط الحافظ أبي علي البرداني مسألة عزيزة ذكر فيها أن الأولياء أفضل من الملائكة، وذكر أدلة ذلك من الكتاب والسنة، وذكر أقوال المخالفين والرد عليهم، صدر المسألة بقوله: الأنبياء أفضل من الملائكة المقربين، وكذلك الأولياء من المؤمنين، خلافا للمعتزلة.
#388#
وذكر بقية المسألة.
قال ابن عبد السلام: وإذا ثبت أن أفاضل البشر أفضل من الملائكة، فالأنبياء أفضل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، بدليل قوله تعالى بعد ذكر جماعة من الأنبياء: {وكلا فضلنا على العالمين}، فدلت هذه الآية على أنهم أفضل من البشر وأفضل من الملائكة؛ لأن الملائكة من العالمين، سواء كان مشتقا من "العلم" أو من "العلامة"، وإذا كانت الأنبياء أفضل من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من الأنبياء، فقد ساد سادات الملائكة [فصار أفضل من الملائكة] بدرجتين، وأعلى منهم برتبتين، لا يعلم قدر تلك الرتبتين، وشرف تلك الدرجتين إلا من فضل خاتم النبيين وسيد المرسلين على جميع العالمين. انتهى.
#389#
$[بعض الأحاديث الواردة في فضل النبي صلى الله عليه وسلم]$
وقد وردت أحاديث في فضائل نبينا صلى الله عليه وسلم وخصائصه يشق حصرها ويطول سردها، فمنها ما صح من حديث أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني المصري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي وهو عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء».
ومن جملة ما كتب في هذا الذكر وهي أم الكتاب: إن محمدا خاتم النبيين.
خرجه مسلم في "صحيحه" من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن يزيد عن ابن هانئ نحوه.
وقال ابن سعد في كتابه "الطبقات الكبرى": وأخبرنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
#390#
وخرجه الترمذي لمحمد بن مصعب وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وخرجه أيضا من حديث الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثني شداد أبو عمار، حدثني واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى هاشما من قريش، واصطفاني من بني هاشم». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وهو في "صحيح مسلم" للوليد عن الأوزاعي عن أبي عمار شداد عن واثلة –بمثله.
وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" للوليد بن مسلم، وزاد بعد قوله صلى الله عليه وسلم: «واصطفاني من بني هاشم»: «فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع ومشفع».
وخرجه البخاري دون الزيادة التي في رواية ابن حبان في أول "تاريخه الكبير" فقال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم وشعيب بن إسحاق قالا: حدثنا الأوزاعي .. فذكره.
#391#
وحدث به الترمذي عن البخاري دون ذكر شعيب بن إسحاق.
وهو في "تاريخه الصغير".
وحدث به ابن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا يزيد بن يوسف عن الأوزاعي .. فذكره.
تابعه أبو يعلى الموصلي عن منصور.
وممن رواه عن الأوزاعي: بشر بن بكر.
وواثلة رضي الله عنه كنيته: أبو الأسقع، كذا كناه مكحول فيما رواه معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن مكحول قال: دخلت على واثلة بن الأسقع، فقلت: يا أبا الأسقع حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر باقيه.
وكذلك كناه يونس بن ميسرة بن حلبس الجبلاني في أحد الطريقين، وكذلك كناه غيرهما.
وذكره كذلك الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج في كتابه "الكنى"، وأبو يوسف يعقوب بن سفيان في "تاريخه"، وغير
#392#
واحد غيرهما.
وقيل: كنيته "أبو شداد" كناه أبو بكر ابن أبي عاصم في كتابه "الآحاد والمثاني" وقال: حدثنا الحسن بن علي، حدثنا دحيم، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا روح بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقيت واثلة بن الأسقع فسلمت عليه، فقلت: كيف أنت يا أبا شداد أصلحك الله؟ قال: بخير يا ابن أخي.
ويقال: كنيته: "أبو قرصافة"، قال البخاري في "تاريخه الكبير": ولا يصح، وقال في "تاريخه الصغير": كنيته "أبو قرصافة" وهو وهم، وإنما اسم أبي قرصافة: جندرة بن خيشنة.
الذي كنى عنه البخاري بقوله: "وقال بعضهم": هو خليفة بن خياط، والله أعلم، لأن موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا خليفة بن خياط قال: واثلة بن الأسقع يكنى "أبا قرصافة".
وحدث شعبة عن أبي الفيض قال: فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع.
#393#
وقال أبو أحمد محمود بن غيلان في "تاريخه": سمعت أبا داود يقول عن شعبة بن محمد بن صاعد، عن عبيد الله بن موسى بن هارون البصري، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا عوف، عن محمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اختار العرب، فاختار منهم كنانة –أو: النضر بن كنانة- ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم».
وحدث يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن سليمان بن حرب والحجاج بن منهال، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى اختار العرب، ثم اختار منهم كنانة –أو النضر بن كنانة-، ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، [ثم اختارني من بني هاشم]».
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا أبو النضر هاشم، عن ورقاء بن عمر اليشكري، عن عمرو ابن دينار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اختار من الناس العرب، واختار
#394#
من العرب هذا الحي من مضر ولد النضر، واختار من ولد النضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم».
وحدث ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن يعقوب بن إسحاق الحضرمي، حدثنا العلاء بن خالد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اختار العرب، ثم اختار من العرب كنانة، واختار من كنانة قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم».
وخرج من حديث أبي بكر بن عياش، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير العرب مضر، وخير مضر بنو عبد مناف، وخير بني عبد مناف بنو هاشم، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب، والله ما افترقا مذ خلق الله آدم إلا كنت من خيرهما".
وقال أبو ضمرة: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قسم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب».
#395#
هذا حديث مرسل.
وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي: وحدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح: أن عمرو بن قيس، حدثه أنه بلغه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اختار الله –تبارك وتعالى- من الناس العرب، واختار من العرب كنانة، واختار من كنانة النضر، واختار من النضر عبد مناف، واختار من بني عبد مناف هاشما، واختار من هاشم عبد المطلب، واختار من عبد المطلب عبد الله، واختار من عبد الله محمدا».
وما أحسن قول أبي طالب في هذا المعنى! كأنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة الحسنى:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها وكريمها
وقد ألم بهذا المعنى على التمام حسان بن ثابت شاعر الإسلام فقال:
#396#
لله فيما قد برأ وصفوة ... الصفوة الخلق بنو هاشم
صفوة الصفوة من هاشم ... محمد النور أبو القاسم
وقال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثني عيسى بن محمد، حدثنا بهلول، عن موسى بن عبيدة، حدثني عمرو بن عبد الله بن نوفل -من بني عدي بن كعب-، عن محمد بن مسلم الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال جبريل عليه السلام قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم».
تابعه بكار بن عبد الله بن عبيدة الربذي، عن موسى بن عبيدة.
#397#
خرجه الحافظ أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري اللالكائي في "شرح السنة" من حديث الحسن بن إسرائيل –وهو: النهرتيري-، حدثنا بكار بن عبد الله بن عييدة الربذي، عن عمه موسى بن عبيدة، أخبرني عمرو بن عبد الله بن المؤمل الجحدري، عن محمد بن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام: قال: قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم.
حدث به أبو نعيم في "الدلائل"، عن الحسن بن إسرائيل هذا.
تابعه أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي، [وذلك] فيما أخبرنا المسند الكبير أبو هريرة عبد الرحمن ابن الحافظ أبي عبد الله محمد بن الذهبي، حدثنا الحافظ أبو محمد القاسم بن محمد الإشبيلي من لفظه.
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد
#398#
المقدسي وأبو عبد الله محمد بن عبد المؤمن الصوري، قالوا: أخبرنا أبو الفتوح داود بن أحمد بن محمد الوكيل، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبيد الله بن الرطبي ح.
وقال الواسطي والمقدسي أيضا: أخبرنا أبو علي الحسن بن إسحاق بن الجواليقي ح.
وأخبرنا أبو هريرة، أخبرنا أبو محمد القاسم بن المظفر الدمشقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن أبي عبد الله بن المقر البغدادي وأبو الحسين محمد بن أحمد القطيعي ومحمد بن عبد الواحد بن المتوكل –قراءة على الأول وأنا شاهد في سادس عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وإجازة من الآخرين-، قالوا وابن الجواليقي: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبيد الله محمد بن الزاغوني، قال ابن المقر والقطيعي وابن المتوكل إجازة، وقال ابن الجواليقي: سماعا، زاد ابن المقر فقال: وأنبأنا أبو القاسم نصر بن نصر بن علي العكبري، قال هو وابن الرطبي وابن الزاغوني: أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن البري –هو: البندار، قراءة عليه ونحن نسمع- أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن الذهبي، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا الحسن بن إسرائيل، حدثنا بكار بن عبد الله بن عبيدة الربذي، عن عمه موسى بن عبيدة الربذي، أخبرني عمرو بن عبد الله بن المؤمل الجحدري، عن محمد بن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام قال: قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، ولم أر بني أب أفضل من بني هاشم.
#399#
ورواه يزيد بن عمرو الغنوي، حدثنا محمد بن يوسف الباهلي، حدثني أبي، عن يزيد بن أبي زياد، عن الزهري نحوه.
وهو في كتاب "السنة" لأبي بكر ابن أبي عاصم، و"المستدرك" للحاكم.
وخرجه أبو عبيد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتابه "نوادر الأصول" بزيادة، ولفظه عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله عز وجل بعثني فطفت شرق الأرض وغربها، وسهلها وجبلها، فلم أر حيا خيرا من العرب، ثم أمرني فطفت في العرب، فلم أجد حيا خيرا من مضر، ثم أمرني فطفت في مضر، فلم أجد حيا خيرا من كنانة، ثم أمرني فطفت في كنانة، فلم أجد حيا خيرا من قريش، ثم أمرني فطفت في قريش، فلم أجد حيا خيرا من بني هاشم، ثم أمرني أن أختار من أنفسهم، فلم أجد فيهم نفسا خيرا من نفسك».
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا الحميدي، حدثنا محمد بن طلحة التيمي، حدثني عبد الرحمن بن سالم، عن أبيه، عن جده عويم بن ساعدة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «إن الله –تبارك وتعالى- اختارني واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا،
#400#
فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم يوم القيامة صرف ولا عدل».
وخرجه الحاكم في "مستدركه" للحميدي: حدثنا محمد بن طلحة التيمي، حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، عن أبيه، عن جده، عن عويم بن ساعدة .. فذكره وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وهو في كتاب "الحلية" لأبي نعيم من طريق الحميدي.
وقال أبو بكر بن عياش: حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وخصه –أو قال: بعثه- برسالة.
الأثر خرجه الطبراني في "معجمه الكبير" لأبي بكر بن عياش.
وحدث به أحمد في "مسنده" عن أبي بكر هو: ابن عياش.
ورواه أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه "اتباع السنن والآثار" فقال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو بكر بن عياش، فذكره بكماله.
#401#
وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا أبو بكر بن عياش. فذكره بكماله.
[وحدث به أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم ومحمد بن يزيد. فذكره].
وحدث به أبو الحسن محمد بن حامد بن السري –خال ولد السني- في كتابه "السنة" عن الحسن بن عرفة، عن أبي بكر بن عياش.
تابعه سفيان بن عيينة عن عاصم.
ورواه أيضا الطبراني وأبو نعيم في كتابه "الحلية" من طريق عاصم بن علي، حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتدبه وانتخبه بعلمه، وذكر بقيته.
تابعه حمزة الزيات، عن عاصم ، عن أبي وائل.
#402#
خالفهم نصير بن [أبي] الأشعث، فرواه عن عاصم عن المسيب بن رافع ومسلم بن صبيح، عن عبد الله.
ورواه عبد السلام بن حرب، عن الأعمش، عن شقيق عن عبد الله.
خالفه سفيان بن عيينة، فرواه عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الله.
وخرج أحمد بن عبد الله الحافظ أبو نعيم من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن العباس بن عبد المطلب: قلت: يا رسول الله، إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم وأنسابهم، فجعلوا مثلك مثل نخلة نبتت في كبوة من الأرض. قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إن الله عز وجل حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه، ثم حين خلق القبائل جعلني من خير قبيلتهم، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم، ثم من حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم، فأنا خيرهم أبا وخيرهم نفسا».
#403#
قال أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين" في حديث العباس هذا: قال شمر: لم نسمع (الكبوة)، ولكن سمعنا (الكبا) و(الكبة) وهي: الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت.
وقال غيره: (الكبة) من الأسماء الناقصة، أصلها (كبوة) مثل (القلة) أصلها (قلوة)، و(ثبة) أصلها (ثبوة)، ويقال للربوة: كبوة.
وقال أبو بكر: (الكبا) جمع (كبة) وهي: البعر، ويقال: هي المزبلة. ويقال في جمع (كبة) و (لغة): (لغين) و(كبين). انتهى.
والحديث خرجه الترمذي من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس بنحوه، وحسنه.
وخرجه مرة من حديث يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأنه سمع شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: «من أنا؟» فقالوا: أنت رسول الله –عليك السلام قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا».
#404#
حسنه الترمذي.
وخرجه أبو نعيم أيضا من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة رضي الله عنه: أن أناسا من الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نسمع من قومك، حتى يقول القائل منهم: إنما مثل محمد مثل نخلة نبتت في كبا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، من أنا:؟» قالوا: أنت رسول الله –عليك السلام-. قال: «أنا محمد بن عبد المطلب». قال: فما سمعته انتمى قبلها وبعدها قط، ثم قال: «ألا إن الله خلق خلقه ثم فرقهم فرقتين، فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا».
تابعه عبد الرحمن بن يونس، عن ابن فضيل، إلا أنه قال: عن عبد المطلب بن ربيعة.
#405#
وخرجه أيضا من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن الحارث ابن عبد المطلب، عن عبد المطلب بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب بنحوه.
وعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي صحابي تحول إلى دمشق فنزلها ومات بها. قاله مصعب الزبيري.
وفي ترجمة عبد المطلب هذا خرج الحديث أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ" فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا جرير، عن يزيد ابن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق، فجعلني من خير خلقه، ثم جعلهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم بيوتا فجعلني من خيرهم بيتا».
#406#
وخرج الحاكم في "المستدرك" فقال: حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، حدثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمري، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد بن واقد الصفار، حدثنا محمد بن ذكوان –خال ولد حماد بن زيد-، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إنا لبفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت امرأة، فقال رجل من القوم: هذه ابنة محمد صلى الله عليه وسلم. فقال أبو سفيان: إن مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن. فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «ما بال أقوال تبلغني عن أقوام ؟! إن الله –تبارك وتعالى- خلق السموات سبعا، فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم».
قال الحاكم: وقد قيل في هذا الإسناد عن محمد بن ذكوان، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر. حدثنا محمد بن صالح بن هانئ، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي ومحمد بن أحمد بن أنس القرشي،
#407#
قالا: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا يزيد بن عوانة، عن محمد بن ذكوان.
قال عبد الله بن بكر: ولا أحسب محمدا إلا قد حدثنيه عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينا نحن جلوس بفناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بتمامه نحوه.
وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الدلائل" من حديث عبد الله بن بكر السهمي وحماد بن واقد الصفار، قالا: حدثنا محمد بن ذكوان، عن عمرو بن دينار، عن [ابن] عمر رضي الله عنهما مرفوعا بنحوه.
وقال الحاكم أبو عبد الله في "مستدركه": أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد المهرجاني، حدثنا عبد العزيز بن معاوية، حدثنا أبو سفيان زياد بن سهل الحارثي، حدثنا عمارة بن مهران المعولي، حدثنا
#408#
عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق اختار العرب، ثم اختار من العرب قريشا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم، فأنا خيرة من خيرة».
قال الحاكم بعد أن ذكر عقب هذا روايته الحديث من طريق محمد بن ذكوان عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، فقال: قد صحت الرواية عن عمرو بن دينار، فإن كان عن سالم فهو غريب صحيح، وإن كان عن ابن عمر فقد سمع عمرو بن دينار من ابن عمر.
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": وأخبرنا عارم بن الفضل السدوسي ويونس بن محمد المؤدب، قالا: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اختار العرب، فاختار منهم كنانة –أو النضر بن كنانة- ثم اختار منهم قريشا، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم».
وحدث به يعقوب بن سفيان، عن سليمان بن حرب والحجاج بن منهال، قالا: حدثنا حماد بن زيد. فذكره مرسلا كذلك.
وقال ابن سعد: حدثنا أبو ضمرة المديني أنس بن عياض الليثي، حدثني جعفر بن محمد بن علي، عن أبيه محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قسم الله الأرض نصفين، فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة، فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني
#409#
هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب».
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث الحماني يحيى بن عبد الحميد، أخبرنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله: {وأصحاب اليمين} {وأصحاب الشمال}، فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين بيوتا، فجعلني في خيرهما بيتا، وذلك قوله: {فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة . وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة . والسابقون السابقون}، فأنا من خير السابقين، ثم جعل البيوت قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، فذلك قوله تعالى: {شعوبا وقبائل}، فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله عز وجل ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله تعالى: {ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}».
وخرجه الحافظ أبو نعيم والبيهقي في كتابيهما "الدلائل" للحماني.
#410#
وحدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن يحيى بن عبد الحميد –هو: الحماني- بنحوه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا فخر»، الفخر: إظهار المكارم والمآثر، قيل: ولما كان من عادة من ذكر مناقب أن يذكرها افتخارا في الغالب، أراد صلى الله عليه وسلم أن يقطع وهم من يتوهم من الجهلة أنه ذكر ذلك افتخارا فقال: «ولا فخر».
وقد جاء التصريح بمعناه، وذلك فيما قال عبد بن حميد في "مسنده": حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد ومقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا –ولا أقوله فخرا-: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأحل لي المغنم ولا يحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة فاخترتها لأمتي إلى يوم القيامة وهي –إن شاء الله- نائلة لمن لم يشرك بالله شيئا».
وقيل: معنى «ولا فخر»، أي: لا أقوله من تلقاء نفسي فيكون افتخارا، وإنما أقوله بأمر، فيكون عبودية وائتمارا.
وقيل: «لا فخر» لأن من افتخر بشيء كان ابتداء افتخاره النظر إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان منهيا عن النظر إلى ما دون الحق سبحانه، لأن من نظر إلى شيء سكن إليه، والساكن إلى أمر محجوب عن غيره.
وقيل: معناه: لا فخر لي بهذه الأشياء، بل لها الفخر بي، وفخري بربي، فأنا أفتخر به لا بغيره.
#411#
وقد روي عن أبي محمد أحمد بن محمد بن الحسين الجريري، قال: سئل الجنيد عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» قال: فقال لي الجنيد رضي الله عنه: هات، أيش وقع لك في هذا؟ فقلت: يعني بقوله: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أي: هذا إعطاؤه، وأنا لا أفتخر بالعطاء، لأن فخري بالمعطي. فقال لي الجنيد: أحسنت يا أبا محمد.
ومن الأحاديث الواردة في تفضيله صلى الله عليه وسلم: ما قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبي، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد الناس يوم القيامة، أنا سيد الناس يوم القيامة» ثلاثا.
وله شاهد من حديث أنس وحذيفة وابن عباس وجماعة.
وقال أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني: حدثنا النضر بن شميل، أخبرنا أبو نعامة، حدثنا أبو هنيدة البراء بن نوفل، عن والان العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
#412#
«فيقول عيسى: انطلقوا إلى سيد ولد آدم، انطلقوا إلى محمد».
وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن صالح، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر».
تابعه بكر بن مضر عن جعفر نحوه، وخرجه الدارمي في "مسنده".
وفي "جامع الترمذي" من حديث زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر».
خرجه ابن ماجه في "سننه" من حديث عبيد الله بن عمرو الرقي،
#413#
عن عبد الله بن محمد بن عقيل به.
وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث منصور بن أبي الأسود عن ليث، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولهم خروجا إذا بعثوا، وقائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا شافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الكرامة ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف علي ألف خادم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور».
وهو في "مسند الدارمي" لمنصور.
وخرجه الترمذي من حديث عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا، لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، ولا فخر».
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وخرجه البيهقي وغيره من الأئمة.
#414#
ورواه محمد بن فضيل، عن ليث، عن عبيد الله بن زحر، عن الربيع.
تابعه حيان بن علي العنزي عن ليث –وهو ابن أبي سليم- عن عبيد الله بن زحر، عن الربيع.
حدث به أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي في "معجمه" عن خلف ابن هشام البزاز، قال: حدثنا حبان بن علي العنزي. فذكره.
ورواه خلف بن هشام أيضا فقال: حدثنا عبيس بن ميمون، عن عسل بن سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه بنحوه.
و"عبيس" و"عسل" واهيان.
وفي كتاب "السنة" لأبي بكر بن [أبي] عاصم من حديث الطفيل ابن أبي عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين كلهم وخطيبهم وصاحب شفاعتهم، ولا فخر».
رواه عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل.
وفي بعض طرقه: عن أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين، وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر».
#415#
وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن ابن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، وما من نبي يومئذ –آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر»، قال الترمذي: وفي الحديث قصة، وهذا حديث حسن.
وقال محمد بن أيوب بن الضريس، حدثنا عبد الرحمن –هو ابن مبارك- حدثنا الفضيل بن سليمان النميري، حدثنا موسى بن عقبة، عن إسحاق بن يحيى بن الوليد ابن أخي عبادة بن الصامت، عن عبادة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لسيد الناس يوم القيامة غير فخر ولا رياء، وما من الناس من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن معي لواء الحمد، فأمشي ويمشي الناس معي، حتى آتي باب الجنة فأستفتح، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد. فيقول: مرحبا بمحمد. فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا شكرا له، فيقول: ارفع
#416#
رأسك، قل تعط، واشفع تشفع» قال: «فيخرج من النار من قد احترق؛ برحمة الله وبشفاعتي».
إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة بن الصامت لم يدرك جد أبيه عبادة، وله في "سنن ابن ماجه" ستة أحاديث بهذا الإسناد –إسناد الفضيل إليه- ليس هذا الحديث منها.
وقال الليث: حدثني يزيد –هو ابن عبد الله بن الهاد- عن عمرو ابن أبي عمرو، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة يوم القيامة، ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وآتي باب الجنة وآخذ بحلقتها، فيقولون: من هذا؟ فأقول: أنا محمد فيفتحون لي، فأدخل فأجد الجبار عز وجل مستقبلي، فأسجد له، فيقول: ارفع رأسك يا محمد، تكلم يسمع منك، وقل يقبل منك، واشفع تشفع». وذكر الحديث في الشفاعة.
خرجه الدارمي في "مسنده" من حديث الليث.
وهو في "مسند أحمد بن حنبل" و"سنن النسائي" لليث.
#417#
وقال البزار في "مسنده": حدثنا محمد بن صدران، حدثنا مبارك مولى عبد العزيز بن صهيب، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة، ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم فمن دونه تحت لوائي، آتي ربي عز وجل، فيقال لي: من؟ فأقول: أحمد. فيفتح لي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجدا، فأحمده بمحامد لم يحمدها أحد قبلي ولا بعدي، يلهمنيها ربي عز وجل».
قال البزار: و"مبارك" يروي عن مولاه عبد العزيز أحاديث أكثرها تروى عن غير أنس. انتهى.
وهو مبارك بن سحيم، له مشيخة معروفة عن عبد العزيز بن صهيب، قال البخاري، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: منكر الحديث. زاد أبو زرعة: واهي الحديث، ما أعرف له حديثا صحيحا.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا علي بن زيد، عن أبي نضرة قال: خطبنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على منبر البصرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه ولا فخر».
#418#
تابعه سليمان بن حرب، عن حماد.
ورواه أبو النعمان عارم، عن حماد مختصرا.
ورواه هشيم وسفيان بن عيينة، عن علي بن زيد وهو ابن جدعان.
وروينا من حديث خلف بن خليفة، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: بلغني أن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا سيد العرب. فقال عليه الصلاة والسلام: «أنا سيد ولد آدم، وأبوك سيد كهول أهل العرب، وعلي سيد شباب أهل العرب».
وقال أبو صالح أحمد بن منصور زاج الحنظلي: حدثنا عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من تنشق عنه الأرض أنا، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي البقيع فينشق عنهم، ثم أنتظر أهل مكة فينشق، فأبعث بينهما».
وخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا عاصم بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى يحشروا بين الحرمين».
وقال المفضل بن محمد الجندي في كتابه "فضائل مكة": حدثنا أبو موسى الفروي بالمدينة –يعني: هارون بن موسى- حدثنا عبد الله بن
#419#
نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن محمد بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه.
فذكره مرفوعا بنحوه.
وخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من حديث سريج بن النعمان، حدثنا عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم يأتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة فأحشر بين الحرمين».
هكذا قال "عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن عمر"، وإنما هو أبو بكر ابن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
خرجه على الصواب المفضل بن علي الجندي في كتابه "فضائل مكة" فقال: حدثنا أبو موسى الفروي، حدثنا عبد الله بن نافع، عن عاصم بن عمر، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن سالم، عن أبيه. فذكره مرفوعا بنحوه.
وخرجه أبو يوسف يعقوب بن شيبة بن الصلت السدوسي في "مسنده" فقال: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا القداح، أخبرني القاسم بن عبد الله ابن عمر، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبعث يوم القيامة بين أبي بكر وعمر، ثم أذهب
#420#
إلى أهل البقيع الغرقد فيبعثوا معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى يأتوني، فأبعث بين أهل الحرمين».
وروي عن عبد الله بن أبي عمر وإبراهيم الغفاري، حدثنا عبد الله بن عمر ومالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبعث يوم القيامة بين أبي بكر وعمر، حتى أقف بين الحرمين: المدينة ومكة».
وهذا منكر، والأول أشبه.
وحدث أبو خالد يزيد بن عبد الرحمن الأسدي الدالاني، عن المنهال ابن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري».
خرجه الترمذي لأبي خالد، وقال: هذا حديث حسن غريب.
وخرج الترمذي أيضا من حديث سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، قال: فخرج، حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله عز وجل اتخذ من أهله خليلا، اتخذ إبراهيم خليلا. وقال آخر: ما ذا بأعجب من كلام موسى، كلمه الله تكليما.
#421#
وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلم وقال: «قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وموسى نجي الله، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر».
قال الترمذي: هذا حديث غريب.
وخرجه الدارمي في "مسنده" وأبو نعيم في "الدلائل" من حديث زمعة بن صالح وهو ضعيف، عن سلمة بن وهرام.
وقال عمرو بن عثمان الكلابي: حدثنا موسى بن أعين، عن معمر بن راشد، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشر ابن شغاف، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأول شافع ومشفع، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتي آدم فمن دونه».
خرجه أبو نعيم في "الدلائل" للكلابي هذا.
#422#
وخرجه له أيضا ابن حبان في "صحيحه"، وأبو بكر بن أبي عاصم في كتاب "السنة".
ورواه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، فقال: حدثنا شيبان بن فروخ أبو محمد الأيلي، حدثنا مهدي بن ميمون المغولي، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن بشر بن شعاف، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عنده في المسجد يوم الجمعة فقال: إن أعظم أيام الدنيا عند الله تعالى يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة، وإن أكرم خليقة الله تعالى أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يرحمك الله، فأين الملائكة؟ قال: فنظر إلي وضحك وقال: يا ابن أخي، هل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق السماء والأرض وخلق السحاب وخلق الجبال وسائر الخلائق التي لا تعصي الله عز وجل شيئا، وإن أكرم خليقة الله على الله عز وجل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وإن الجنة في السماء، وإن النار في الأرض. وذكر الحديث بطوله في الحشر.
#423#
وهو في مسند الحارث بن أبي أسامة المهدي بنحوه مختصرا.
ورواه أبو يعلى الموصلي في كتابه "التفسير المنثور".
وتقدم من طريق معمر بن سهل، عن عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، عن بشر بن شغاف، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا: «ما شيء أكرم على الله من ابن آدم» الحديث.
وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث ابن أبي السري، حدثنا مروان بن معاوية، عن يحيى اللخمي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لواء الحمد بيدي يوم القيامة، وأقرب الناس من لوائي العرب».
وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وطرق هذا الحديث متشعبة كثيرة، وشواهده جمة، ومن أجمعها ما رواه إسحاق بن بشر، وقد تركوه، عن عثمان بن عطاء، عن
#424#
أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسلت إلى الجن والإنس، وإلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم دون الأنبياء، وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا، ونصرت بالرعب أمامي شهرا، وأعطيت خواتم سورة البقرة وكانت من كنوز العرش وخصصت بها دون الأنبياء، وأعطيت المثاني مكان التوراة، والمئين مكان الإنجيل، والحواميم مكان الزبور، وفضلت بالمفصل، وأنا سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عني وعن أمتي ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة، آدم وجميع الأنبياء من ولد آدم تحته ولا فخر، وبي تفتح الشفاعة يوم القيامة ولا فخر، وأنا سابق الخلق إلى الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا إمامهم، وأمتي بالأثر».
خرجه أبو نعيم في "الدلائل" لإسحاق بن بشر.
وجاء من حديث عمرو بن مرزوق، أخبرنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل».
#425#
وخرج البخاري في "صحيحه" عن سعيد بن النضر ومحمد بن سنان واللفظ له، عن هشيم، حدثنا سيار –هو أبو الحكم- حدثنا يزيد الفقير، حدثنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة».
وخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى عن هشيم نحوه.
تابعهم أبو الربيع الزهراني عن هشيم. ورواه حفص بن عمر وعمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن واصل، عن مجاهد، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت خمسا لم يؤتهن نبي من قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ونصرت بالرعب على مسيرة شهر، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة وهي نائلة من أمتي من مات منهم لا يشرك بالله شيئا».
تابعه عمر بن ذر، عن مجاهد، خرجه أبو نعيم في "الدلائل" لهما.
وخرجه في "الحلية" من حديث: جرير، عن الأعمش، عن
#426#
مجاهد، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر بنحوه. ثم قال: وتفرد جرير بإدخال (عبيد) بين مجاهد وأبي ذر، عن الأعمش.
كذا قال في "الحلية"، وخالفه في كتابه "دلائل النبوة" فذكر أن معاوية ومندل بن علي وغيرهما، تابع جريرا على روايته.
قلت: ورواية جرير ومن تابعه أولى؛ لأن رواية مجاهد عن أبي ذر مرسلة. وقال الأعمش في رواية ابن إسحاق عنه: كان مجاهد يرى أن (الأحمر): الإنس و(الأسود): الجن.
والحديث عند مجاهد أيضا عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهم.
قال أبو عبد الرحمن المقرئ: حدثنا يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، حدثني خازم بن خزيمة البصري –من تيم الرباب- عن مجاهد أبي الحجاج المكي، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فجئت ذات ليلة إلى المكان الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضطجع فيه، فلم أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مضجعه، فعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقامته الصلاة فتلفت
#427#
ورميت ببصري يمينا وشمالا، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي إلى شجرة فهويت نحوه، فإذا رجل قبلي أخرجه مثل الذي أخرجني، فقمت أنا وهو خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم نصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان بين ظهري صلاته سجد سجدة فظننت أن قد قبض فيها، فابتدرنا فجلسنا بين يديه أنا وصاحبي، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألنا فقال: «هل أنكرتم من صلاتي الليلة شيئا؟».
قلنا: نعم يا رسول الله، سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة حتى ظننا أن قد قبضت فيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني أعطيت فيها خمسا لم يعطهن نبي قبلي: أني بعثت إلى الناس كافة أحمرهم وأسودهم، وكان النبي يبعث إلى أهل بيته وإلى أهل قريته، ونصرت على عدوي بالرعب مسيرة شهر أمامي وشهر خلفي، وأحلت لي الغنائم والأخماس ولا تحل لأحد قبلي، كانت الأخماس تؤخذ فتوضع فتنزل عليها نار من السماء فتحرقها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أصلي منها حيث أدركتني الصلاة، وأعطيت دعوة ادخرتها شفاعة لأمتي يوم القيامة».
قال مجاهد: قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال صاحبي لي وكان أفضل مني: نسيت أفضلها وأخيرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أرجو أنها لمن مات لا يشرك بالله شيئا».
وذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن صاحبه ذلك كان أبا ذر الغفاري رضي الله عنه.
تابعه مزاحم بن زفر عن مجاهد.
#428#
ويدل على أن أبا ذر كان مع أبي هريرة رضي الله عنهما تلك الليلة ما رواه المغيرة ابن سقلاب، عن عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان أبو ذر إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال خليلي وفعل خليلي صلى الله عليه وسلم -وكان لا يسميه باسمه- قال: سرنا مع خليلي صلى الله عليه وسلم فآوانا الليل إلى منزل بتنا فيه إلى بعض، فلم أر خليلي صلى الله عليه وسلم على فراشه، فأفزعني ذلك فقمت أطلب أثره، فوافقت رجلا من القوم أفزعه الذي أفزعني، فطلبت بأثره، فدفعنا إليه ساجدا تحت شجرة، فقعدنا ننتظر انصرافه حتى تحدثنا بيننا: أن عينه قد غلبته، وائتمرنا أن نوقظه وذلك بسمعه، ثم أقبل علينا بوجهه صلى الله عليه وسلم فقال: «ماذا قلتما؟»، قالا: قلنا: يا رسول الله، فقدناك عن فراشك، فأفزعنا ذلك، فطلبنا أثرك، فدفعنا إليك ساجدا، فقعدنا ننتظر انصرافك، وطال علينا سجودك، حتى تحدثنا أن عينك قد غلبتك وائتمرنا أن نوقظك. قال: «لا، ولكن الله تعالى أعطاني خمس خصال لم يعطها أحد قبلي ..» وذكر الحديث، وفيه: «وأرسل إلى كل نبي يعرض عليه مسألة يسألها ربه، فتعجل كل نبي مسألته وأعطيها في الدنيا، وسألت ربي أن يؤخر لي مسألتي إلى يوم القيامة، ففعل ذلك بي، وجعلتها في أمتي، وهي بالغة إن شاء الله من مات وهو لا يشرك بالله شيئا».
#429#
وقال الحسن بن الطيب البلخي: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر ابن مضر، عن ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم قال لهم: «لقد أعطيت الليلة خمسا: أولهن: فأرسلت إلى الناس كلهم، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت بالرعب على عدوي، ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ مني رعبا، وأحلت لي الغنائم كلها، فكان من قبلي يعظمونها، كانوا يحرمونها، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كان يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة: قيل لي: سل؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله».
وروي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، عن محمد بن علي –يعني: ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء». قلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال: «نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم».
#430#
خرجه يعقوب بن شيبة في "مسنده" فقال: حدثناه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي، حدثنا زهير –يعني: ابن محمد- عن عبد الله بن محمد –يعني: ابن عقيل- فذكره.
وله شواهد وطرق، منها ما قال قتيبة بن سعيد: حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على النبيين بست: أوتيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم إذ أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فجعلت في يدي، وأرسلت إلى الناس كافة، وأحلت لي المغانم، وختم بي النبوة».
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: لم يجتمع الملك والنبوة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وموسى وداود وسليمان –صلى الله عليهم وسلم- وقال صلى الله عليه وسلم: «عرض علي الأولون والآخرون بين يدي حجرتي هذه الليلة آدم وذريته». قالوا: ومن كائن من أمتك؟ قال: «نعم، مثلوا لي فعرفتهم كما علم آدم الأسماء كلها».
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط: حدثنا أحمد بن مسعود،
#431#
حدثنا عمرو بن أبي سلمة، حدثنا صدقة بن عبد الله، عن زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجنة حرمت على الأنبياء قبلي حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي».
قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا ابن عقيل، ولا عن ابن عقيل إلا زهير، ولا عن زهير إلا صدقة، تفرد به عمرو بن أبي سلمة.
وروى سفيان بن عيينة، عن ابن جدعان، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة، فأقعقعها فيفتحها الله عز وجل».
وفي "صحيح مسلم" من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».
#432#
وخرجه أبو القاسم الطبراني وفيه: قال: «فيقوم فيقول الخازن: لا أفتح لأحد قبلك ولا أقوم لأحد بعدك».
قيل: قيام الخازن لنبينا صلى الله عليه وسلم إظهار لمزيتة وعلو مرتبته، ولا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمة الخازن، وهو كالملك عليهم، ويقيمه الله في خدمة عبده ورسوله حتى يمشي إليه ويفتح له الباب.
وثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول شفيع من الجنة، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد».
وعن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة».
خرجهما مسلم في "صحيحه" للمختار بن فلفل، عن أنس رضي الله عنه.
وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
وحدث زائدة بن قدامة، عن المختار بن فلفل، عن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صدق نبي ما صدقت، إن من الأنبياء من لا يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد».
#433#
تابعه القاسم بن مالك المزني فيما رواه موسى بن هارون، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني القاسم بن مالك المزني، عن المختار ابن فلفل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، إن من الأنبياء لمن يأتي يوم القيامة ما معه مصدق غير واحد».
وتابعهما عبد الرحيم بن سليمان فيما حدث به موسى أيضا عن عبد الله بن عمر بن أبان عنه، حدثنا المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده الأنبياء فقال: «أنا أكثر الأنبياء يوم القيامة تبعا، إن من الأنبياء لمن يأتي يوم القيامة وما معه مصدق غير رجل واحد».
وحدث أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا محمد بن سليمان لوين، قال: حدثنا عيسى بن يونس، عن زكريا بن أبي زائدة [عن عطية العوفي] عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة».
#434#
وقال أبو القاسم البغوي أيضا: حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي من أمتي يوم القيامة مثل الليل والسيل يحطم الناس حطمة واحدة، تقول الملائكة: لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم من أمته أكثر مما جاء مع سائر الأنبياء صلى الله عليهم وسلم».
وفي هذه الأحاديث الدلالة الصريحة بكثرة اتباع نبينا صلى الله عليه وسلم دون اتباع غيره من الأنبياء –صلى الله عليهم وسلم- فإن النبي منهم كان يأتي بالآية فتنقضي بموته فيقل من يتبعه، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي القرآن باقية بعده في كل عصر وأوان، فيؤمن بالله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من لا يحصى بالقرآن على ممر الزمان، ولأجل هذه الفضيلة العظمى والمزية العليا بكى موسى صلى الله عليه وسلم بكاء غبطة غبط بها نبينا صلى الله عليه وسلم، ولهذا هذه الأمة زادها الله شرفا ثلثا أهل الجنة.
خرج الترمذي من حديث أبي سنان ضرار بن مرة، عن محارب ابن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون صفا ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم».
قال الترمذي: هذا حديث حسن.
#435#
وخرجه ابن ماجه، وأحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" وقال: إسناده على شرط الصحيح.
وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده"، والقاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه "الشفاعة"، وابن حبان في "صحيحه" من طريق علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه مرفوعا به.
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، أخبرنا سويد بن سعيد، حدثنا القاسم بن غصن، عن موسى الجهني، عن أبي بردة، عن أبي موسى رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منها ثمانون».
عزيز من رواية موسى بن عبد الله –ويقال: عبد الرحمن- الجهني، عن أبي بردة –واسمه: عامر-.
وجاء عن موسى الجهني، عن الشعبي مرسلا، حدث به أبو السري هناد بن السري التميمي الكوفي في كتاب "الزهد" –من تأليفه- عن
#436#
يعلى –يعني: ابن عبيد- الطنافسي، عن موسى الجهني، عن الشعبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أيسركم أن تكونوا نصف أهل الجنة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أمتي ثلثا أهل الجنة، وإن الناس يوم القيامة عشرون ومائة صف، أمتي من ذلك ثمانون صفا».
وهو في "مسند أحمد بن حنبل" وفي "معجم الطبراني الكبير" من حديث ابن مسعود وابن عباس، وفي إسناديهما مقال.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حصيرة، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه، عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم وربع أهل الجنة، لكم ربعها ولسائر الناس ثلاثة أرباعها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فكيف أنتم وثلثها». قالوا: فذلك أكثر. قال: «كيف أنتم والشطر؟» قالوا: فذاك أكثر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف أنتم منها ثمانون صفا».
وله شاهد من حديث أبي هريرة ومعاوية بن حيدة، وأمثل هذه الطرق طريق بريدة التي تقدمت.
وخرج القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل في كتابه "الشفاعة" فقال: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن
#437#
محمد بن عبد الرحمن بياع الملاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت : {ثلة من الأولين . وقليل من الآخرين}، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم ثلث أهل الجنة» وقال: «ربع أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الباقي».
وهو في "معجم الطبراني" ولفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ثلة من الأولين . وثلة من الآخرين} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنتم ربع أهل الجنة، أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة».
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد بن أبي مزاحم البغدادي، حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج البغدادي، حدثنا محمد بن نوح السراج، حدثنا إسحاق الأزرق، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أمة إلا وبعضها في النار وبعضها في الجنة، إلا أمتي فإنها كلها في الجنة».
#438#
لم يروه عن عبيد الله إلا إسحاق. قاله الطبراني.
وقال الطبراني أيضا في "معجمه الأوسط" : حدثنا أحمد بن طاهر –يعني: ابن حرملة- حدثنا جدي حرملة، حدثنا حماد بن زياد البصري، حدثنا حميد الطويل وكان جارا لنا، سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أمتي أمة مرحومة متاب عليها، تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تمحص عنها ذنوبها باستغفار المؤمنين».
قال العلامة أبو محمد بن عبد السلام في "بداية السول فيما سنح من تفضيل الرسول" صلى الله عليه وسلم: وقد فضل الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم من وجوه، فذكرها، قال:
ومنها: أن الله تعالى يكتب لكل نبي من الأنبياء عليهم السلام من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها، وأمته شطر أهل الجنة.
#439#
قلت: وقد قدمنا آنفا أنهم ثلثا أهل الجنة، لحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه الذي ذكرناه وأشرنا إلى غيره، وحديث "شطر أهل الجنة" مخرج في "الصحيحين" وغيرهما من كتب الأئمة.
قال أبو محمد ابن عبد السلام: قد أخبر الله تعالى أنهم خير أمة أخرجت للناس، وإنما كانوا خير الأمم لما اتصفوا به من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، فما من معرفة ولا حالة ولا عبادة ولا مقالة ولا شيء مما يتقرب به إلى الله تعالى مما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليه إلا وله صلى الله عليه وسلم أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة [لقوله صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة»] ولا يبلغ أحد من الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- إلى هذه المرتبة، وقد جاء في الحديث: «الخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله»، فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجنة، وغيره من الأنبياء عليه السلام إنما نفع جزءا من أجزاء الشطر الآخر، كانت منزلته صلى الله عليه وسلم في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله مثل أجر معرفته مضافا إلى معارفه صلى الله عليه وسلم، وما من ذوي حال من أمته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجره على حاله مضموما إلى أحواله صلى الله عليه وسلم، وما من ذي
#440#
مقال يتقرب به إلى الله تعالى إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر ذلك القول مضموما إلى مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال المقربة إلى الله تعالى من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر عامله مضموما إلى أجره على أعماله، وما من درجة علية ومرتبة سنية نالها أحد من أمته بإرشاده ودلالته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجرها مضموما إلى درجته صلى الله عليه وسلم ومرتبته، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدى أو سن سنة كان له أجر من عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون هذا المضاعف لنبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه دل عليه وأرشد إليه، ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها نبينا صلى الله عليه وسلم، إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام ولم يبك حسدا كما يتوهمه بعض الجهلة، وإنما بكى أسفا على ما فاته من مثل مرتبته صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن الله تعالى أرسل كل نبي إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس، فلكل نبي من الأنبياء عليهم السلام ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، تارة لمباشرة الإبلاغ، وتارة بالسبب إليه، ولذلك تمنن –تعالى- عليه بقوله: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا}، ووجه التمنن: أنه تعالى لو بعث في كل قرية نذيرا لما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لقريته. انتهى.
#441#
وخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث زائدة، عن المختار بن فلفل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صدق نبي ما صدقت، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا رجل واحد».
والحديث الذي ذكره أبو محمد بن عبد السلام في كلامه المتقدم: «الخلق عيال الله .. .. » رواه موسى بن عمير الأعمى عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: «الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»، وفي لفظ: «فأحب الخلق إلى الله من أحسن إلى عياله».
خرجه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "فضيلة المحتسبين في الإنفاق على البنات"، وقال: لم يروه عن إبراهيم النخعي إلا الحكم بن عتيبة، وهو حديث ثابت.
قلت: ليس بثابت، وإسناده واه جدا، لأن موسى بن عمير هو: أبو هارون الجعدي مولى آل جعدة بن هبيرة، رماه أبو حاتم الرازي بالكذب.
وضعفه ابن نمير وأبو زرعة الرازي وأبو حاتم ابن حبان وأبو الحسن الدارقطني.
و(موسى) هذا غير (موسى بن عمير الأنصاري) الذي حدث عن أبيه، وروى عنه أبو الجحاف داود بن أبي عوف.
#442#
ولهم (موسى بن عمير) آخر وهو: العنبري، روى عن علقمة بن وائل، لكن ابن حبان جعل هذا و(الجعدي) واحد، وغيره فرق بينهما.
أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله الفارقي بقراءتي عليه، أخبرنا الأمين محمد بن أبي بكر الحلبي حضورا، أخبرنا يوسف بن محمود الساوي سماعا، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الحاجب، أخبرنا أبو القاسم عبد الملك بن محمد، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال: حضرت باب الشماسية والمأمون يجري الخيل في الحلبة ومعه يحيى بن أكثم، فجعل ينظر في الناس ويجيل طرفه، وكنت في موضع أقرب منه، فسمعته يقول ليحيى: أما ترى؟! –يعني: كثرة الناس-! ثم قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه قال: الخلق كلهم عيال الله، فأحب الخلق إليه أنفعهم لعياله.
#443#
تفرد به عن المأمون أحمد بن إبراهيم، فيما قاله أبو نعيم.
تابعه أحمد بن جعفر بن سلم الختلي وأبو الفرج محمد بن سعيد بن عبدان وأبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح الأبهري المالكي وغيرهم عن البغوي ونحوه.
وبالسند المتقدم إلى أبي القاسم البغوي رحمه الله.
وحدثناه شجاع ، بن مخلد وأحمد بن إبراهيم، قالا: حدثنا يوسف بن عطية. فذكر مثله.
وهذا حديث منكر، ووقع لنا عاليا، وله طرق واهية، ولا يصح شيء منها، والله أعلم.
ومن الأحاديث الواردة في فضل نبينا صلى الله عليه وسلم:
ما روي عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن الله عز وجل فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء.
قالوا: يا أبا عباس، بما فضله على أهل السماء؟
قال: لأن الله –سبحانه- قال لأهل السماء: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين}، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}.
قالوا: فما فضله على الأنبياء؟
قال: لأن الله عز وجل يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم}.
وقال عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلناك إلا كافة للناس}، فأرسله الله سبحانه إلى الجن والإنس.
#444#
خرجه أبو القاسم الطبراني في "معجمه الكبير"، وأبو محمد الدارمي في "مسنده" واللفظ له، من حديث يزيد بن أبي حكيم، عن الحكم.
ورواه عباس بن عبد الله الترقفي عن حفص بن عمر –هو: العدني- عن الحكم.
وحدث به الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار" عن بكر بن حمدان، حدثنا عبد الصمد بن الفضل، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر العدني بمكة، حدثنا الحكم بن أبان فذكره.
تابعهما محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن حفص بن عمر بنحوه.
وخرجه أبو حفص عمر بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة" وهو آخر حديث فيه، فقال: حدثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا موسى بن عبد العزيز، حدثني الحكم بن أبان. فذكره.
وقال محمد بن الصباح الدولابي، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبي في قوله –تبارك وتعالى-: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله}، قال موسى عليه السلام: {ورفع بعضهم درجات} قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
#445#
ورواه أبو إسماعيل الترمذي، حدثنا علي بن جعفر الأحمر، حدثنا أحمد بن بشير، عن مجالد نحوه.
وقوله تعالى: {منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} التفضيل الأول صريح في أصل المفاضلة، والثاني في تضعيف المفاضلة بدرجات، ونكرها تنكير التعظيم، بمعنى: درجات أي درجات!.
قاله أبو محمد ابن عبد السلام في ذلك الإملاء: "بداية السول".
ومن هذه الدرجة ما خرجه أبو نعيم في "الدلائل" وغيره من الأئمة من حديث عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما خلق الله عز وجل وما ذرأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله عز وجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}.
وخرجه أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في "المجالسة" لعمرو.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لعمرك} قال: بحياتك يا محمد.
#446#
وحدث به أبو إسماعيل الترمذي عن مسلم بن إبراهيم، ثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما خلق الله –تبارك وتعالى- ولا ذرأ ولا برأ نفسا هي أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله عز وجل يحلف بحق أحد غيره فقال: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون}.
وهذا الحديث له طرق، لكن مدارها على عمرو النكري، وفيه مقال.
وجاء من طريق غيره، رواه الحسين بن محمد بن علي الأزدي في جمعه وجوه قراءات وتفاسير عن أهل البيت، فقال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لعمرك} قال: وحياتك.
وأقسم بحياته، والإقسام بحياة المقسم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المقسم بها، وإن حياته صلى الله عليه وسلم بالجدير أن يقسم بها لما كان فيها من البركة العامة والخاصة، ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم.
قاله أبو محمد ابن عبد السلام في "بداية السول".
وقال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في كتابه "أحكام القرآن" في هذه الآية: قال المفسرون بأجمعهم: أقسم الله تعالى هاهنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفا له: أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون.
#447#
قالوا: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله تعالى أقسم بحياة أحد غيره.
قال: وهذا كلام صحيح، وما أدري ما الذي أخرجهم عن ذكر لوط عليه السلام إلى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وما الذي يمنع أن يقسم الله بحياة لوط عليه السلام ويبلغ به من التشريف ما شاء؟! فكل ما يعطيه الله عز وجل للوط ويؤتيه من شرف فلمحمد صلى الله عليه وسلم ضعفاه؛ لأنه أكرم على الله منه، أولا تراه قد أعطى لإبراهيم عليه السلام الخلة، ولموسى عليه السلام التكليم، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد صلى الله عليه وسلم أرفع، ولا يخرج من الكلام إلى كلام آخر لم يجر له ذكر لغير ضرورة. انتهى.
وهذا الذي ذكره ابن العربي حسن، لكن المفسرون تمسكوا بأثر ابن عباس –ترجمان القرآن- الذي تقدم ذكره، وهو الذي أخرجهم من ذكر لوط عليه السلام إلى ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والمفسرون خصوصا المحدثون منهم لا يعدلون عن خبر في التفسير ولا أثر، لا سيما عن حبر الأمة وترجمان القرآن إلى غير ذلك.
وقال أبو محمد عبد الله بن جعفر بن الورد: حدثنا علي بن محمد –هو: ابن عبد الله الأنصاري- حدثنا أبو محمد عمرو بن سواد السرحي، سمعت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله يقول: ما أعطى الله عز وجل نبيا قط إلا وقد أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم أكبر منه. قال عمرو: فقلت له: قد أعطى عيسى عليه السلام أكبر منه، أنه يحيي الموتى؟ قال الشافعي: فالجذع قبل أن يجعل له المنبر حين حن إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
#448#
وحدث به أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم فقال: حدثني أبي، أخبرني عمرو بن سواد السرحي، قال: قال لي الشافعي رضي الله عنه: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم. فقلت: أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى. فقال: أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم الجذع الذي كان يقف يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر، [فلما هيئ له المنبر] حن الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكثر من ذلك. انتهى.
فكل فضل أعطيه نبي من الأنبياء عليهم السلام فلنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك الحظ الجزيل والنصيب الجليل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأكرم الأولين والآخرين كما تقدم في تلك الأحاديث السابقة.
قال أبو محمد ابن عبد السلام في "بداية السول": و(السيد): من اتصف بالصفات العلية والأخلاق السنية، وهذا مشعر بأنه أفضل منهم في الدارين:
أما في الدنيا: فلما اتصف به من الأخلاق الشريفة.
وأما في الآخرة: فإن جزاء الآخرة مرتب على الأوصاف والأخلاق، فإذا فضلهم في الدنيا في المناقب والصفات؛ فضلهم في الآخرة في المراتب والدرجات. انتهى.
#449#
وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا ابن لهيعة، عن دراج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن ربك وربي عز وجل يقول: كيف رفعت ذكرك؟ قال: الله أعلم. قال: إذا ذكرت ذكرت معي».
خرجه ابن حبان في "صحيحه".
ورواه الوليد بن مسلم، والحسن بن موسى الأشيب، وأبو الأسود النضر بن عبد الجبار، عن ابن لهيعة.
تابعهم يحيى بن عبد الله بن بكير فقال: حدثني ابن لهيعة.
ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال لي جبريل عليه السلام: إن ربك عز وجل يقول لك: أتدري كيف رفعت لك ذكرك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: قال الله عز وجل: إذا ذكرت ذكرت معي».
وأخبرنا عبد القادر الأرموي بقراءتي عليه، أخبرتك فاطمة بنت العز بن أبي عمر، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم، أخبرنا أبو الفضل
#450#
إسماعيل بن علي، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن السمرقندي، أخبرنا عبد الدائم بن الحسن، أخبرنا عبد الوهاب الكلابي، أخبرنا محمد بن خريم، حدثنا هشام بن عمار، ثنا الوليد، حدثنا خليد بن دعلج وسعيد ابن بشير، عن قتادة في قول الله تعالى: {ورفعنا لك ذكرك} قال: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد إلا يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله.
وحدث به حميد بن الربيع، عن سفيان، عن [ابن] أبي نجيح، عن مجاهد في قوله عز وجل: {ورفعنا لك ذكرك} قال: لا أذكر إلا وذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وحدث به أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو محمد بن صاعد، ثنا أبو عبيد الله المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره بنحوه.
وقال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي،
#451#
حدثنا محمد بن ميمون الخياط، حدثنا سفيان قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي في هاتين الآيتين من ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: {ورفعنا لك ذكرك} قال: لا أذكر إلا ذكرت معي: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. وفي قول الله عز وجل: {وإنه لذكر لك ولقومك}، وقال: يقال: ممن هذا الرجل؟ فيقال: من العرب. فيقال: من أي العرب؟ فيقال: من قريش.
وثبت من حديث إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية البيت، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقول: هلا وضعت هذه اللبنة. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».
خرجاه في "الصحيحين" لإسماعيل، رواه عنه قتيبة –واللفظ له- وعلي بن حجر، ويحيى بن أيوب.
وهو في "الصحيح" أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وقال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي في النبيين كمثل رجل
#452#
بنى دارا فأحسنها وأكلملها وأجملها، وترك منها موضع لبنة، فجعل الناس يطوفون بالبناء ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع تلك اللبنة، وأنا في النبيين بموضع تلك اللبنة».
وحدث محمد بن سعد في "الطبقات" عن عمرو بن عاصم، حدثنا أبو هلال، عن قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث».
هذا مرسل.
وقد حدث به كذلك أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه"، عن عمه أبي بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة، عن سعيد، عن قتادة. فذكره بنحوه مرسلا.
ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
وقال ابن أبي حاتم في "تفسيره": حدثنا أبو زرعة الدمشقي، حدثنا محمد بن بكار، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني قتادة، عن الحسن، عن
#453#
أبي هريرة رضي الله عنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية –يعني: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأه قبلهم».
وحدث به محمد [بن محمد] بن سليمان الباغندي، عن هارون ابن محمد بن بكار بن بلال، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث»، قال: وذلك قول الله عز وجل: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}. فبدأ به صلى الله عليه وسلم.
ورواه أحمد بن سليمان بن حذلم، حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، حدثنا أبو الجماهر –وهو محمد بن عثمان التنوخي-، حدثنا سعيد بن بشير، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث».
#454#
وحدث به الوليد بن مسلم، عن خليد بن دعلج وسعيد، عن قتادة به.
وجاء من حديث أنس عن أبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أول الناس في الخلق، وآخرهم في البعث».
والمرسل أشبه.
وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" عن صالح بن مرداس أبي خزيمة، سمعت الحسن: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث»، ثم قرأ: {ومنك ومن نوح}.
وفي تفسير سفيان بن عيينة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة في قوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم آخرا، وبدئ به أولا.
وخرج أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه" الشريعة" عن سعيد بن راشد، سألت عطاء: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم نبيا قبل أن يخلق؟ قال: إي والله، وقبل أن تخلق الدنيا بألفي عام.
عطاء هذا أظنه الخراساني.
#455#
وخرج الطبراني من حديث بقية بن الوليد، حدثني صفوان بن عمرو، عن حجر بن مالك الكندي، عن أبي مريم الكندي قال: أقبل أعرابي من بهز حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي شيء كان من أمر نبوتك أول؟ قال: «أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين
#456#
ميثاقهم» وتلا: {ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا}.
«وبشر بي المسيح عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت لها منه قصور الشام».
فقال الأعرابي: هاء. وأدنى رأسه منه، وكان في سمعه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ووراء ذلك، ووراء ذلك» مرتين أو ثلاثا.
وقال أبو محمد دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين": حدثنا موسى بن هارون وابن شيرويه وإبراهيم بن أبي طالب قالوا: حدثنا إسحاق بن راهويه، أخبرنا بقية بن الوليد، أخبرنا أبو بكر بن أبي مريم، حدثني سعيد بن سويد الكلبي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه:
#457#
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم}، وبشارة عيسى ابن مريم قومه: {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}، ورؤيا أمي: رأت في منامها أنها وضعت نورا أضاءت منه قصور الشام».
ورواه عثمان بن سعيد الدارمي، عن أبي اليمان، عن أبي بكر بن أبي مريم.
ورواه أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن، حدثنا عمرو بن بشر بن السرح، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم بنحوه.
#458#
تابعه أبو اليمان، عن أبي بكر بن أبي مريم.
ورواه إسحاق بن منصور، حدثنا أبو المغيرة، أخبرنا أبو بكر بن أبي مريم، حدثنا سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية مرفوعا به.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه "الدلائل": قصر أبو بكر بن أبي مريم في إسناده، فلم يذكر فيه عبد الأعلى بن هلال.
قلت: رواه معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال، وذلك فيما قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا الحسن بن سوار أبو العلاء الخراساني، حدثنا ليث بن سعد ح.
وقال أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" واللفظ له: حدثنا الحسن بن صالح، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية مرفوعا نحوه.
وفي هذا الإسناد زيادة "الليث" بين: (عبد الله بن صالح) و (معاوية بن صالح)، وعبد الله بن صالح سمع منهما، فيحتمل أن يكون سمعه أولا
#459#
من (عبد الله) ثم سمعه من (معاوية) عاليا.
وهكذا حدث به يعقوب بن سفيان في "تاريخه" عن أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى؛ فلم يذكر الليث. والله أعلم.
وخرجه الطبراني في "معجمه" فقال: حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا علي بن عياش الحمصي، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، حدثني ابن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، فسأخبركم عن ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين يرين، وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام».
وحدث به أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا علي بن الحسين بن سليمان بالفسطاط، حدثنا الحارث بن مسكين، حدثنا ابن وهب، قال: وأخبرني معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد،
#460#
عن عبد الأعلى بن هلال، عن العرباض بن سارية الفزاري، فذكره مرفوعا بنحوه.
وخرج أحمد بن حنبل في "مسنده"، والحاكم في "مستدركه"، وصحح إسناده.
وخرج ابن سعد في "الطبقات"، وأحمد بن حنبل والروياني في "مسنديهما"، والطبراني في "معجمه الكبير" من حديث فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة رضي الله عنه: قال: قيل: يا رسول الله، ما كان بدء أمرك؟ فقال: «دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام».
وهو في"شرح السنة" لأبي القاسم اللالكائي من حديث علي بن الجعد، عن فرج بن فضالة، وفيه: «وبشرى عيسى» مكان «وبشر بي عيسى».
ورواه أبو القاسم البغوي.
ووقع في "مسند الحارث بن أبي أسامة" "علقمة بن عامر" مكان
#461#
"لقمان بن عامر"، وهو تصحيف، والله أعلم.
وله شاهد من حديث أنس وأبي ذر وشداد بن أوس وغيرهم، رضي الله عنهم.
وقال هشام بن عمار في "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «بين خلق آدم ونفخ الروح فيه».
وقال أيضا: حدثنا محمد بن شعيب القرشي، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، فذكره كذلك.
وحدث به أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن الوليد بن شجاع، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.
تابعه أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه"، فحدث به عن الوليد بن شجاع.
وخرجه الترمذي من طريق الأوزاعي موصولا كذلك.
#462#
ولفظه: قال: قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوة؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" وصححه، وله طرق:
منها: ما رواه خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الطبري بـ(صور)، حدثنا حفص بن عمر البصري، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم منجدل في طينته».
ورواه أبو الطيب طاهر بن علي، حدثنا إبراهيم بن سلمة، حدثنا محمد بن شعيب، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «بين خلق آدم ونفخ الروح فيه».
ورواه هشام بن عمار في "المبعث" فقال: حدثنا محمد بن شعيب القرشي، حدثنا الأوزاعي، عن أبي عبيد الله أنه حدثه أن رسول الله
#463#
صلى الله عليه وسلم سئل: متى وجبت لك النبوة؟ قال: «رحمة ربي ودعوة أبي إبراهيم وآدم منجدل في الطين».
ومعنى الحديث:
أن الله تعالى أظهر نبوته صلى الله عليه وسلم للملائكة قبل تمام خلق آدم عليه السلام، وليس معنى الحديث أنه قدر ذلك الوقت أنه نبي، كما قال بعضهم، فإن ذلك التقدير والعلم كان أزليا قبل خلق آدم بجيمع الكائنات، فأي خصوصية تبقى لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك؟!
قال ذلك بقية المجتهدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم الشافعي رحمه الله.
وقد سبقه إلى معناه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني فقال في "الدلائل" –بعد روايته الحديث الذي تقدم قبل-: ففي هذا الحديث الفضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم، ويحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه وقضائه من بعثه له صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.
قلت: ويعضد هذا ما رواه عبد الرحمن بن حمدان بن عبد الرحمن أبو محمد إملاء، قال: حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا ابن نفيل، حدثنا
#464#
عمرو بن واقد، عن عروة بن رويم، عن الصنابحي قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ، متى خلقت نبيا؟ قال: «وآدم منجدل في الطين».
وقال عبد الرحمن بن حمدان أيضا: حدثنا عثمان بن خرزاذ، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا أبو معاوية، عن إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
وحدث محمد بن سعد في "الطبقات" عن الفضل بن دكين أبي نعيم، حدثنا إسرائيل بن يونس، عن جابر –هو: الجعفي- عن عامر –يعني: الشعبي- قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: متى استنبئت؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق».
وخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" موصولا من حديث قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
#465#
وخرجه في "المعجم" أيضا من حديث يحيى بن كثير أبي النضر، عن جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قلت: يا رسول الله، متى أخذ ميثاقك؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
وقال الحافظ أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة": حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا حماد بن سلمة، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن [ابن] أبي الجدعاء قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبيا؟ قال: «إذ آدم بين الروح والجسد».
وقال: حدثنا عمر بن حبيب الأنصاري، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
قال: حدثنا الفريابي، عن سفيان، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، غير أنه قال: متى كنت نبيا.
وقال القاسم بن عيسى الواسطي: حدثنا هشيم، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن أبي الجدعاء قال: قال رجل: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
#466#
تابعه حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء مثله.
خرجه البغوي في "معجمه" عن أبي يحيى الجحدري كامل بن طلحة عن حماد.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عفان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابي، قالا: حدثنا حماد بن سلمة فذكره.
ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي: حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن رجل قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبيا؟ قال: «إذ آدم صلى الله عليه وسلم بين الروح والجسد».
تابعه وهيب فيما رواه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبي وعمي أبو بكر، قالا: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث.
ورواه القاضي إسماعيل أيضا مرسلا فقال: حدثنا عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن خالد، كلاهما عن عبد الله بن شقيق قال: قيل: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
هذا حديث بديل، وقد ألزم الدارقطني الشيخين إخراج هذا الحديث في "الصحيح".
#467#
وله طرق غير هذه، منها:
ما قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن سنان أبو بكر العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبيا؟ قال: «كتبت نبيا وآدم بين الروح والجسد».
وخرجه أبو محمد دعلج في كتابه "مسند المقلين" فقال: حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا محمد بن سنان العوقي. فذكره.
تابعهما أحمد بن إسحاق بن صالح وأحمد بن محمد بن عيسى القاضي ومحمد بن إسماعيل بن يوسف السلمي والحسن بن سلام السواق، عن العوقي. مثله.
ورواه أبو عمرو بن نجيد عن محمد بن أيوب الرازي به.
وحدث به شعيب بن حرب عن إبراهيم بن طهمان.
وقال ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن منصور بن سعد، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله. فذكر مثل حديث محمد بن سنان العوقي عن إبراهيم بن طهمان.
وحدث به عن يحيى بن معين أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه".
#468#
تابعه مطين وزيد بن أخزم وعباس العنبري ويعقوب الدورقي، عن ابن مهدي.
وهو عند ابن مهدي أيضا عن الثوري، عن بديل، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ فقال الناس: مه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد».
رواه سليمان الشاذكوني عن ابن مهدي.
و(ميسرة) صحابي يعد في أعراب البصرة، قال ابن القاص –فيما بلغنا عنه-: واسم (ميسرة): عبد الله بن أبي الجدعاء، وميسرة لقب له.
وما قاله ابن القاص لم أره لغيره، لكن أشار إلى قوله الذهبي في "التجريد" فقال: عبد الله بن أبي الجدعاء، وقيل: ابن أبي الحمساء، قيل: هو تميمي، وقيل: كناني.
روى عنه عبد الله بن شقيق غير حديث، وقيل: إنه ميسرة الفجر. انتهى.
#469#
والجمهور على أنهم ثلاثة، قال الإمام مسلم بن الحجاج في كتابه "المنفردات والوحدان": ومنهم (عبد الله بن أبي الجدعاء)، و(عبد الله بن أبي الحمساء)، و(ميسرة الفجر) لم يرو عنهم إلا عبد الله ابن شقيق.
وحديث ميسرة هذا خرجه الإمام أحمد في "مسنده" وعنده: (متى كنت نبيا)، وهو في "مستدرك الحاكم" وكتاب "السنة" لأبي بكر بن أبي عاصم بنحوه.
وجاء بزيادة فيما رواه أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، حدثنا محمد بن صالح، حدثنا محمد بن سنان العوقي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة قال: قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال: «لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش كتب على ساق: محمد رسول الله خاتم الأنبياء. وخلق الله تعالى الجنة التي أسكنها آدم وحواء، وكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي، فأخبره الله تعالى أنه سيد ولدك، فلما غيرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه».
#470#
وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي في كتابه "الديباج" فقال: حدثنا زكريا بن يحيى بن محمد بن زفر الأصبهاني، حدثنا محمد ابن خالد الهاشمي الدمشقي، حدثنا محمد بن حميد الحمصي، حدثنا صفوان بن عمرو السكسكي، عن سريج بن عمير.
قال: كذا قال، فقلت: إنما سريج بن عبيد قال: كذا هو عندنا عن [ابن] أبي الشمر التدمري، عن كعب الأحبار: إن الله تعالى أنزل على آدم صلى الله عليه وسلم عصيا بعدد الأنبياء المرسلين، ثم أقبل على ابنه (شيث) فقال: أي بني، أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله تعالى فاذكر إلى جنبه اسم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإني رأيت اسمه مكتوبا على ساق العرش وأنا بين الروح والجسد، ثم إني طفت السموات فلم أر في السموات موضعا إلا رأيت اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا عليه، وإن ربي أسكنني الجنة، فلم أر في الجنة قصرا ولا غرفة إلا رأيت اسم محمد مكتوبا عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوبا على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجر طوبى، وعلى سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، وأكثر من ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها.
إسناده واه جدا من قبل محمد بن خالد وابن حميد وغيرهما.
#471#
وخرج أبو بكر ابن أبي الدنيا من حديث سعيد بن جبير قال: «اختصم ولد آدم: أي الخلق أكرم على الله تعالى؟ فقال بعضهم: آدم، خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته، وقال آخرون: بل الملائكة الذين لم يعصوا الله عز وجل، فذكروا ذلك لآدم عليه السلام، فقال: لما نفخ في الروح لم تبلغ قدمي حتى استويت جالسا، فبرق لي العرش، فنظرت فيه: محمد رسول الله، فذلك أكرم الخلق على الله عز وجل».
وقال أبو الحسين محمد بن المظفر: حدثنا محمد بن عبد الله بن زحر بمصر، حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أذنب آدم عليه السلام الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت ذنبي. قال: فأوحى الله عز وجل إليه: ومن محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك إذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك. قال: فأوحى الله تعالى إليه: يا آدم، إنه لآخر النبيين من ذريتك، لولاه ما خلقتك».
وخرجه البيهقي في "الدلائل" من طريق عبد الرحمن بن زيد،
#472#
ولفظه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما اقترف آدم عليه السلام الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي. فقال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك. فقال الله عز وجل: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذا سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد لما خلقتك».
وخرجه الطبراني والحاكم في "مستدركه" بنحوه من طريق عبد الرحمن بن زيد، وصحح إسناده، وفيه: «فقال الله عز وجل: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما غفرت لك وما خلقتك».
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتابه "الشريعة": أخبرنا أبو أحمد هارون بن يوسف بن زياد التاجر، حدثنا أبو مروان العثماني، حدثني أبي: عثمان بن خالد، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: «من الكلمات التي تاب الله عز وجل بها على آدم عليه السلام قال: اللهم أسألك بحق محمد عليك. قال الله عز وجل: يا آدم،
#473#
ما يدريك بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا رب، رفعت رأسي فرأيت مكتوبا على عرشك: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فعلمت أنه أكرم خلق عليك».
وقال الآجري أيضا: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا أبو الحارث الفهري، أخبرني سعيد بن عمرو، حدثنا أبو عبد الرحمن، عن عبد الله بن إسماعيل ابن بنت أبي مريم، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لما أذنب آدم عليه السلام الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي. قال: فأوحى الله عز وجل إليه: وما محمد؟ ومن محمد؟ قال: تبارك اسمك، لما خلقتني رفعت رأسي إلى السماء عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم، وعزتي وجلالي، إنه لآخر النبيين من ذريتك، ولولاه ما خلقتك».
وخرج أبو الشيخ ابن حيان الأصبهاني في كتابه "طبقات الأصبهانيين" من حديث جندل بن والق –وهو صدوق- حدثنا
#474#
محمد بن عمر المحاربي، عن سعيد بن أوس الأنصاري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم: آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمر أمتك من أدركه منهم أن يتبعوه ويؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة، ولولا محمد ما خلقت النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن».
وخرجه الحاكم في "مستدركه" وصحح إسناده، وفيه اضطراب.
منه ما رواه محمد بن عصمة، حدثنا جندل بن والق، حدثنا عمرو بن أوس الأنصاري، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة بنحوه.
وقال أبو عثمان سعيد بن محمد بن أحمد البحيري في كتاب "الأحاديث الألف التي يعز وجودها": أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الوهاب الإسفرائيني بها، أخبرنا أبو الحسين علي بن حميد الواسطي، حدثنا محمد بن يونس البصري، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أسرى بي
#475#
جبريل عليه السلام سمعت نشيجا في السموات العلا، فرجف فؤادي، فقال: جبريل يا محمد، تقدم ولا تخف؛ فإن اسمك مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله».
وخرج أبو نعيم الأصبهاني من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي، في العرش مكتوب: أنا الله، محمد رسولي».
وذكر القاضي عياض في "الشفا" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «على باب الجنة مكتوب: أنا الله لا إله إلا أنا، محمد رسول الله، لا أعذب من قالها».
وقال أبو بكر أحمد بن محمد بن الصقر البغدادي بن النمط: حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن أبي غسان –إملاء- حدثنا جعفر ابن محمد النيسابوري، حدثنا عاصم بن عصام النيسابوري، حدثنا عبد المنعم، حدثني أبي، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مكتوب على العرش: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا أعذب من قالها، لا أعذب من قالها، لا أعذب من قالها».
وفي كتاب "السنة" للإمام أبي بكر بن أبي عاصم، قال: حدثنا
#476#
أبو أيوب الخبائري، حدثنا سعيد بن موسى، حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك؛ رفعه: «إن موسى بن عمران عليه السلام كان يمشي ذات يوم في الطريق، فناداه الجبار عز وجل: يا موسى. فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا، ثم ناداه الثانية: يا موسى بن عمران. فالتفت يمينا وشمالا ولم ير أحدا، وارتعدت فرائصه، ثم ناداه الثالثة: يا موسى بن عمران، إني أنا الله لا إله إلا أنا، فقال: ليبك لبيك. فخر لله عز وجل ساجدا، فقال: ارفع رأسك يا موسى بن عمران فرفع رأسه.
فقال: يا موسى، إن أحببت أن تسكن في ظل عرشي يوم لا ظل إلا ظلي يا موسى فكن لليتيم كالأب الرحيم، وكن للأرملة كالزوج العطوف.
يا موسى، ارحم ترحم. يا موسى، كما تدين تدان.
يا موسى نبئ بني إسرائيل أنه من لقيني وهو جاحد محمدا صلى الله عليه وسلم أدخلته النار ولو كان إبراهيم خليلي وموسى كليمي.
فقال: إلهي، ومن محمد؟
قال: يا موسى، وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أكرم علي منه، كتبت اسمه مع اسمي في العرش قبل أن أخلق السموات والأرض والشمس والقمر بألفي ألف سنة.
#477#
وعزتي وجلالي، إن الجنة محرمة على جميع خلقي حتى يدخلها محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
قال موسى عليه السلام: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟
قال: أمته الحمادون، يحمدون الله صعودا وهبوطا وعلى كل حال، يشدون أوساطهم، ويطهرون أطرافهم، صائمون بالنهار، رهبان بالليل، أقبل منهم اليسير من العمل، وأدخهلم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
قال: إلهي، اجعلني نبي تلك الأمة.
قال: نبيها منها.
قال: اجعلني من أمته.
قال: استقدمت واستأخروا يا موسى، ولكن سأجمع بينك وبينه في دار الجلال».
هذا الحديث موضوع ملفق مصنوع، وإنما ذكرته هتكا لحاله ولئلا يغتر جاهل به وبأمثاله، وفيما ذكرنا من الأحاديث والآثار غنية عن الموضوع ومقنع.
وأحاديث هذا الفضل وآثاره لا يحاط بها أجمع، وحسبك ما في القرآن العظيم من الآيات الشريفات الدالة على تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على الخلائق بدرجات وأي درجات، المصرحة بخصائصه الباهرات، وما منح من الكمال في جميع الأقوال والأحوال والمقامات، إلى غير ذلك من أنواع الكرامات التي لا يعلمها إلا مانحها سبحانه وتعالى.
#478#
قال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": المهيأ لأشرف الأخلاق وأجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل وأفضل الأعمال، لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها ووافقها، وتنفرد مما باينها وخالفها، ولا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله وعباده، تبعث على مصالح الخلق وطاعة الخالق، فكان أفضل الخلق بها أخص، وأكملها بشروطها أحق بها وأمس، ولم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما دانى طرفيه من قاربه في فضله ولا داناه في كماله خلقا وخلقا، قولا وفعلا، ولذلك وصفه الله تعالى في كتابه بقوله عز وجل: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقد ذكر أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله في ذلك الإملاء: "بداية السول" وجوها في تفضيل الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم فذكر منها أن الله تعالى أخبره أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك، بل الظاهر أنه لم يخبرهم؛ لأن كل واحد منهم إذا طلبت منه الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصاب وقال: "نفسي نفسي"، ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم
#479#
يوجل منها في ذلك المقام، وإذا استشفعت الخلائق بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام قال: «أنا لها».
قلت: قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدان بن أحمد بن المرزبان الكرماني: سمعت أبا الحسن محمد بن إسماعيل العلوي ببخارى يقول: سمعت أحمد بن محمد بن حسان المصري بمكة يقول: سمعت المزني يقول: سئل الشافعي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} قال: معناه: ما تقدم من ذنب أبيك وما تأخر من ذنوب أمتك، أدخلهم الجنة بشفاعتك.
وذكر ابن عبد السلام أيضا من الوجوه: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يرغب إليه الخلق كلهم يوم القيامة، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قلت: صح ذلك من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه –الحديث.
#480#
وفيه: فقال لي –يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «يا أبي، أرسل إلي: أن اقرأ القرآن على حرف. فرددت إليه: أن هون على أمتي. فرد إلي الثانية: أن اقرأه على حرف. فردت إليه أن هون على أمتي. فرد إلى الثالثة: اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم، حتى إبراهيم عليه السلام».
خرجه مسلم في "صحيحه" لابن أبي ليلى.
ومن الوجوه التي ذكرها أبو محمد ابن عبد السلام في تفضيل الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم منها: الكوثر الذي أعطيه في الجنة، والحوض الذي أعطيه في الموقف.
وذكر أيضا منها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الوسيلة: منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة».
وذكر أيضا: أن الله تعالى أثنى على خلقه، فقال تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}، واستعظام العظماء للشيء يدل على إيغاله في العظمة، فما الظن باستعظام أعظم العظماء سبحانه وتعالى.
#481#
وذكر أيضا منها: أن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بالطور وبالوادي المقدس، وكلم نبينا صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى.
وذكر أيضا منها: أن الله تعالى كلمه بأنواع الوحي، وهي ثلاثة:
أحدها: الرؤيا الصادقة.
الثاني: الكلام من غير واسطة.
والثالث: مع جبريل عليه السلام.
ومنها: أن كتابه صلى الله عليه وسلم مشتمل على ما اشتملت عليه التوراة والإنجيل والزبور، وفضل بالمفصل.
وذكر أيضا منها: أن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين، فأمهل عصاة أمته ولم يعاجلهم إبقاء عليهم، بخلاف من تقدمه من الأنبياء، فإنهم لما كذبوا عوجل مكذبوهم.
وذكر أيضا منها: أن الله عز وجل وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه، فقال: {يا أيها النبي} {يا أيها الرسول}، وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره، بل ثبت أن كلا منهم نودي باسمه، فقال تعالى: {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة}.
#482#
{يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك}.
{يموسى إني أنا الله}.
{ينوح اهبط بسلام}.
{يداود إنا جعلناك خليفة في الأرض}.
{يإبراهيم. قد صدقت الرؤيا}.
{ يلوط إنا رسل ربك}.
{يزكريا إنا نبشرك}
{ييحيى خذ الكتاب بقوة}.
ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعا أحد عبيده بأفضل ما وجد فيهم من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام [التي] لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق؛ أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم، وهذا معلوم بالعرف، أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه، حتى قال القائل:
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أحسن أسمائي
[1] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي طبعة دار الفلاح المعتمدة: (قال الحسن بن عباس) وكتب المحقق في الهامش: كذا]]
[2] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[3] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي طبعة دار الفلاح المعتمدة: (ورواه عن عبد الله الأملولي الحمصي)]]
[4] [[سقط هنا من طبعة دار الفلاح نحو من (70) صفحة، قال المحقق في الهامش: نظراً لانتهاء النسخة الخطية ههنا.
وتم استدراك هذا النقص من من طبعة دار الكتب العلمية]]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق