#5# ج3.
&[قصة أصحاب الفيل وأمر إهلاكهم]&
وقصة الفيل مشهورة معروفة، ذكرها الله تعالى مجملة في كتابه الجليل في قوله تعالى : {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} .. .. السورة، وورد تفصيلها في الآثار ، وصرّح بها المفسرون، وذكرها أرباب السير.
قال أبو الوليد الأزرقي: وقد ذكر الله عز وجل الفيل وما صنع بأصحابه، فقال تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} إلى آخر السورة، ولو لم ينطق القرآن به لكان في الأخبار المتواطئة والأشعار المتظاهرة في الجاهلية والإسلام؛ حجة وبيان لشهرته، وما كان العرب تؤرخ به، فكان يؤرخون في كتبهم من سنة الفيل، وفيها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#6#
وقال أبو محمد بن قتيبة: أجمع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، عاين ذلك حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وكل هؤلاء عاشوا في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة.
وذكر نحوه أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة"، لكنه جعل مكان "حسان" "نوفل بن معاوية" يعني: ابن عروة الدؤلي.
وقالت الشعراء في ذلك عن عيان الأمر ومشاهدته، منهم: نفيل بن حبيب وهو: ابن عبد الله بن جزء بن عامر بن رابية بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن خلف بن أفتل، وهو: "خثعم الخثعمي" وهو جاهلي، وكانت الحبشة أخذته في طريقها إلى مكة ليدلها، فاحتال وهرب -يعني: ليلة عزمهم على دخول مكة- وشاهد ما حل بالحبشة فقال:
ألا ردي ركائبنا ردينا ... نعمناكم على الهجران عينا
#7#
فإنك لو رأيت ولن تراه ... لدى جنب المحصب ما رأينا
زاد غيره:
إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل ... كأن علي للحبشاء دينا
وقال أمية بن أبي الصلت - وذلك على أحد القولين-:
إن آيات ربنا بينات ... ما يماري فيهن إلا الكفور
زاد غيره:
خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور
#8#
ثم يجلو النهار رب رحيم ... بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
في أبيات أخر لم يذكرها ابن قتيبة:
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم
أنت حبست الفيل بالمغمس ... حبسته كأنه مكردس
من بعد ما هم بشر مخلس ... بمحبس تزهق فيه الأنفس
#9#
وقت ثياب ربنا لم تدنس ... يا واهب الحي الجميع الأخمس
وما لهم من طارف وأنفس ... وجاره مثل الجوار الكنس
أنت لنا في كل أمر مضرس ... وفي هنات أخذت بالأنفس
وحدث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة ابنة عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان بمكة.
تابعه جماعة، منهم: سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق.
وقصة الفيل وقعت لنا مفرقة في عدة آثار جمعتها على سياقة حديث واحد، فكانت فيما روينا، وبلغنا من ذلك:
أن ملك "اليمن": "ذا شناتر"، وهو "لخيعة" فيما قاله أبو بكر بن دريد وقال غيره: "لخنيعة"، وهو المشهور، ومعنى "ذي شناتر" أي: صاحب الغوطة فيما يقال، و"ذو شناتر" هو الذي ملك بعد "عمرو بن تبان أسعد بن كليكرب بن زيد"، وهو "تبع الأول" في قول، وكان "ذو شناتر"
#10#
فظا غليظا قتالا، وكان لا يسمع بغلام قد نشأ من أبناء المقاول إلا بعث إليه فأفسده لكي لا يملكوا؛ لأنهم لم يكونوا يملكون من نكح، وأنه نشأ غلام منهم يقال له: "ذو نواس" واسمه: "زرعة" ولما تهود تسمى "يوسف"، وهو: ابن تبان أسعد أخو حسان بن عمرو ابني أبي كرب تبان أسعد، فأدخل عليهم "بنوف" وهو موضع باليمن، ومع ذى نواس سكين لطيفة خبأها لقتل "ذي شناتر"، فلما دنا منه يريده على الفاحشة شق بطنه واحتز رأسه.
فلما بلغ "حمير" ما فعل "ذو نواس" قالوا: ما نرى أحدا أحق بهذا الأمر ممن أراحنا منه، فملكوا "ذو نواس" وهو صاحب الأخدود الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، وانتقل "ذو نواس" إلى دين اليهود وفارق عبادة الأوثان، وقتل غالب من كان على دين عيسى عليه السلام وبلغه عن أهل "نجران": أن رجلا جاءهم من قبل "آل جفنة" ملوك "غسان"، فدعاهم للنصرانية فأجابوه ودخلوا فيها، وعلمهم ذلك الرجل إياها فسار "ذو نواس" إليهم بنفسه فآذاهم واحتفر لهم أخاديد في الأرض، وملأها جمرا، وعرضهم عليها، فمن تابعه على دينه خلى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها، حتى أتي بامرأة معها صبي لها ابن سبعة أشهر، فعرضها على النار فكأنها تلكأت، فقال لها صبيها: يا أمه، امضي
#11#
على دينك، فإنه لا نار بعدها، فرمى بالمرأة وابنها في النار، ثم كف بعد أن قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، منهم "عبد الله بن الثامر" رأسهم وإمامهم.
ونجا جماعة من القتل منهم رجل من "اليمن" يقال له: "دوس ذو ثعلبان"، فركب في البحر إلى ملك الحبشة، وهو على النصرانية، فخبره بما فعل [ذو] "نواس" بأهل دينه، فكتب ملك الحبشة إلى "قيصر" يعلمه ذلك، ويستأذنه في التوجه إلى "اليمن"، فكتب إليه يأمره بأن يصير إليها.
وقيل: [خرج] "ذو ثعلبان" على فرس فارا، فسلك الرمل ومضى على وجهه، حتى أتى قيصر ملك الروم وشكى إليه ما جرى على قومه من "ذي نواس"، فاعتذر ببعد بلاده، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أن يسير إلى اليمن. وأعلمه أنه سيظهر عليها، وأمره أن يولي "ذا ثعلبان" أمر قومه، ويقيم فيمن معه باليمن، فأقبل ملك الحبشة في سبعين ألفا، فجمع لهم "ذو نواس" وحاربهم فهزموه وقتلوا بشرا كثيرا من أصحابه، ومضى منهزما، حتى أتى البحر فاقتحم فيه، فكان آخر العهد به، ذكره بنحوه ابن قتيبة.
وذكر غيره أن ملك الحبشة لما أمره قيصر بالتوجه إلى اليمن أرسل
#12#
ملك الحبشة سبعين ألفا مع "ذي ثعلبان" وأمر عليهم ابن عم له يقال له: "أرياط"، وأمره أن يقتل كل من باليمن على دين اليهودية.
وفي رواية: قال له النجاشي: إن دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، وأخرب ثلث بلادها، فركب "أرياط" في البحر، وسار في سبعين ألف رجل، فسمع بهم "ذو نواس" فجمع لهم، وحاربهم، وحصل بينهم مقتلة، وكانت دائرة على "ذي نواس" وأصحابه.
فقتل منهم بشر كثير، ومضى "ذو نواس" منهزما وهم في أثره، حتى أتى البحر فاقتحمه بفرسه، وقال: "والله للغرق أفضل من أسر السودان"، فغرق، فكان آخر العهد به، ثم قام مكانه "ذو جدن الحميري" واسمه: "علس بن الحارث بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف"، فقاتلوه، فهزموه أيضا، حتى ألجأوه إلى البحر فاقتحم فيه، فغرق ومن تبعه من أصحابه، واستولى "أرياط" على اليمن -سائرها فيما قيل- وأقام باليمن سنتين في سلطانه، ثم نازعه في الأمر "أبو يكسوم أبرهة بن الصباح"، وكان أحد قواد الحبشة، وجمع وحاربه، فظفر بـ "أرياط" وقتله "أبرهة" بيده لما تبارزا.
#13#
وقيل: أرسل "أبرهة" إلى "أرياط" بعد أن تقارب جيشاهما: أبرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف جنده إليه، فأرسل إليه "أرياط": أنصفت.
فخرج إليه "أبرهة" -وكان قصيرا لحيما- وخلفه غلام له [يقال] له: "عتودة"، يمنع ظهره، وبرز "أرياط" وكان طويلا عظيما جميلا، فلما التقيا رفع "أرياط" الحربة فضرب "أبرهة" يريد يافوخه، فوقعت على جبهة "أبرهة" فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ فبذلك سمي "أبرهة الأشرم"، وحمل غلامه على "أرياط" من خلف "أبرهة"، فقتله، وانصرف جند "أرياط" إلى "أبرهة"، فاجتمعوا عليه، واستولى على ملك "اليمن" وودى "أرياط".
فبلغ النجاشي ذلك فغضب لقتل ابن عمه، وحلف بالمسيح: لأطأن أرضه: سهلها وجبلها برجلي، ولأجرن ناصيته بيدي، ولأهرقن دمه بكفي. فبلغ أبرهة ذلك فعمد إلى ناصيته فجزها ووضعها في حق عاج، وملأ جرابين: أحدهما من تراب السهل، والآخر من تراب الجبل، ودعا بالحجام فحجمه، وجعل دمه في قارورة وختم عليه وعلى الحق العاج بالمسك، وكتب إلى النجاشي يعتذر إليه ويقول:
#14#
إن ابن عمك خالف سيرتك في العدل، وإنما كان "أرياط" عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك، فكل طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط لها وأسوس منه، وقد بلغني ما حلفت عليه، وقد بعثت إليك بجرابين من تراب السهل والجبل، فطأهما برجلك، وجز ناصيتي بيدك، وأهرق دمي بكفك، وبر يمينك، وأطف غضبك عني، فإنما أنا عبد من عبيدك.
فأعجب النجاشي عقل أبرهة، وأقره على مكانه، وبقي إلى زمان كسرى "نوشروان"، ونظر يوما إلى حجاج اليمن يتجهزون أيام الموسم للحج إلى بيت الله الحرام، فسأل: أين يذهب الناس؟ فقالوا: يحجون بيت الله بمكة. قال: وما هو؟ قالوا: من حجارة. قال: وما كسوته؟ قالوا: ما يأتي من هاهنا الوصائل. قال: والمسيح، لأبنين لكم خيرا منه.
وفي رواية فقال: أنا أكفيكم هذا السفر البعيد ببيعة أبنيها، تحجون إليها. فبنى كنيسة بـ "صنعاء" يقال لها: "القليس" بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وفصص حيطانها بصنوف الجوهر.
قيل: إنه نقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب، من قصر بلقيس، وكان منها على فراسخ.
جعل "أبرهة" الرجال صفا نسقا يناول بعضهم بعضا الحجارة والآلة، حتى نقل ما كان يحتاج إليه، وكان أراد أن يرفع من شأنها حتى يشرف منها على "عدن"، فبناها بناء مربعا مستوي التربيع، وجعل طوله في السماء ستين ذراعا، وكبسه من داخل عشرة أذرع في السماء، فكان يصعد إليه بدرج الرخام، وجعل حوله سورا بينه وبين "القليس" مائتا
#15#
ذراع، مطيف به من كل جانب، وبنى ذلك بحجارة مطابقة لا تدخل بين أطباقها الإبرة، وفصل بناء ذلك، فجعل البناء عشرين ذراعا في السماء من حجارة يسميها أهل اليمن "الجروب"، ثم فصل ما بين حجارة "الجروب" بحجارة مثلثة تشبه الشرف، مداخلة بعضها ببعض: حجرا أخضر، وحجرا أحمر، وحجرا أبيض، وحجرا أصفر، وحجرا أسود، فيما بين كل سافين خشب ساسم مدور الرأس، غلظ الخشبة حضن الرجل، ناتئة على البناء، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش، طوله في السماء ذراعان.
وكان الرخام ناتئا على البناء ذراعا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نقم جبل صنعاء المشرف عليها، ثم وضع فوقها حجارة صفراء لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيضاء لها بريق.
وكان هذا ظاهر حائط "القليس".
وكان عرض حائط "القليس" ستة أذرع.
وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولا في أربعة أذرع عرضا.
وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه؛ طوله ثمانون ذراعا في أربعين ذراعا، مغلق العمل بالساج المنقوش ومسامير بالذهب والفضة، ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعا عن يمنيه وعن يساره، وعقود مضروبة بالفسيفساء والذهب والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع تعشي عين من نظر إليها من بطن القبة، وتؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة.
وكان تحت الرخام منبر من خشب اللبخ -وهو عندهم: الأبنوس- مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبا وفضة.
وكان في القبة سلاسل فضة.
وكان في القبة أو في البيت خشبة منقوشة طولها ستون ذراعا يقال
#16#
لها: "كعيب"، وخشبة من ساج نحوها يقال لها: "امرأة كعيب" كانوا يتبركون بهما في الجاهلية وكان يقال لكعيب: "الأحوذي" وهو بلسانهم: الحر.
ونصب في "القليس" عند المذبح درة عظيمة تضيء في الليل كالسراج، وجعل فيه صلبانا من ذهب وفضة مرصعة بجواهر ويواقيت مختلفة، وجعل للقليس حجابا وسدنة.
وكان يوقد فيه بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسود حتى يغيب البناء.
وكان من سيرة "أبرهة" في بنائه أنه أخذ العمال أخذا شديدا أنه آلى أن تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده.
وروي: أنه تخلف رجل من العمال حتى طلعت الشمس، وكان له أم عجوز، فذهب بها معه لتستوهبه من "أبرهة"، فأتته وهو بارز للناس، فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه، فقال: "لا أكذب نفسي ولا أفسد عمالي علي" فأمر بقطع يده، فقالت له أمه: "اضرب بمعولك ساعي بهر اليوم لك وغدا لغيرك". فقال: "أدنوها". فقال لها: "إن هذا الملك يكون لغيري؟" قالت: "نعم". وكان "أبرهة" قد أجمع أن يبني "القليس" حتى يظهر على ظهره فيرى منه "بحر عدن" فقال: لا أبني حجرا على حجر بعد يومي هذا. وأعفى الناس عن العمل.
#17#
ومعنى "ساعي بهر" تقول اضرب بمعولك ما كان حديدا.
ولما فرغ أبرهة من بناء "القليس" أمر الناس فحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيها رجال يتعبدون ويتألهون ونسكوا له، وكان "نفيل الخثعمي" يورض له ما يكره، فأمهل، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحدا يتحرك، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفا فألقاها فيه -وقيل: فعل ذلك رجلان من "خثعم" وقيل: فعل ذلك رجل من "فقيم"- فاتهم "أبرهة" بذلك قريشا، وحلف ليهدمن الكعبة.
وقيل في سبب ذلك: ما حدث به أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" عن محمد بن حميد، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق: أن "أبرهة الحبشي" كان قد توج "محمد بن خزاعي" وأمره على "مضر"، وأمره أن يدعو الناس إلى حج "القليس"، فسار حتى إذا كان ببعض أرض "بني كنانة" رماه "عروة بن عياض" بسهم فقتله، فهرب أخوه "قيس بن خزاعي" فلحق بـ "أبرهة"، فأخبره، فحلف ليغزون "بني كنانة" ويهدم الكعبة، وساق القصة.
وقيل في سببها غير ذلك.
فلما أجمع "أبرهة" لذلك بلغ "ذا نفر" ما قصد "أبرهة" من هدم الكعبة، وكان "ذو نفر" من أشراف اليمن وملوكهم، فدعا قومه ومن
#18#
أجابه إلى حرب "أبرهة"، وعرض له وقاتله، فهزمه "أبرهة" ثم أسر وحمل إلى "أبرهة"، فأراد قتله فقال "ذو نفر": أيها الملك، لا تقتلني، فعسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي. فتركه وحبسه عنده في وثاق، وكان "أبرهة" رجلا حليما.
وقد قيل: إن "أبرهة" لما عزم على ما أراد من هدم الكعبة قال له "هشام بن المغيرة": إنه قد رام ذلك غيرك من الملوك، فما وصلوا إليه؛ لأن له ربا يمنعه.أمممم
وبلغ "النجاشي" هذه القصة فبعث إلى "أبرهة" "الأسود بن مفصود بن الحارث" وبعث معه ثلاثة عشر فيلا فيها فيل للنجاشي اسمه "محمود"، فخرج "أبرهة" في أربعين، فاستقبله "خثعم" في قبيلتيهما ومن تبعهما من قبائل العرب وعليهم "نفيل بن حبيب الخثعمي"، فحاربوه فهزمهم وأسر منهم طائفة، منهم "نفيل"، وأمر بضرب أعناق الأسرى، فضربت غير اثنين من "خثعم" أحدهما "نفيل"، فقالا لأبرهة، نحن من أدل العرب فاستبقنا ندلك. ففعل، فقال أحدهما للآخر: كفى بنا عارا أن ننطلق بهذا الأسود إلى بيت الله تعالى فيهدمه. فأخذا به على "الطائف"، فلما أشرف على "وادي وج" من "الطائف" خرج إليه "أبو عروة مسعود بن معتب بن مالك بن كعب الثقفي" وأعلمه أنها ليست طريقه.
قيل: خرج "مسعود بن معتب" في رجال "ثقيف" إلى "أبرهة" فقالوا: أيها الملك، إنا نحن عبيدك، سامعون لك مطيعون لك، ليس عندنا
#19#
خلاف، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد -يعنون: "اللات"- إنما تريد الذي بمكة، ونحن نبعث معك من يدلك عليه.
فتجاوز عنهم، فبعثوا معه "أبا رغال" يدله على الطريق إلى مكة، فخرج "أبرهة" ومعه "أبو رغال" حتى أنزله "المغمس"، فلما أنزل به مات "أبو رغال" هنالك، فرجمت قبره العرب، فهو القبر الذي يرجم الناس "بالمغمس".
قلت: والقبر الذي يرجمه الناس اليوم بمكة في طريق "كداء" من المغسلة، ويعرف اليوم بقبر أبي لهب وليس به، والله أعلم، بل هو قبر "أبي رغال" على ما ذكره لي بعض محدثي مكة في "سنن أبي داود" من طريق ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى "الطائف" فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه"، فابتدره الناس فاستخرجوا الغصن.
#20#
وله شاهد من حديث ابن عباس.
وقيل: لما توجه "أبرهة" إلى مكة نزل على حد الحرم - قيل: كان نزوله بـ "المغمس" وهو بالضم وكسر الميم الثانية مع التضعيف، وهو على ثلثي فرسخ من مكة- وأرسل "أبرهة" "الأسود بن مفصود" على خيله من "المغمس" إلى "مكة" فاستاق السوائم كلها وأموال أهل "تهامة" من قريش وغيرهم، وكان فيما ساق مائتا ناقة لعبد المطلب.
وقال أبرهة لأحد أصحابه -وهو: "حناطة الحميري"-: سل عن سيد أهل البلد وشريفهم، وقل له: "إنا لم نأت لحربكم، إنما جئنا لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم"، فإن هو لم يرد حربي فأتني به.
فلما دخل "حناطة" مكة سأل عن سيد قريش وشريفها، فدل على "عبد المطلب بن هاشم"، فجاءه فأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا البيت بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم -أو كما قال-، فإن يمنعه فهو بيته وحرمته، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له "حناطة": فانطلق معي إليه، فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه "عبد المطلب" ومعه بعض بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن "ذي نفر" -وكان له صديقا- حتى دخل عليه وهو في محبسه، فقال له: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال له "ذو نفر": وما غناء رجل
#21#
أسير بيد ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا، ما عندي غناء في شيء مما نزل بكم، إلا أن "أنيسا" سائس الفيل صديق لي، فسأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك، ويشفع لك عنده بخير، إن قدر على ذلك. قال: حسبي.
فبعث "ذو نفر" إلى "أنيس" فقال له: إن "عبد المطلب" سيد قريش وصاحب عين مكة يطعم الناس الطعام بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير؛ فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت. قال: أفعل.
فكلم "أنيس" "أبرهة" فقال: أيها الملك، هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عين مكة، وهو يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فأذن له عليك فليكلمك في حاجته.
قال: فأذن له "أبرهة".
وكان "عبد المطلب" أوسم الناس وأجمله وأعظمه، فلما رآه
#22#
"أبرهة" أجله وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه، فنزل "أبرهة" عن سريره فجلس على بساطه، وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: حاجتك. فقال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي.
فلما قال له ذلك؛ قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك؛ أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه.
فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه.
قال: ما كان ليمتنع مني.
قال: أنت وذلك.
وفي رواية: أن عبد المطلب قال لأبرهة: إن لهذا البيت ربا سيمنعه، قد رام هدمه ما لا يحصى من الملوك، فرجعوا بين قتيل وأسير.
فرد "أبرهة" على "عبد المطلب" إبله وانصرف، فاجتمع إليه أشراف قومه وقالوا: يا عبد المطلب، اجعل له مالا نجمع له ليرجع عن هدم البيت. فقال: اطمئنوا، فوالله لا يصل إليه أبدا.
وقال عبد المطلب:
قلت والأشرم يردي خيله ... إن ذا الأشرم غر بالحرم
كاده تبع فيمن جندت ... حمير والحي من آل قدم
#23#
فانثنى عنه وفي أوداجه ... جارح أمسك عنه بالكظم
نحن أهل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد إبرهم
يعبد الله وفينا شيمة ... صلة القربى وإيفاء الذمم
إن للبيت لربا مانعا ... من يرده بأثام يصطلم
ومشى عبد المطلب إلى باب الكعبة، وأخذ بحلقتها ثم قال: يا رب، لا أرجو لهم سواكا، يا رب فامنع منهم حماكا، إن عدو البيت من عاداكا، امنعهم أن يخربوا قراكا. وقال أيضا:
لاهم إن المرء يمنع رحله ... وحلاله، فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك
جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك
#24#
عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك
وقال عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
لاهم أخز الأسود بن مفصود ... الآخذ الهجمة فيها التقليد
بين "حراء" و "ثبير" فالبيد ... يحبسها وهي أولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود ... أخفره يا رب وأنت محمود
#25#
ثم علا "عبد المطلب" جبل "أبي قبيس" هو و"حكيم بن حزام" ونفر من سادات قريش، وهرب الناس فلحقوا برؤوس الجبال.
وأم "أبرهة" البيت مدلجا بسحر، وقدم الفيلة وكانت ثلاثة عشر فيلا، وفيهم الفيل الكبير فيل النجاشي، وكان أكبر فيل رآه الناس كالجبل العظيم، واسمه بلسان الحبشة: "محمود" وكنيته: "أبو الحجاج" فيما ذكره الثعالبي، واسم سائسه: "أنيس" كما تقدم.
فلما انتهى الفيل إلى طرف الحرم قيل له: "إنك في بلد الله الحرام". فبرك، فكانوا يضربون رأسه بالطبرزين -وهو فاس السرج- فيقوم، فإذا أخذوا به يمينا وشمالا هرول، وإذا وجّهوه إلى طرف الحرم برك، فجعلوا يقسمون بالله إنهم رادوه إلى "اليمن"، فيحرك لهم،
#26#
أذنيه، كأنه يأخذ عليهم بذلك عهدا، فإذا أقسموا له قام يهرول، فيردونه إلى مكة فيبرك، فيحلفون له، فيحرك لهم أذنيه كالمؤكد عليهم القسم، ففعلوا ذلك مرارا ولم يزل أبرهة وقومه بين تردد الفيل يومهم ذلك، حتى أمسوا وباتوا بأخبث ليلة، فلما كان اليوم الثاني فعلوا ذلك، حتى كان مع طلوع الشمس نظروا إلى طير أمثال اليحاميم سود قد أقبلت من نحو البحر، وهي التي أخبر الله تعالى عنها: {طيرا أبابيل} و "أبابيل" أي: جماعات في تفرقة.
وقال موسى بن إسماعيل التبوذكي: حدثنا أبان -يعني: ابن يزيد العطار-، حدثنا عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} قال: عصبا عصبا.
تابعه حماد بن سلمة عن عاصم.
وقال روح، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} قال: شتى.
وقال عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} يقول:
#27#
يتبع بعضها بعضا وقال بعضهم: لا واحد للأبابيل.
وقيل في واحدها: "أبيل" قياسا لا سماعا.
وقيل: واحدها "إبول" مثل عجول وعجاجيل. ذكر هذا أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي في كتابه "الغريبين".
كانت هذه الطير من البحر أمثال اليحاميم سوداء كالخطاطيف والبلسان.
وحدث يونس بن بكير، عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عباس في قوله تعالى: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} قال: طير لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب.
وحدث أيضا قيس بن الربيع، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن عبيد بن عمير: {وأرسل عليهم طيرا أبابيل} قال: طير أقبلت من البحر كأنها رجال الهند، {ترميهم بحجارة من سجيل} أصغرها مثل رؤوس الرجال، وأعظمها: مثل الإبل البزل، وما رمت أصابت وما أصابت قتلت.
وقال سعيد بن منصور: أخبرنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن عبيد بن عمير الليثي قال: لما أراد الله تعالى أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنها الخطاطيف
#28#
بلق، كل طير معه ثلاثة أحجار مجزعة، في منقاره حجر وحجران في رجليه، ثم جاءت حتى حفت على رؤوسهم، ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها فما من حجر وقع منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، إن وقع على رأسه خرج من دبره، وإن وقع على شيء من جسده خرج من جانب آخر.
قال: وبعث الله عز وجل ريحا شديدة فضربت أرجلها فزادها شدة فأهلكوا جميعا.
وقال إسحاق بن الحسن الحربي: حدثنا محمد الصلت، حدثنا أبو كدينة، عن حصين عن عكرمة: {طيرا أبابيل} قال: طير خرجت لها رؤوس كرؤوس السباع، لم تزل ترميهم بالحجارة حتى جدرت جلودهم، فما رؤي الجدري قبل يومئذ، وما رؤيت الطير قبل يومئذ، وذكر بقيته.
ورواه سعيد بن منصور، حدثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عكرمة في قوله تعالى: {طيرا أبابيل} يقول: كانت طيرا نشأت من قبل البحر، لها مثل رؤوس السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده، فأثرت جلودهم أمثال الجدري، فإنه لأول ما رؤي الجدري.
وقد جاءت صفة الطير أيضا فيما رواه أبو اليمان، عن الجراح، عمن حدثه، عن كعب قال: يخرج "يأجوج" و"مأجوج" وليس لهم ملك ولا سلطان.. وذكر الحديث.
#29#
وفيه قال: فيدعوه عيسى عليه السلام، فيرسل الله عليهم الأبابيل، أعناقها كأعناق البخت، ومسكنها في الهواء، وتبيض في الهواء، ويمكث بيضها في الهواء قبل أن يفرخ، فإذا انفقس - تهوي في الهواء وتطير، حتى ترتفع إلى أمكنتها التي سقطت منها.
قال: فتحمل أجسامهم فتقذفها في أخدود، وذكر بقيته.
ولما رأى "أبرهة" وقومه هذه الطير وكانوا تلك الليلة نظروا إلى النجوم كالحة إليهم تكاد تكلمهم من اقترابها منهم، ففزعوا من ذلك واستشعروا العذاب، فأقبلت الطير، فعجبوا من كثرتها ولم يعرفوها، مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، كالحمص أو العدس، مختمة، فيها نضح حمرة.
قيل: إن شكلها كان كهيئة الحمص والعدس، وإنما كانت ضخاما.
قال السهيلي: ويعني بمماثلة الحجارة للحمص أنها على شكلها، والله أعلم؛ لأنه قد روي أنها كانت ضخاما تكسر الرؤوس. انتهى.
وقد حكي عن بعض من رأى تلك الحجارة أنه قال: كانت مثل رؤوس الإبل، ومثل مبارك الإبل، ومثل قبضة الرجل.
وجاء عن ابن عباس أنه رأى عند "أم هانئ" من هذه الحجارة نحو قفيز، وكانت مثل بعر الغنم، مخططة بالحمرة.
#30#
وهذه الحجارة أرسلت كما أخبر تعالى: {من سجيل}، و"السجيل" مختلف فيه، فقيل: هو من "سنك" و"كل" بالفارسية، و"السنك": الحجر و"الكل": الطير.
قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال بعض المفسرين: "سجيل" كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة، وإنما هو "سنج" و"جيل"، يعني بـ"السنج": الحجر، و"الجيل" الطين.
يقول: الحجارة التي أرسلت عليهم من هذين الجنسين.
وقيل: أولها حجر وآخرها طين. قاله مجاهد.
وقيل: هو الآجر. قاله الضحاك.
وقيل: "السجيل": حجارة كالمدر، و"المدر": قطع الطين اليابس.
وقيل: هو طين طبخ حتى صار بمنزلة الأرحاء: حكاه "الفراء".
وقيل: هو الشديد الصلب من الحجارة. قاله أبو عبيدة.
وأنشد لابن مقبل:
"ضربا تواصت به الأبطال سجينا" ...
ورده ابن قتيبة كون هذا بالنون من "سجنت" أي: حبست، وذاك باللام.
وقيل: "السجل" بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض، ومنه نزلت الحجارة. قاله عكرمة.
وقيل: هو اسم للسماء الدنيا. قاله ابن زيد.
وقيل: من "سجل" بمعنى: كتب، أي: ما كتب الله لهم أن يعذبوا، به، وهو اختيار أبي إسحاق الزجاج.
#31#
وقيل: من "أسجلته" أي: أرسلته، فكأنها مرسلة عليهم، ذكره الزجاج.
قال بعضهم: هذه الحجارة التي أرسلت على قوم لوط أرسلها الله تعالى مع هذه الطير. انتهى.
وفي قول الله عز وجل {وما هي من الظالمين ببعيد} الإشارة إلى ذلك وإلى إرسالها على من يشاء الله تعالى بعد.
وقد وقع بعض ذلك أيضا: قال الإمام السيف أبو العباس أحمد ابن المجد عيسى ابن موفق الدين المقدسي فيما وجدته بخطه: أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي قراءة عليه، أخبرنا علي بن جعفر السرواني الصوفي بمكة، سمعت الموازيني يقول: قال لي رجل من الحاج: مررت بديار قوم لوط وأخذت حجرا مما رجموا به، وطرحته في مخلاة، ودخلت مصر فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى، وكان في سفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجي ووضعته في روزنة في البيت، فدعا الحدث الذي كان في السفل صبيا إلى عنده، واجتمع به فسقط الحجر على الحدث من الروزنة فقتله.
فكما أرسلت الحجارة على قوم لوط ترسل على غيرهم من الظالمين، كأصحاب الفيل أرسلت الحجارة مع الطير فرفرفت على رأس "أبرهة" ومن معه، وأظلت عسكرهم، ثم قذفت بالحجارة عليهم وهبت ريح شديدة، فضربت الحجارة، فزادتها صعوبة وقوة، وكان الحجر إذا وقع على رأس الرجل منهم خرج من دبره، وإذا سقط على بطنه خرج من ناحية ظهره، وليس كلهم أصابت.
#32#
وجاء عن أبي العلاء هلال بن خباب العبدي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر، فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين، فلما حاذتهم رمتهم، فما بقي أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك إنسان جلده إلا تساقط لحمه.
وقد ذكر حصين، عن عكرمة: أنه انطلق فلهم حتى أتوا الوادي.
قال حصين: قال عمرو بن ميمون: ما در الوادي قبل ذلك بخمس عشرة سنة، فأرسل الله عليهم السيل فغرقهم.
رواه محمد بن الصلت، عن أبي كدينة، عن حصين.
وفي رواية ذكرها سنيد بن داود المصيصي الحافظ في "تفسيره": إن الطير جعلت تجيء فتصف على رؤوسهم -يعني: ثم تقذف بالحجارة- فما من حجر يصيب عظما أو لحما إلا ثقبه، حتى ينتهي إلى الأرض، وكلما ذهب فرق من الطير جاء فرق آخر، فأصبحوا هلكى هامدين إلا الذين لم تصبهم الحجارة، وهلكت الفيلة كلها سوى "محمود" فإنه سلم، وانصرف يهرول، وولى "أبرهة" هاربا بمن بقي معه وهم يسائلون عن "نفيل" ليدلهم على الطريق إلى "اليمن"، فقال "نفيل بن حبيب" حين رأى ما أنزل الله تعالى بهم من نقمته:
#33#
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب غير الغالب
وقال "نفيل" أيضا:
(ألا ردي ركائبنا ردينا)
الأبيات، وقد تقدمت.
ثم إن القوم الذين سلموا من القتل خرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل، وأصيب "أبرهة" في جسده، وخرجوا به معهم فجعل "أبرهة" يسقط عضوا عضوا، حتى بلغ "صنعاء" وهو مثل الفرخ، وقد انصدع صدره عن قلبه وجعله الله مثلة في الناس، فكان لا يأتي على قوم إلا سقط منه عضو وسال مخه، فيقولون: "من فعل هذا بربنا؟" فيقول لهم: "فعله بي رب البيت، فعله بي رب الحجاز".
فبعث الله عز وجل صاعقة كان فيها صوت كل شيء، فتقطعت كبده، وهم يبصرون.
ذكره سنيد في "تفسيره".
و"سنيد" لقب واسمه: "الحسين"، تكلم فيه، صدقه أبو حاتم وروى عنه أبو زرعة وجماعة، توفي سنة ست وعشرين ومائتين.
وقد جاء أن "أبرهة" لما رجع إلى "اليمن" وقد سقط لحمه قال لأهل اليمن: أنا النذير العريان، فيما ذكره هشام ابن الكلبي في "الجمهرة".
#34#
وذكر بعضهم: أن وزير "أبرهة" انفلت وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه.
وروي عن حكيم بن جعفر، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة أنه قال: أول يوم رأوا بأرض العرب الحصبة والجدري والشجر المر -مثل: الحرمل والحنظل وغيره- إنما كان هذا عام الفيل، من تلك الحجارة التي رميت بها الحبشة.
ورواه جماعة عن ابن إسحاق، منهم يونس بن بكير الشيباني.
ثم خرج عبد المطلب وأصحابه إلى القوم وهم صرعى، فملأ أيديهم من المال، وأرسل إلى قريش فجاؤوا وغنموا ما شاء الله، وأنشأ عبد المطلب مرتجلا:
أنت منعت الحبش والأفيالا
وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا
وكل أمر منهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
#35#
وقال أبو قيس صيفي بن الأسلت الأنصاري ثم الخطمي يخاطب قريشا:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالرمل تمسي ورجله ... على القاذفات في رؤوس المناقب
فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساق وحاصب
فولوا سراعا هاربين ولم يؤب ... إلى أهله مل حبش غير عصائب
ثم إن الله عز وجل أرسل سيلا فاحتمل الهلكى فألقاهم في البحر، وعظمت "قريش" في أعين العرب وسموهم "آل الله"، وازداد عبد المطلب شرفا.
ولما أهلك الله عز وجل "أبرهة" ومزق ملكه أقفر ما كان حول تلك الكنيسة التي بناها وأراد صرف الحج إليها، وكثرت حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، فتحاماها الناس، ولم يستطع أحد أن يأخذ شيئا مما كان فيها من صلبان الذهب والفضة المرصعة
#36#
بالجواهر وأصناف اليواقيت، وبقيت كذلك إلى زمن أبي العباس السفاح، فذكر له أمرها وما يتهيب من جنها، فلم يرعه ذلك، وبعث إليها من خربها وأخذ ما كان فيها.
وقد قيل: إن الله تعالى لم يهلك الحبشة ويمنعهم من البيت من أجل قريش، فإنهم كانوا عباد أوثان، والحبشة كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك، فنصرهم الله تعالى على أهل الكتاب نصرا بليغا لا صنع للبشر فيه، ودفع عن بيته الحرام إلا آية ودلالة وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة، الداعي إلى كرامة البيت وحجه وتعظيم شعائره.
وقال الإمام الفقيه أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي رحمه الله في كتابه "أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن" قال: وفي أمر الفيل آية بينة؛ لأنه لا يجوز في نظر العقول أن يأتي طير من اليم بحجارة من سجيل يحملها بأرجله حتى يهلك بها أمة من الأمم إلا بتسخير وإرسال، ولم يكن لقريش في ذلك الوقت كتاب، وإنما كانوا يعبدون الأوثان، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم زنادقة، والحبشة من أهل الكتاب، يدل على ذلك قول عبد المطلب:
#37#
لاهم إن المرء يمنع رحله ... وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم ... غدوا محالك
و"قريش" هم الجانون، و"السودان" هم المظلومون بما جني على بيعتهم باليمن، فجاؤوا منتصرين، فعلم أن إهلالكم لم يكن إلا لكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرف مكانه؛ إيضاحا لنبوته، وتبيينا لفضيلته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": وآية الرسول صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يوما من الفيل.
ثم قال: فكانت آيته صلى الله عليه وسلم في ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله؛ لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري عليه السبي: حملا ووليدا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به دفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا من بين عابد صنم، أو متدين وثن، أو قائل بالزندقة، ومانع من الرجعة.
ولكن لما أراد الله من ظهور الإسلام؛ تأسيسا للنبوة وتعظيما للكعبة أن يجعلها قبلة للصلاة ومنسكا للحج.
قال: فإن قيل: كيف منع عن الكعبة قبل مصيرها قبلة ومنسكا ولم يمنع "الحجاج" من هدمها وقد صارت قبلة ومنسكا حتى أحرقها ونصب المنجنيق عليها، فقال فيها على ما حكي عنه:
#38#
كيف تراه ساطعا غباره ... والله فيما يزعمون جاره
وقال راميها بالمنجنيق:
قطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها أعواد كل مسجد
قيل: فعل "الحجاج" كان بعد استقرار الدين، فاستغنى عن آيات تأسيسه، وأصحاب الفيل كانوا قبل ظهور النبوة، فجعل المنع منها آية لتأسيس النبوة ومجيء الرسالة، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر بهدمها، فصار الهدم آية أخرى بعد أن كان المنع آية، فلذلك ما اختلف حكمهما في الحالين، والله أعلم.
وذكر معنى السؤال والجواب الحافظ أبو سليمان الخطابي، فقال: وقد سأل بعض الملحدين عن هذا فقال: لم كان حبس الفيل في زمان الجاهلية عنها ومنعه منها ومن الإفساد والإلحاد فيها، ولم يمنع "الحجاج بن يوسف" في زمان الإسلام عنها، وقد نصب المنجنيق على الكعبة وأضرمها بالنار وسفك فيها الدم، وقتل "عبد الله بن الزبير" وأصحابه في المسجد، وكيف لم يحبس عنها القرامطة، وقد سلبوا الكعبة ونزعوا حليها وقلعوا الحجر، وقتلوا العالم من الحاج وخيار المسلمين بحضرة الكعبة؟
فأجاب عن مسألته بعض العلماء: بأن حبس الفيل عنها في الجاهلية
#39#
كان علما لنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنويها بذكر آياته إذ كانوا عمار البيت وسكان الوادي، فكان ذلك الصنيع إرهاصا للنبوة وحجة عليهم في إثباتها، فلو لم يقع الحبس عنها والذب عن حريمها لكان في ذلك أمران:
أحدهما: فناء أهل الحرم، وهم الآباء والأسلاف لعامة المسلمين، ولكافة من قام به الدين.
والآخر: أن الله تعالى: أراد [أن يقيم] به الحجة عليهم في إثبات نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يجعله مقدمة لكونها وظهورها فيهم، فكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامئذ، وكانوا قوما عربا أهل جاهلية، ليست لهم بصيرة في العلم ولا تقدمة في الحكمة، وإنما كانوا يعرفون من الأمور ما كان دركه من جهة الحس والمشاهدة، فلو لم يجر الأمر في ذلك على الوجه الذي جرى لم يكن يبقى في أيديهم شيء من دلائل النبوة تقوم به الحجة عليهم في ذلك الزمان، فأما وقد أظهر الله الدين ورفع أعلامه وشرح أدلته وأكثر أنصاره فلم يكن ما حدث عليها من ذلك الصنيع أمرا يضر بالدين أو يقدح في بصائر المسلمين، وإنما كان ما حدث منه امتحانا من الله تعالى لعباده ليبلو في ذلك صبرهم واجتهادهم، ولينيلهم من كرامته ومغفرته ما هو أهل التفضل به، والله يفعل ما يشاء وله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.
ذكره الخطابي في كتابه "معالم السنن".
#40#
$[ذكر الموضع الذي هلك فيه الحبشة]$
وكان الموضع الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل وأنزل الله بهم بأسه في "وادي محسر"، وهو ما بين موقف "المزدلفة" مما يلي "منى" لا من "المزدلفة" ولا من "منى" بل هو برزخ بينهما، وقيل بعضه من "منى" وبعضه من "مزدلفة".
وفي "الصحيحين" ما يدل على أنه من "منى"، والله أعلم.
وعرفه صاحبنا الحافظ الشريف أبو الطيب الحسني في "تاريخ مكة" بأن قال: محسر واد عند المكان الذي يقال له "المهلل"؛ لأن الناس إذا وصلوا إليه في حجهم هللوا وأسرعوا السير في الوادي المتصل به.
والمهلل المشار إليه مكان مرتفع عنده بركتان معطلتان بلحف قرب جبل عال، ويتصل بهما آثار حائط، ويكون ذلك كله على يمين الذاهب إلى "عرفة" ويسار الذاهب إلى "منى". انتهى.
و"محسر" بكسر السين المغفلة المشددة، سمي بذلك؛ لأن الفيل استحسر فيه، أي: أعيى، وانقطع عن التوجه إلى البيت؛ وعلى هذا
#41#
القول جماعة -سلف وخلف- منهم: سليمان بن خليل، والمحب الطبري، وفيه نظر، لما تقدم أن الفيل لم يدخل الحرم.
وورد أن الفيل حصل له ذلك لما أتاه "نفيل بن حبيب" وقال له في أذنه: "يا محمود، إنك في بلاد الله، فارجع"، فربض مكانه.
وهذا يدل على ما قاله أبو محمد بن قتيبة في "كتاب طبائع الحيوان" من أن لسان الفيل مقلوب طرفه إلى داخل. قال: والهند تقول: لولا أن لسانه مقلوب لتكلم، وليس لشيء من ذكور الحيوان ثدي في صدره إلا الإنسان والفيل.
وقيل: تميز الفيل عن غيره بالخرطوم، والنابين، والرأس، والأذنين، وعظم الجثة، واكتناز المفاصل: حتى لا يسلس للوقوع إلى الأرض، وإن وقع لا يقدر على القيام.
وقيل إن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل.
وذكر السهيلي أن الفيل على عظم خلقه يفرق من الهر، وينفر منه، وقد احتيل على بعض الفيلة في الحروب، فأطلق لها الهررة، فذعرت، وولت، وكان سببا لهزيمة أصحابها، ونسبت هذه الحيلة إلى "هارون بن موسى" حين غزا بلاد الهند. انتهى.
والفيل يعمر، قيل إن فيلا عاش أربعمائة سنة.
#42#
وقال أبو حسان الزيادي: رأيت فيلا أيام أبي جعفر، قيل إنه سجد لسابور ذي الأكتاف، ولأبي جعفر.
قلت: وقد حدثني الرئيس الفاضل الطبيب الكاتب أبو عبد الله محمد ابن أبي إسحاق إبراهيم بن الضريس الحموي قدم علينا دمشق أنه كان جالسا مع "تمرلنك" الطاغية ضاعف الله عليه العذاب، وكان في يوم عيد من أعياد الفرس، فأتى عليه أمين الفيلة ومعه الفيلة، فيهم فيل مقدم عليها، فسجد قال: فقال لي "تمرلنك": أتعرف هذا؟ فقلت: فيل.
فضحك، وقال: نعم، هو فيل، ولكنه سجد للسلطان محمود بن سبكتكين، وسجد لي، وبين ذلك مدة طويلة.
فتعجبت من ذلك واستعظمته، والفيل ينظر إلي ويسمع كلامنا، ففهم الفيل -والله أعلم- أني أنكرت ذلك ففتح فاه وكشف عن أسنانه، فإذا
#43#
هو لم يبق في فيه سن، و"تمرلنك" -ضاعف الله عليه العذاب- ضحك وقال لي: انظر إليه، فإنه يعلمك أن الذي قلته صحيح، وأن من كبره لم يبق فيه سن.
قلت: وبين الملك "محمود" هذا ملك السامانية وبين "تمرلنك" -ضاعف الله عليه العذاب- نيف وأربع مائة.
وإن ثبت هذا فلعله من الأفيال التي غنمها الملك "أبو القاسم محمود" لما غزا بلاد الهند في سنة تسع وأربع مائة، ففي سنة عشر وأربع مائة ورد كتابه من "الهند" يذكر فيه الفتح، وأنه استعرض من الأفيال ثلاثمائة وستة وخمسين فيلا، وأنه دخل مدينة وجد بها ألف قصر مشيد وألف بيت للأصنام، ومبلغ ما في الصنم من الذهب يقارب مائة ألف دينار، ومن الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم.
قلت: هذه الغنيمة عظيمة لما كان فيها من الجواهر والذهب والفضة والأفيال، وغير ذلك.
و"محمود" هذا غزا "الهند" مرات، منها في سنة ثمان عشرة وأربعمائة التي كسر فيها الصنم الذي كانوا يأتون إليه من الأقطار البعيدة، وكان له ألف خادم وأكثر، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية مشهورة، فقتل من أهله خمسين ألفا، وبذل له أهل "الهند" مالا عظيما على أن لا يكسره فأبى، وكسره فوجد عليه من الجواهر والذهب ما زاد على ما بذلوه له أضعافا كثيرة، فرحمه [الله] وأكرم مثواه، كانت وفاته في "ربيع الأول" وقيل: في "جمادى الآخر"، سنة إحدى وعشرين وأربع مائة، وله من العمر ستون سنة، وقيل: أكثر.
#44#
قلت: قدوم الفيل مكة وهلاك أصحاب الفيل فيما ذكره النقاش في تفسيره في أول "المحرم" سنة اثنين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين.
قال الذهبي: صوابه: من تاريخ الإسكندر، وهو المقدوني، وليس هو الإسكندر ذي القرنين، ذا متقدم مؤمن، و"المقدوني" كافر، وزر له "أرسطو".
قاله في كتاب "بلبل الروض".
وذكر ابن الجوزي في "الوفا" أن ذلك كان يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من "المحرم"، وهو قول محمد بن موسى الخوارزمي، زاد ابن الجوزي: وكان أول "المحرم" تلك السنة يوم الجمعة، وذلك لمضي اثنين وأربعين سنة من ملك كسرى "نوشروان".
وقيل: لخمس ليال خلون من "المحرم".
وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: كان قدوم الفيل [في] النصف من "المحرم"، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة.
وفي عام المولد الشريف كان أيضا "يوم جبلة"، وهو يوم مشهور من أعظم أيام العرب.
و"جبلة": هضبة حمراء طويلة لها شعب عظيم واسع، وهي من "نجد".
وقيل: "جبلة": جبل ضخم على مقربة من "أضاخ" بين "الشريف" ماء لبني تميم وبين "السرف" ماء لبني كلاب.
#45#
وسبب "يوم جبلة" أن "لقيط بن زرارة" جمع قبائل بني تميم طرا، إلا بني سعد، وجمع بني أسد قاطبة وبني عبس طرا، إلا بني بدر، واستنجد بـ "النعمان بن المنذر" وبـ "الجون الكندي" صاحب "هجر"، فأمده "النعمان" بأخيه لأمه "حسان بن وبرة الكلبي"، وأمده بابنيه: "معاوية" و"عمرو"، فغزا بهذا الجمع بني عامر، وكانوا قد تحصنوا من ذلك الجمع بـ "جبلة" وأدخلوا العيال والذراري في شعبها ليقاتلوهم من وجه واحد، وقد عقلوا إبلهم أياما قبل ذلك لا ترعى، فصبحهم القوم من واردات، فلما دخلوا عليهم الشعب حلوا عقل الإبل، فأقبلت طالبة المراعي لا يردها شيء، فظنت بنو تميم أنه قد تدهدأ عليهم، ومرت تخبط ما لقيته، فكان سبب ظفر بني عامر على ذلك الجمع وقتل رئيسهم "لقيط بن زرارة" يومئذ.
#46#
&[ارتجاس الإيوان، وخمود النيران، وقصة سطيح وعبد المسيح، والهواتف، وغيرهم ليلة المولد الشريف]&
وليلة مولده الشريف وانفجار النور ظهرت عجائب وأمور، منها:
ما قال أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا -رحمة الله عليه- في كتابه "دلائل النبوة": حدثنا علي بن حرب الطائي، أخبرني أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، حدثنا مخزوم بن هانئ المخزومي، عن أبيه -وأتت له خمسون ومائة سنة- قال: لما كانت [الليلة التي] ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة "ساوة"، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى "الموبذان" إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت "دجلة" وانتشرت في بلادها.
#47#
فلما أصبح "كسرى" أفزعه ما رأى، فصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يستر ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم، فلما اجتمعوا عنده، قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟
قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك، فبينا هم على ذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فقال "الموبذان"، وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيت في هذه الليلة [رؤيا] ثم قص عليه رؤياه في الإبل.. فقال: أي شيء يكون هذا يا "موبذان"؟
قال: حدث يكون من ناحية العرب -وكان أعلمهم في أنفسهم.
فكتب عند ذلك: من "كسرى" ملك الملوك، إلى "النعمان بن المنذر"، أما بعد؛ فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه بـ "عبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني"، فلما قدم عليه قال: هل لك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: لا (خبروني) عنه، أو ليسألني الملك عما أحب، فإن كان عندي منه علم، وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبروه بما رأى، قال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له: "سطيح".
قال: فأته فاسأله عما سألتك وائتني بجوابه.
فركب "عبد المسيح" حتى قدم على "سطيح" وقد أشفى على الموت فسلم عليه وحياه، فلم يحر إليه "سطيح" جوابا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
#48#
أصم أم يسمع غطريف اليمن
أم فاز فازلم به شأو العنن
يا فاصل الخطة أعيت من ومن
وكاشف الكربة في الوجه الغضن
أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن جحن
أزرق نهم الناب صرار الأذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب في الأرض علنداه شجن
ترفعني و(وجن) وتهوي بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن
#49#
كأنما حثحث من حضني ثكن
حتى أتى عاري الجآجئ و(القطن)
تلفه في الريح بوغاء الدمن
فلما سمع "سطيح" شعره قال: "عبد المسيح"، على جمل مشيح، جاء إلى "سطيح"، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا "الموبذان": رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت "دجلة" وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لـ "سطيح" شاما، يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى "سطيح" مكانه، وسار "عبد المسيح" إلى رحله يقول:
#50#
شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وشابور وسابور
والناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر مجذور
فلما قدم "عبد المسيح" على "كسرى" أخبره بقول "سطيح" فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يكون أمور، قال: فملك منهم عشرة في أربع سنين، وملك الباقون إلى آخر خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
#51#
تابعه الحافظ أبو بكر عبد الله ابن أبي الدنيا في كتابه "دلائل النبوة"، وأبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان"، والإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرئ، فرووه بنحوه عن علي بن حرب، عن يعلى، وهو من أفراده.
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه"، وأبو بكر البيهقي، وأبو نعيم الأصبهاني في كتابيهما "دلائل النبوة"، وأبو القاسم بن عساكر في "تاريخه" وفي "الأربعين الطوال في دلائل النبوة" من طرائق "هواتف الجنان" للخرائطي.
وقوله في الشعر الأول: "غطريف اليمن": "الغطريف" في هذا: "السيد"، وفي غير هذا: البازي الذي أخذ من وكره صغيرا. قاله أبو عبيد الهروي.
و"فاز": يقال فاز يفوز: إذا مات، وروي "فاد" بالدال المهملة، وهو بمعنى "فاز"، يقال: فاد يفود؛ إذا مات.
#52#
و"ازلم" محذوف، من "ازلأم" -بالهمزة-، ويقال: "ازلام" بالمد إذا ولى مسرعا.
و"الشأو": الغاية والسبق.
و"العنن" هنا: اعتراض الموت، يقال: "عن لي كذا": أي: عرض.
ومعنى: "فازلم به شأو العنن" أي: ذهب به غاية الموت ذهابا سريعا.
و"الفاصل": الحاكم المبين، يقال: "فصل الحاكم بين الخصمين يفصل -بالكسر- فصلا وفصولا": قضى. و"فصل القائل القول": أحكمه.
و"الخطة": الحالة.
و"الوجه الغضن": الذي فيه تكسر وتجعد واسترخاء، من الكرب الذي أصابه.
و"الأزرق": أراد به النمر، وهم أبدا يصفونه بالزرقة؛ لزرقة عينيه.
وقال أبو القاسم بن عساكر: أراه أورق، والورقة: رمدة في لون الإبل. انتهى.
ومنهم من جعل الأزرق صفة البعير ولونه.
و"نهم الناب" روي هذا الحرف هكذا بالنون، وفسر بأنه حديد الناب، وروي "مهم الناب" بالميم بدل النون، وهو المشهور في الرواية فيما ذكره بعض المتأخرين، ولم يذكر أبو عبيد الهروي في "الغريبين" غيره.
لكن حكي عن أبي منصور الأزهري ما سنذكره، فقال أبو عبيد: قوله: "مهم الناب" أي: حديد الناب.
وقال الأزهري: هكذا روي هذا الحرف، وأظنه: "مهو الناب"
#53#
بالواو، يقال: "سيف مهو" أي: حديد. انتهى.
وروي "مهمى الناب"، و"ممهى الناب" مقلوب من الأول، وكلاهما معناه: المحدد.
و"صرر الأذن": الذي نصب أذنه وسواها.
و"الفضفاض": الواسع، و"بدن فضفاض" أي: كثير اللحم، ويكني بالرداء عن لابسه، والمراد به: سعة الصدر. قاله أبو القاسم بن عساكر.
و"القيل": الملك.
و"الوسن" من السنة وهي النعاس، يبدأ في الرأس، فإذا صار إلى القلب فهو النوم. حكاه أبو عبيد الهروي عن ابن عرفة.
وقوله: "يسري" للوسن، أراد به رؤيا "كسرى" و"الموبذان"، وروي: "رسول قيل العجم كسرى ذي الوسن" أي: صاحب الرؤيا.
و"يجوب": يقطع، يقال: "هو جواب ليل" إذا كان قطاعا للبلاد سيرا فيها، يقال: "جبت البلاد أجوبها جوبا" إذا قطعتها.
و"العلنداة": الصلبة القوية من النوق.
و"الشجن": الناقة المتداخلة الخلق، كأنها شجرة متشجنة، أي متصلة الأغصان ملتفتها.
وروي "وعلنداة شزن" بالفتح محركة، وروي "شزن" بضم الشين المعجمة والزاي، ومعناهما: الشدة والغلظة، وقيل: بالفتح: الغلظة، وبالضم: الجانب والناحية.
#54#
و"الشزن" بالفتح أيضا: النشاط. قال أبو عبيد الهروي: وأسمعنيه بعض أهل الأدب: "علنداة شزن"، قال: "والشزن": المعيي من الحفا، يقال: "شزن البعير يشزن". قال: ويكون الذي يمشي في شق. قال: ويقال: "بات فلان على شزن" أي: قلق، يتقلب من جنب إلى جنب.
و"الوجن" بضمتين جمع "وجين"، وهو المنقاد من الأرض في غلظ، وتخفف الجيم فتسكن، وروي بالفتح، قال الأزهري: "الوجن" الأرض الغليظة الصلبة، وهي "الوجن" أيضا.
وقوله: "وتهوي بي وجن" أي: تسرع بي فيها، ويروى: (وجناء تهوي من وجن) فهو على هذا صفة للناقة، و"وجن" صفة للأرض، أي: لم يزل هذا البعير أو هذه الناقة التي هذا صفته ترفعني مرة في هذه الأرض بهذه الصفة وتخفضني مرة أخرى.
و"الجآجئ" جمع "جؤجو" وهو عظام الصدر.
و"القطن" بفتح القاف وكسر الطاء المهملة يليها نون جمع "قطنة" بالفتح ثم بكسر تاليه، وهي: لحمة بين الوركين. ذكره ابن دريد في "الجمهرة"، وأنشد شاهدا له:
(حتى أتى عاري الجآجئ والقطن) ...
#55#
ورواه بعضهم "العطن" بعين وطاء مهملتين مفتوحتين، فيكون على هذا من قولهم: "رجل واسع العطن" إذا كان رحب الذراع.
و"القطن" بالقاف وكسر الطاء هو المعروف، وهو: ما بين الوركين من أسفل الظهر من اللحم.
و"العاري" في قوله: "عاري الجآجئ والقطن" العاري: الذي ذهب لحمه وشحمه، فكأنه من شدة سيره وتعبه ذهب شحمه ولحمه من هذين المكانين.
و"البوغاء" دقائق التراب الطائر في الهواء.
و"الدمن" جمع "دمنة"، وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض. وقيل: "الدمن" ما تدمن -أي: تجمع- من أبوال الإبل وأبعارها. ومنه اشتق اسم "الدمنة" وهي: المنزل.
وقوله: "تلفه في الريح بوغاء الدمن" كأنه من باب المقلوب، أي: تلفه الريح في بوغاء الدمن، ويشهد لذلك ما في الرواية الأخرى:
(تلفه في الريح ببوغاء الدمن)
ويروى أيضا:
(تلوحه في اللوح بوغاء الدمن)
ومعنى "يلوحه": يغيره، يقال منه: "لاحه ولوحه": إذا غير لونه.
و"اللوح" بالضم: الهواء بين السماء والأرض، فمعناه على هذا: أن الهواء والتراب يغيران لونه.
و"حثحث": أي: حث واستعجل، والحث: السرعة. ويروى
#56#
(حثحث) مبني لما لم يسم فاعله. بمعنى: حث، والحث: الاستعجال والتحريض والحض.
و"ثكن": اسم جبل من جبال الحجاز.
وقوله: "على جمل مشيح": "المشيح": الجاد في أمره في لغة هذيل. وفي رواية: "طليح" أي: يعيي، ويقال: "بعير طلح وطليح": إذا أعيى، و"أطلحته أنا إطلاحا".
و"ارتجاس الإيوان": صوته لما سقط منه ما سقط، من قولهم: "رعد مرتجس" و"مرتجز" إذا سمعت له صوتا، وسمي البحر "رجاسا" لصوت موجه.
و"الإيوان": بيت له ثلاثة جدران فقط، ويستر أعلى المكان الخالي من الجدار بما يقي من الشمس، بكسر أوله، ويفتح، والكسر أفصح؛ لأن "الإيوان" فارسي معرب، والمعرب كلما كان من العجمة أبعد كان أفصح.
و"الهراوة": العصى، وفسرت أيضا بالقضيب، ويعني سطيح بـ "صاحب الهراوة" النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يمسك القضيب كثيرا، وكانت العصا تحمل بين يديه للصلاة إليها، وتحمل معه عند قضاء حاجته لخدش الأرض بها إذا كانت صلبة لمكان بوله، ولغير ذلك.
و"فاض وادي السماوة" أي: كثر ماؤه.
و"السماوة": مفازة بين الشام والعراق، وسماوة كل شيء:
#57#
شخصه، وبذلك سميت السماوة؛ لأنها منازل ثمود، وفيها إلى الآن أشخاص منازلهم وآثارهم.
وقوله في الشعر "شمير" هو الشديد التشمر، وكنى به هنا عن الجد والاجتهاد.
ومعنى "أفرطهم" أي: تركهم وزال عنهم.
وقوله: "فإن ذا الدهر أطوار" أي: فإن هذا الدهر حالات تختلف.
و"دهارير": تصاريف الزمان الدهر، ونوائبه.
و"صولهم": حملتهم.
و"المهاصير": جمع "مهصر"، يوصف به الأسد؛ لأنه يهصر الفريسة، أي يعطفها، مأخوذ من "الهصر" وهو: عطفك الشيء الرطب خاصة نحو العود والغصن، وفسر بعضهم "المهاصير" أنها التي تكسر كلما ظفرت به.
و"الصرح": القصر.
وقوله: "أولاد علات" أي: من أمهات شتى؛ لأن أباهم "آدم" وطبائعهم وأهواؤهم وأغراضهم مختلفة.
وقوله: "وهم بنو الأم" أي: يعطف بعضهم على بعض إذا رأوا غنى ومالا؛ لأن بني الأم بعضهم على بعض أعطف من أولاد الأب؛ لكون الأم أعطف على الأولاد من الأب، وقيل في قول هارون لموسى -عليهما السلام: {يبنؤم} قيل: إنه استعطفه ليرق عليه، وإن كانا من أب وأم.
#58#
و"كسرى" المذكور في هذا الحديث هو: كسرى نوشروان ابن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد بن بهرام ابن سابور ذي الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير -و"أردشير" قيده الدارقطني بالراء، وقيده غيره بالزاي- بن بابك بن ساسان، المذكور في شعر "عبد المسيح" في قوله:
(إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم)
والإيوان المذكور منسوب إلى "كسرى" هذا؛ بناه في نيف وعشرين سنة، وقيل: إن الذي بناه سابور بن هرمز ذو الأكتاف. ذكره ابن قتيبة.
وزعم المسعودي أن "سابور ذا الأكتاف" بناه ولم يكمله، فأتمه "أبرويز بن هرمز".
#59#
و"الإيوان" المذكور بالمدائن، وهي مدينة صغيرة بالجانب الغربي من "دجلة".
وكانت "المدائن" قبل تشتمل على سبع مدائن، بين كل من السبع والأخرى مسافة، وكل معمور بالناس، إلى أن فتح المسلمون تلك المدن واختطت "البصرة" و"الكوفة" فانتقل الناس إليهما من مدن المدائن، ولم يزل يضعف أمرها إلى أن صارت "المدائن" بليدة صغيرة في الجانب الغربي من "دجلة" كما تقدم، وهي جاهلية، آثارها عظيمة ومعالمها قائمة، وهي من "بغداد" على سبعة فراسخ.
وفي الجانب الشرقي من المدائن الإيوان الذي بها، ليس للأكاسرة أثر ولا بنية له.
وطوله مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، وهو مبني من الآجر الكبار والجص بناء محكما، وغلظ الأزج خمس آجرات، وطول كل شرفة من الشرف خمسة عشر ذراعا.
ذكر "ابن خرداذبه": أنه ما بني بالجص والآجر أبهى منه.
ومن عجيب ما يحكى من عظم بنائه أن شرفة منه هدمت وجعلت أساسا لسور بغداد.
#60#
ولما بنى "المنصور" بغداد أحب أن ينقضه ويبني بنقضه، فاستشار "خالد بن برمك" فنهاه وقال: "هو آية الإسلام، ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلا نبي، وهو مصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والمؤنة في نقضه أكثر من الارتفاق به". فقال له: "أبيت إلا ميلا إلى العجم".
فهدمت منه ثلمة بلغت النفقة عليها مالا كثيرا فأمسك، فقال له خالد: "أنا الآن أشير عليك بهدمه لئلا يتحدث بعجزك عنه"، فلم يفعل، وتركه.
ذكر هذا الزمخشري في "ربيع الأبرار".
وهذه القصة خرجها الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه" من طريق أبي عبيد الله محمد بن عمران المرزباني، حدثنا
#61#
أبو الحسن عبد الواحد بن محمد الحصيني، حدثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: لما صارت الخلافة إلى "المنصور" هم بنقض إيوان المدائن، فاستشار جماعة من أصحابه، فكلهم أشار بمثل ما هم به، وكان معه كاتب من الفرس، فاستشاره في ذلك، فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من تلك القرية -يعني: المدينة- وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حتى جاؤوا مع ضعفهم إلى صاحب هذا الإيوان مع عزته وصعوبة أمره، فغلبوه وأخذوه من يده قسرا قهرا، ثم قتلوه، فيجيء الجائي من أقاصي الأرض فينظر إلى تلك المدينة وإلى هذا الإيوان، ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هذا الإيوان، فلا يشك أنه بأمر الله تعالى وأنه هو الذي أيده وكان معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم.
فاستغشه "المنصور" واتهمه لقرابته من القوم، ثم بعث في نقض الإيوان، فنقض منه الشيء اليسير، ثم كتب إليه أنه يغرم في نقضه أكثر مما يسترجع منه، وأن هذا تلف الأموال وذهابها.
فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب به إليه، فقال له: قد كنت أشرت بشيء لم تقبل مني، فأما الآن فإني آنف لكم أن يكون أولئك بنوا بناء تعجزون أنتم عن هدمه، والصواب أن تبلغ به الماء. ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق، ثم نظر فإذا هدمه يتلف الأموال، فأمر بالإمساك عنه.
ثم روى بإسناده عن أبي العباس المبرد، أخبرني القاسم بن سهل النوشجاني أن ستر باب الإيوان أحرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن،
#62#
فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهب، فبيع المثقال بعدة دراهم، فبلغ ذلك عشرة آلاف درهم.
وقيل: كان بساط كسرى ستين ذراعا في مثلها مربعا، وكان منسوجا بالذهب مرصعا باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر التي لم ير مثلها مصورا فيه جميع ممالك كسرى وسائر بلاده، فإذا جلس على الكرسي رأى جميع بلاده، فلما غنمه المسلمون حمل إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، واقتسمه المسلمون، فخرج لعلي رضي الله عنه قطعة منه مقدار شبر، فباعها بعشرين ألف دينار، وليست بأجود القطع.
وخرج الخطيب أيضا من طريق محمد بن أحمد [بن] البراء، حدثنا القاسم بن أبي شيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن الشيباني، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن السائب بن الأقرع: أنه كان جالسا في إيوان كسرى، قال: فنظر إلى تمثال يشير بأصبعه إلى موضع. قال: فوقع في روعي أنه يشير إلى كنز، قال: فاحتفرت الموضع فاستخرجت كنزا عظيما، فكتبت إلى عمر رضي الله عنه أخبره، وكتبت أن هذا شيء أفاءه الله عز وجل علي دون المسلمين. قال: فكتب إليه عمر: إنك أمير من أمراء [المسلمين]، فاقسمه بين المسلمين.
وخرجه أبو الحسن محمد بن أحمد بن البراء العبدي في كتابه "الروضة الصغيرة" بسنده المذكور.
و"السائب بن الأقرع بن جابر الثقفي" هذا له رؤية، وهو ابن عم عثمان بن أبي العاص، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه قبض الأخماس
#63#
من غنائم أموال الفرس، وورد المدائن واليا عليها.
وكان آخر الملوك الذين ملكوا من نسل "كسرى" المذكور: "يزدجرد بن شهريار - الذي كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتابا- بن أبرويز بن هرمز بن كسرى نوشروان".
وكان "يزدجرد" هذا كسرى زمانه قتل في خلافة عثمان رضي الله عنه سنة إحدى وثلاثين، وبه انقضت دولة الأكاسرة وولت أيامهم، وكان هذا خاتمتهم.
وقوله: "وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام".
"فارس" اسم علم لطائفة من العجم، كان دينهم دين الصابئة، ثم صاروا مجوسا يعبدون النار.
و"بلاد فارس" مشتملة على خمس كور: فأوسعها وأكثرها مدنا ونواحي: "كورة إصطخر"، ويليها "أردشير خرة" ومدينتها "جور"، و"كورة دارابجرد"، و"كورة الرجان"، و"كورة سابور".
#64#
وكان لهذه الخمس كور بيوت نيران كثيرة للمجوس، فالذي بلغني من مشهورها بيت نار "فرة" و"شرخشين" الذي بـ "باب سابور"، و"حينيد كلوسن". بباب سابور المحاذي لـ "باب ساسان"، وبيت يعرف بـ "حفتة"، وبيت معروف بـ "كلازن" و"بيت ناريجرة" وكان من البيوت المعظمة عندهم، وبه تحلف المجوس تغليظا لأيمانهم، وهذا البيت ينسب إلى دارا ابن دارا الملك المشهور الذي بنى دار ابجراد، وبيت عند بركة "جور" ويسمى "بارين"، وكان مكتوبا عليه فيما ذكره مصنف كتاب "صورة الأرض"، وكان في أوائل المائة الرابعة أنه حدثه من قرأ عليه بالفهلوية أنه أنفق عليه ثلاثون ألف ألف.
وكان لبيوت النار التي ذكرنا ولغيرها: قوام وسدنة يقومون عليها، وينتابون إيقادها، فلم يخمد لها لهب في ليل ولا نهار مدة عبادة المجوس للنار، وذلك ألف عام إلى ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها خمدت كلها في جميع البيوت الموجودة ليلتئذ أي: ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تقد.
و"الموبذان": بفتح الباء الموحدة وكسرها، عالم الفرس وقاضيهم.
و"عبد المسيح" هو: ابن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني النصراني، صاحب القصر الأبيض بـ "الحيرة" الذي يقال له: "قصر بني بقيلة".
#65#
و"بقيلة" لقب، واسمه: ثعلبة -وقيل: الحارث- بن سبين بن زيد بن سعد بن عدي بن نمر بن صوفة بن العاص بن عمرو بن مازن بن الأزد.
وإنما دعي "الحارث" "بقيلة"؛ لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين، فقالوا له: "ما أنت إلا بقيلة" فدعي بذلك.
و"عبد المسيح" هذا هو الذي صالح خالد بن الوليد رضي الله عنه على "الحيرة"، وكان ملكها يومئذ "الموبذان" من قبل "كسرى"، ملكه إياها حين مات النعمان بن المنذر.
حدث هشام بن محمد بن السائب بن الكلبي عن لوط أبي مخنف وشرقي بن قطامي، عن الكلبي قال: لما أقبل خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق يريد "الحيرة"، قال: فبعثوا إليه "عبد المسيح الغساني"، فقال له خالد: كم أتت لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة سنة. قال: ومعه سم ساعة يقلبه في يده، فقال له خالد: ما هذا معك؟ قال: هذا سم. قال: ما تصنع به؟ قال: أتيتك، فإن يكن عندك ما يسرني ويوافق أهل بلدي قبلته وحمدت الله، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق الذل إلى أهل بلده فآكل هذا السم فأستريح من
#66#
الدنيا، فإنما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته. فأخذه من يده ووضعه في راحته ثم قال: "بسم الله، وبالله رب الأرض والسماء، بسم الذي لا يضر مع اسمه داء"، ثم أكله، فتجلته غشية، ثم عرق، فأفاق وكأنما نشط من عقال. فانصرف إلى قومه، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة، فلم يضره، صالحوهم.
وقد رويت هذه القصة مطولة، وهي: أن خالدا رضي الله عنه لما نزل على "الحيرة" وتحصن منه أهلها أرسل إليهم: ابعثوا لي رجلا من عقلائكم وذوي أسنانكم.
فبعثوا إليه "عبد المسيح بن بقيلة"، فأقبل يمشي حتى دنا من "خالد" فقال: أنعم صباحا أيها الملك.
قال: قد أغنانا الله عن تحيتك هذه، فمن أين أقصى أثرك أيها الشيخ. قال: من ظهر أبي.
قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أمي.
قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض.
قال ففيم أنت؟ قال: في ثيابي. قال: أتعقل - لا عقلت؟ قال: إي والله وأقيد.
قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد.
قال خالد رضي الله عنه: ما رأيت كاليوم قط أن أسأله عن الشيء وينحو عن غيره.
#67#
قال: ما أنبأتك إلا عما سألت: فنس عما بدا لك.
قال: أعرب أنتم أم نبط؟
قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا.
قال: فحرب أنتم أم سلم؟
قال: بل سلم.
قال: فما هذه الحصون؟
قال: بنيناها لسفيه نحذر منه حتى يجيء الحليم ينهاه.
قال: كم أتى لك؟
قال: خمسون وثلاثمائة سنة.
قال: فما أدركت؟
قال: أدركت سفن البحر ترفأ إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل "الحيرة" تضع مكتلها على رأسها لا تزود إلا رغيفا واحدا حتى تأتي الشام، ثم قد أصبحت اليوم خرابا، وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد.
قال: ومعه سم ساعة يقلبه في كفه، فقال له خالد: ما هذا في كفك؟
قال: السم.
قال: وما تصنع به؟
قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله تعالى وقبلته، وإن تكن الأخرى لم أكن أول من ساق الذل إلى قومه، أشربه وأستريح من الحياة، فإنما بقي من عمري اليسير.
#68#
قال خالد: هاته. فأخذه، وقال: "بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه داء"، ثم أكله فتجللته غشية ثم ضرب بيده على صورته. وفي رواية ثم ضرب بذقنه صدره طويلا، ثم عرق وأفاق رضي الله عنه، فكأنما نشط من عقال.
فانصرف "عبد المسيح" إلى قومه، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره، صانعوا القوم وأخرجوهم عنكم، فإن هذا أمر مصنوع له.
فصالحوهم على "الحيرة"، وأعطوا خالدا رضي الله عنه الجزية مائة ألف درهم.
فصالحهم خالد، وكتب لهم كتابا، فكانت أول جزية في الإسلام، وكان ذلك اثنتي عشرة من الهجرة بعد فراغ قتال أهل الردة.
وكان "عبد المسيح" هذا شاعرا معمرا، عاش سبعمائة سنة، وقيل: خمسمائة سنة، وقيل: ثلاثمائة سنة.
قال أبو المعالي محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون في كتابه "تذكرة المحاضرة وتبصرة المحاورة": وذكر أن بعض مشايخ أهل
#69#
"الحيرة" خرج إلى ظهرها (يحيط) ديرا، فلما حفر موضع الأساس وأمعن في الاحتفار أصاب كهيئة البيت، فدخله، فإذا رجل على سرير من زجاج عند رأسه كتابة: أنا "عبد المسيح بن بقيلة":
حلبت الدهر أشطره حياتي ... ونلت من المنى بلغ المزيد
وكافحت الأمور وكافحتني ... ولم أحفل بمعضلة كئود
وكدت أنال في الشرف الثريا ... ولكن لا سبيل إلى الخلود
و"سطيح" اسمه: الربيع بن ربيعة بن مسعود بن عدي بن ذئب بن عمرو بن حارثة بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأسيد، من "غسان".
كذا يقول الكلبي وغيره، وتقدم عن ابن إسحاق ما يخالفه.
وقيل اسم "سطيح": عرف. وقيل غير ذلك.
قال أبو حاتم السجستاني: سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره
#70#
قالوا: وكان من بعد "لقمان بن عاد": "سطيح"، ولد في زمان سيل العرم. قيل: وأنذر سيل العرم، وعاش إلى ملك "ذي نواس" وذلك نحو من ثلاثين قرنا، وكان مسكنه "البحرين"، وزعمت "عبد القيس" أنه منهم، وتزعم "الأزد" أنه منهم، وأكثر المحدثين يقولون: هو من "الأزد"، ولا يدرى ممن هو، غير أن ولده يقولون: إنه من "الأزد".
ذكره أبو القاسم بن عساكر في "تاريخه".
وقد تقدم أن "طريفة بنت الحر" الكاهنة تفلت في فيه يوم ماتت، فورث منها الكهانة هو و"شق".
قال أبو نعيم في "الدلائل": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن [بنت] شرحبيل، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن عبد الله بن الديلمي قال: أتى
#71#
رجل ابن عباس رضي الله عنهما فقال: بلغنا أنك تذكر "سطيحا" (وتزعم)، أن الله خلقه لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه؟ قال: نعم، إن الله عز وجل خلق "سطيحا الغساني" لحما على وضم، ولم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفان، وكان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب، ولم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه، فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمه، فأتي به مكة، فخرج إليه أربعة من قريش: "عبد شمس" و "هاشم" ابنا "عبد مناف بن قصي"، و"الأحوص بن فهر" و"عقيل بن أبي وقاص"، فانتموا إلى غير نسبهم، وقالوا: نحن أناس من "جمح" أتيناك، بلغنا قدومك، فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا، وأهدى إليه عقيل صفيحة هندية وصعدة ردينية، فوضعت على باب البيت الحرام؛ لينظروا هل يراها "سطيح" أم لا، فقال: يا عقيل، ناولني يدك. فناوله يده، فقال: يا عقيل، والعالم الخفية، والغافر الخطية، والذمة الوفية، والكعبة المبنية، إنك لجاء بالهدية: الصفيحة الهندية والصعدة الردينية.
قالوا: صدقت يا "سطيح".
فقال: والآت بالفرح، وقوس قزح، وسائر القرح، واللطيم المنبطح، والنخل والرطب والبلح، إن الغراب حيث مر سنح. فأخبر
#72#
أن القوم ليسوا من "جمح" وأن نسبهم من قريش ذي البطح. قالوا: صدقت يا "سطيح"، نحن أهل البيت الحرام، أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك، فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا وما يكون بعده (فقدان أن) يكون عندك في ذلك علم.
قال: الآن (صدقتم)، خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر العرب، في زمان الهرم، (سواء) بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم (ذوو فهم)، يطلبون أنواع العلم، فيكسرون الصنم، (يكفون) الردم، يقتلون العجم، يطلبون الغنم.
قالوا: يا "سطيح"، فمن يكون أولئك؟
فقال لهم: والبيت ذي الأركان، والأمن والسكان، لينشؤون من عقبكم ولدان، يكسرون الأوثان، وينكرون عبادة الشيطان، ويوحدون الرحمن، وينشرون دين الديان، يشرفون البنيان.
قالوا: يا "سطيح"، من نسل من يكون أولئك؟ فقال: وأشرف الأشراف، (والعصي) للأسراف، والمزعزع الأحقاف، والمضعف الأضعاف، لينشؤون الآلاف من عبد شمس وعبد مناف، نشوءا يكون فيهم اختلاف.
#73#
قالوا: يا سوءتا "سطيح"، فما تخبرنا من العلم بأمرهم؟ ومن أي بلد يخرج أولئك؟
فقال: والباقي الأبد، والبالغ الأمد، ليخرجن من ذا البلد، فتى يهدي إلى الرشد، يرفض "يغوث" و"الفند"، يبرأ من عبادة الصدد، يعبد ربا انفرد، ثم يتوفاه الله محمودا، من الأرض مفقودا، في السماء مشهودا، ثم يلي أمره "الصديق"، إذا قضى صدق، وفي رد الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف، ويترك قول العنيف، قد ضاف المضيف وأحكم التحنيف.
ثم ذكر "عثمان" ومقتله وما يكون بعده من أيام الخلفاء وما بعد ذلك من الفتن والملاحم.
وخرج ابن عساكر في "تاريخه" أن ملكا سأل "سطيحا" عن نسب غلام اختلف فيه، فأجابه على الجلية من أمره في كلام طويل مليح فصيح. فقال له الملك: يا "سطيح"، ألا تخبرني عن علمك هذا؟ فقال: إن علمي ليس مني، ولا بجزم ولا بظن، ولكن أخذته من أخ لي جني قد سمع الوحي بطور سني.
#74#
فقال له: أرأيت حال هذا الجني، أهو معك لا يفارقك؟
قال: إنه ليزول حيث أزول، ولا أسكن إلا بما يقول.
وروي نحوه عن وهب بن منبه أنه قال لسطيح: أنى لك هذا العلم؟
فقال: لي صاحب من الجن استمع أخبار السماء من طور سيناء حين كلم الله موسى عليه السلام فهو يؤدي إلي من ذلك ما يؤديه.
ومن أخباره أيضا: ما قال الحافظ أبو بكر البرقاني: أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي عون، حدثنا أبو عمار الحسين بن حرب، أخبرنا الشقيقي علي بن الحسين، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي سلمة -أظنه: السراج- عن يحيى بن أبي كثير: أن رجلين خرجا في سفر، ففقد أحدهما صاحبه، فلما رجع اجتمع أهل بيت هذا وأهل بيت هذا، حتى كاد يكون بينهما شيء. فقال ذو النهى منهم: هل لكم أن نبعث إلى "سطيح" رجلا منا نسأله عن شأن صاحبنا؟ فقال بعضهم لبعض: أرأيتم إن أخبرنا "سطيح" أنه قتل صاحبنا فكنا نقتله بقوله؟ وإن قال لم يقتله ندعه بقوله؟ فقالوا: نعم.
فقالوا: تعالوا حتى نعتلم علامة ثم نسأله عن علامتنا، فإن أخرجها لنا سألناه عن شأن صاحبنا. فأخذوا بدنة فنحروها ووضعوا من لحمها فاصطادوا عليه نسرا، وأخذوا من ريشه عشر ريشات وقالوا: هذه علامتنا، فأتوه، فلما رأوا سطيحا، قال: إن شئتم أخبرتكم بالذي جئتم تسألوني عنه، وإن شئتم فسلوا.
فقالوا: أخبرنا فيم جئناك؟
قال: إنكم سرتم إلي شهرا، ونحرتم على رأس شهر بكرا، واصطدتم على لحمه نسرا، وأخذتم من ريشه عشرا، وقلتم: "قتل عامر عمرا"، ما قتله إلا ذو أنياب قسرا.
#75#
قال: فرجع القوم يطلبون صاحبهم، فإذا به قد قتله الأسد.
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "مساوئ الأخلاق": أنشدني أبو سهل الرازي لسطيح الكاهن:
عليكم بتقوى الله في السر والجهر ... ولا تلبسوا أصدق الأمانة بالغدر
وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة ... إذا ما عرته النائبات من الدهر
وأخبار "سطيح" كثيرة، وقد جمعها غير واحد، ومنها: أنه كان إذا غضب انتفخ، وأن جمجمته كانت إذا مست باليد أثرت فيها؛ للين عظمها.
والمشهور: أنه كان كاهنا وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن نعته ومبعثه بأخبار كثيرة.
وروي: أنه عاش سبعمائة سنة، وأنه أدرك الإسلام فلم يسلم. قاله القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري فيما رواه ابن عساكر.
والحديث الذي سقناه يدل على أنه لم يدرك الإسلام، وهو الصحيح؛ لأن "عبد المسيح" قال في هذا الحديث: ثم قضى "سطيح" مكانه، وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يسير. والله أعلم.
وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق.
#76#
وقال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان": وعجيب ما يحكى عن الكهان مما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويدل منه بواضح البرهان: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر، حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبيد الله بن العلاء، حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه، أن نفرا من قريش، منهم: ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وعبيد الله بن جحش بن رئاب، وعثمان بن الحويرث،كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا، وكانوا يعظمونه وينحرون له الجزر، ثم يأكلون ويشربون الخمر، ويعكفون عليه، فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوبا على وجهه، فأنكروا ذلك، فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة، فلما رأوا ذلك اغتموا له وعظموا ذلك!!
فقال عثمان بن الحويرث: ماله قد أكثر التنكيس! إن هذا لأمر قد حدث، وذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل عثمان يقول:
#77#
أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد ومن قرب
تكوست مقلوبا فما ذاك قل لنا ... أذاك سفيه أو تكوست للعتب
فإن كان من ذنب أتينا فإننا ... نبوء بإقرار ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوبا تكوست صاغرا ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: وأخذوا الصنم، فردوه إلى حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير وهو يقول:
تردى لمولود أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب
وخرت له الأوثان طرا وأرعدت ... قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب
#78#
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت ... وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب
وصدت عن الكهان بالغيب جنها ... فلا مخبر عنهم بحق ولا كذب
فيا لقصي ارجعوا عن ضلالكم ... وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.
فقالوا: أجل.
فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد أخطئوا المحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به، لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم، وذكر الحديث.
وقال أيضا: حدثنا عبد الله بن محمد البلوي، حدثنا عمارة بن زيد، حدثني عبيد الله بن العلاء، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
#79#
جدته: أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: كان زيد بن عمرو وورقة بن نوفل يذكران: أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع "أبرهة" من مكة، قالا: فلما دخلنا عليه قال لنا: اصدقاني أيها القرشيان، هل ولد فيكم مولود أراد أبوه ذبحه، فضرب عليه بالقداح فسلم ونحرت عنه جمال كثيرة؟ قلنا: نعم. قال: فهل لكما علم به، ما فعل؟ قلنا: تزوج امرأة يقال لها: "آمنة بنت وهب"، تركها حاملا وخرج.
قال: فهل تعلمان ولد أم لا؟ قال ورقة بن نوفل: أخبرك أيها الملك، إني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به ونعبده، إذ سمعت من جوفه هاتفا وهو يقول:
ولد النبي فذلت الأملاك ... ونأى الضلال وأدبر الإشراك
ثم انتكس الصنم على رأسه. فقال زيد بن عمرو بن نفيل: عندي كخبره أيها الملك. قال: هات، قال: إني في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه خرجت من عند أهلي، وهم يذكرون حمل "آمنة"، حتى أتيت جبل "أبي قبيس" أريد الخلوة فيه لأمر رابني، إذ رأيت رجلا ينزل من السماء له جناحان أخضران، فوقف على جبل "أبي قبيس"، ثم أشرف على مكة فقال: "ذل الشيطان وبطلت الأوثان وولد الأمين"، ثم نشر ثوبا معه وأهوى به نحو المشرق والمغرب، فرأيته قد جلل ما تحت السماء، وسطع نور كاد أن يخطف بصري وهالني ما رأيت، وخفق الهاتف بجناحه حتى سقط على الكعبة، فسطع له نور أشرقت له "تهامة" وقال: زكت الأرض وأدت ربيعها، وأومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة، فسقطت كلها.
#80#
قال النجاشي: ويحكما، أخبركما عما أصابني، إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبتي وقت خلوتي، إذ خرج علي من الأرض عنق ورأس وهو يقول: حل الويل بأصحاب الفيل، رمتهم طير أبابيل بحجارة من سجيل، هلك الأشرم المعتدي المجرم، ولد النبي الأمي الحرمي المكي، من أجابه سعد، ومن أباه عند، ثم دخل الأرض فغاب، فذهبت أصيح، فلم أطق الكلام ورمت القيام، فقرعت القبة بيدي، فسمع ذلك أهلي، فجاؤوني، فقلت: احجبوا عني الحبشة. فحجبوهم عني، ثم أطلق عن لساني ورجلي.
وخرج أبو محمد دعلج بن أحمد بن دعلج في "مسند المقلين" من حديث وهب بن جرير بن حازم، حدثنا أبي، سمعت محمد بن إسحاق، حدثني صالح بن إبراهيم، [عن يحيى] بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، حدثني من شئت من رجال قومي، عن حسان بن ثابت قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان، أسمع ما أرى وأعقل، إذ أشرف يهودي على أطمة، فصرخ بأعلى صوته: "يا معشر يهود"، فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما شأنك، فقال: طلع
#81#
الليلة نجم "أحمد" الذي ولد به.
سئل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: كم كان عمر "حسان" مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؟ فقال: ابن ستين سنة وقدمها النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع "حسان" اليهودي يقول ما يقول وهو ابن سبع سنين، والله أعلم.
وخرج أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" من حديث عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوما لأتحدث فيهم ونحن يومئذ في (هدنة الهدم)، فسمعت "يوشع اليهودي" يقول: أظل خروج نبي يقال له: "أحمد"، يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي -كالمستهزئ به-: ما صفته؟
قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يلبس الشملة، ويركب الحمار، سيفه على عاتقه، وهذا البلد مهاجره.
#82#
قال: فرجعت إلى قومي بني [خدرة] وأنا يومئذ أتعجب مما يقول "يوشع"، فأسمع رجلا فينا يقول: و"يوشع" يقول هذا وحده! كل يهود "يثرب" تقول هذا.
قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة، فأجد جمعا، فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا "أحمد" وهذه مهاجره.
وخرج أبو نعيم أيضا من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كان أحبار يهود بني قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي وأنه لا نبي بعده، اسمه: "أحمد"، ومهاجره إلى طيبة، يثرب، الحديث.
وجاء عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الديباج، عن أمه، عن أبيها قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حبر كان بمكة: يولد الليلة مولود في بلادكم، هذا المولود النبي الذي يوصف بأن يعظمه موسى وهارون، يقتل أمتهما، فإن أخطأكم فبشروا أهل "الطائف" وأهل "أيلة". قال: فولد صلى الله عليه وسلم في آخر تلك الليلة، فخرج الحبر حتى دخل الحجر وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن موسى حق، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قاف لموسى حق، فإني مؤمن به.
ثم فقد فلم يقدر عليه.
#83#
"أم الديباج": فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنها
وخرج أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثني حاتم بن الليث الجوهري، حدثني سليمان بن عبد العزيز الزهري، حدثني أبي عبد العزيز بن عمران، عن عمه محمد بن عبد العزيز، عن أبيه، عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هتفت الجن على "أبي قبيس" وعلى الجبل الذي بـ "الحجون" الذي بأصله المقبرة، وكانت تئد فيه قريش بناتها، فقال الذي عليه:
فأقسم ما أنثى من الناس أنجبت ... ولا ولدت أنثى من الناس واحدة
كما ولدت زهرية ذات مفخر ... مجنبة لؤم القبائل ماجده
وقد ولدت خير القبائل أحمدا ... فأكرم مولود وأكرم والده
وقال الذي على "أبي قبيس":
يا ساكني البطحاء لا تغلطوا ... وميزوا الأمر بعقل مضي
#84#
إن بني زهرة من سركم ... في غابر الأمر وعند البدي
واحدة منكم فهاتوا لنا ... فيمن مضى في الناس أو من بقي
واحدة من غيرهم مثلها ... جنينها مثل النبي التقي
وحدث أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" عن عقبة بن مكرم، قال: [أنبأنا المسيب بن شريك قال] حدثنا محمد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان بـ "مر الظهران" راهب من الرهبان يدعى "عيصا" من أهل الشام، وكان مختفرا بـ "العاصي بن وائل"، وكان الله عز وجل قد آتاه علما كثيرا، وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول: "إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة تدين له العرب، ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه فاتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه
#85#
فخالفه أخطأ حاجته، وتالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن، ولا حللت أرض البؤس والخوف والجوع إلا في طلبه".
وكان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول: لا، ويكتم ذلك؛ للذي قد علم أنه لاق من قومه؛ مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يفضي إليه من الأذى يوما.
فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب، حتى أتى "عيصا"، فوقف في أصل صومعته ثم نادى: "يا عيصا"، فناداه: من هذا؟ فقال: "أنا عبد الله". فأشرف عليه فقال: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين، ويموت يوم الاثنين.
قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود. قال: فما سميته؟ قال: محمدا.
قال: والله، لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه، منها: أن نجمه طلع البارحة، وأنه: ولد اليوم، وأن: اسمه "محمد"؛ انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه ابنك.
قال: فما يدريك أنه ابني، ولعله أن يولد يومنا هذا مولودون عدة؟!
قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله عز وجل ليشبه علمه على العلماء؛ لأنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع.
فيشتكي أياما ثلاثا، يظهر به الوجع ثلاثا، ثم يعافى، فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد حسده أحد قط، ولم يبغ على أحد كما يبغى عليه، وإن يعش حتى تبدو معالمه، ثم يظهر لك من قومك ما لا يحتمله إلا على
#86#
صبر على ذلك، فاحفظ لسانك، ودارئ عنه.
قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره أو قصر لم يبلغ السبعين [يموت] في وتر دونها من الستين، في إحدى وستين، أو ثلاث وستين، الستون أعمار رجل من أمته.
وفي هذا دليل لمن قال: "إن عبد الله توفي بعد أن ولد ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" إن صح.
#87#
$ذكر رنة إبليس - لعنه الله - ليلة المولد الشريف، ومنعه وجنوده من السموات$
وفي "تفسير بقي بن مخلد" فيما حكاه السهيلي وأبو الربيع بن سالم وغيرهما: أن إبليس رن أربع رنات:
رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب.
وروى أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي الربيع، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد قال: رن إبليس -لعنه الله- أربعا: حين لعن، وحين أهبط، وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعث على فترة من الرسل، وحين أنزلت: {الحمد لله رب العالمين} وأنزلت بالمدينة، وكان يقال: الرنة والنخرة من الشيطان، فلعن من رن أو نخر.
#88#
وهذا مشهور عن مجاهد من قوله، كما خرجه ابن الأنباري في كتابه "الرد" عن أبيه، حدثني (أبو عبيد الله) الوراق، حدثنا أبو داود، حدثنا شيبان، عن منصور، عن مجاهد قال: إن إبليس -لعنه الله- رن أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط من الجنة، وحين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت فاتحة الكتاب وأنزلت بالمدينة.
وقول مجاهد عن الفاتحة: "وأنزلت بالمدينة" يروى أيضا عن أبي هريرة وعطاء بن يسار والزهري.
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم: نزلت بمكة.
وهو قول قتادة وأبي العالية والحسن والأكثرين.
وهو الأصح.
وقال أبو الحسن الواحدي في كتابه "أسباب النزول". وعند مجاهد: "أن الفاتحة" مدنية.
#89#
قال الحسين بن الفضل: لكل عالم هفوة، وهذه نادرة من مجاهد؛ لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه.
قلت: لم ينفرد به كما ذكرناه، والله أعلم.
وروي عن محمد بن كثير الكوفي، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: رن إبليس ثلاث رنات: رنة حين أهبط آدم عليه السلام من الجنة، ورنة حين ولد عيسى ابن مريم، ورنة حين أنزلت فاتحة الكتاب.
وجاء: إن إبليس لما خلق نخر:
قال ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا محمد بن عباد المكي، حدثنا سفيان، (عن) عمرو بن دينار، سمعت رجلا من أهل الأرض يقول: سمعت أبد الله بن إياس يقول: إن الله عز وجل لما خلق إبليس نخر.
قلت: "نخر" مأخوذ من قولهم: "نخر الحمار نخيرا" مد نفسه في خياشيمه.
ويذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الجن لا يحجبون عن السموات، فلما ولد عيسى صلى الله عليه وسلم منعوا من ثلاث سموات، فلما ولد
#90#
محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها.
وجاء عن وهب بن منبه قال: كان إبليس يصعد إلى السموات كلهن ويتقلب فيهن كيف شاء، لا يمنع منذ أخرج آدم عليه السلام من الجنة، إلى أن رفع عيسى عليه السلام، فحجب حينئذ عن أربع سموات، فصار يتردد في ثلاث سموات، فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث، فصار محجوبا يسترق هو وجنوده ويقذفون بالكواكب.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى الكناني، حدثني أبي، عن ابن إسحاق قال: كان هشام بن عروة، يحدث عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من قريش: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ فقال القوم: والله ما نعلمه. قال: الله أكبر، أما إذا خطأكم فلا بأس، انظروا واحفظوا ما أقول لكم، ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات، كأنهن عرف فرس، لا يرضع لليلتين، وذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه، فمنعه الرضاع.
فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه، فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله، فقالوا: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه "محمدا" صلى الله عليه وسلم.
#91#
فالتقى القوم فقالوا: هل سمعتهم حديث اليهودي؟ وهل بلغكم مولد هذا الغلام؟
فانطلقوا حتى جاؤوا اليهودي فأخبروه الخبر، قال: فاذهبوا معي حتى أنظر إليه.
فخرجوا به حتى أدخلوه على أمه، فقال: أخرجي إلينا ابنك. فأخرجته وكشفوا له عن ظهره، فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه، فلما أفاق قالوا: ويلك، مالك؟ قال: ذهبت -والله- النبوة من بني إسرائيل، أفرحتم به يا معشر قريش؟! والله، ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها المشرق والمغرب.. وذكر بقيته.
تابعه محمد بن يحيى الذهلي، عن أبي غسان.
وخرجه الحاكم في "مستدركه".
وهو عند ابن سعد في "الطبقات" عن علي بن محمد - هو: ابن عبد الله بن أبي سيف القرشي- عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر وغيره، عن هشام بن عروة بنحوه، وفيه: "به شامة بين كتفيه سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات"، وذكر بقيته.
قيل: هذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد بخاتم النبوة الذي بين كتفيه.
وقيل: وضع الخاتم وقت شرح صدره صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى بعد.
#92#
&ولادته صلى الله عليه وسلم مختونا والخلاف فيه&
وكذلك الخلاف جار في ختان النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البيهقي في
#93#
"الدلائل" من طريق أبي أيوب سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي بمصر، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا، قال فأعجب جده عبد المطلب وحظي عنده وقال: "ليكونن لابني هذا شأن"، فكان له شأن.
وخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق الخبائري بنحوه.
و"الخبائري" وشيخه "يونس": واهيان، لا يقوم بهما حجة، لكن تابع الخبائري محمد بن سعد فقال في "الطبقات الكبرى": حدثنا يونس بن عطاء المكي، حدثنا الحكم بن أبان العبدي، فذكره.
وذكر الذهبي في "تاريخ الإسلام" رواية ابن سعد هذه ثم قال: تابعه سليمان بن سلمة الخبائري، لكن أدخل فيه بين "يونس" و"الحكم": عثمان بن ربيعة الصدائي. انتهى.
قلت: وهذا وهم، دخل عليه من قوله: "يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة"، فتصحف "عن عثمان بن ربيعة"، والله أعلم، وقد تقدم على الصواب.
#94#
وأخبرنا أبو محمد سلمان بن عبد الحميد السلامي بقراءتي عليه، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن عثمان، أخبرنا عمر بن عبد المنعم الطائي. ح.
وأخبرتنا المعمرة اليقظة أم محمد زينب بنت محمد بن عثمان بقراءتي عليها، عن الطائي المذكور، وأبي الحسن علي بن البخاري إجازة مطلقة، قالا: أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد قراءة عليه، قال الأول: وأنا شاهد، والثاني: وأنا أسمع، أخبر علي بن المسلم، أخبرنا الحسين بن طلاب، أخبرنا محمد بن أحمد الصيداوي، حدثنا عمر بن موسى بالمصيصة، حدثنا جعفر بن عبد الواحد، قال: قال لنا صفوان بن هبيرة.
ومحمد بن بكر البرساني، عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
لم يذكر "العباس" في هذا الإسناد.
وفيه "جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان الهاشمي القاضي": رماه بالوضع الدارقطني والبرقاني, وغيرهما، وكان يسرق الأحاديث؟
#95#
وخرج أبو نعيم من حديث أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان الباغندي -وقد تكلم فيه-، حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي، حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي، حدثنا خالد بن سلمة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ولد صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
"خالد بن سلمة" إن لم يكن "الفأفأ" المخزومي فلا أعرفه، و"الفأفأ" تكلم في معتقده.
وهذا الحديث لا يثبت كالذي قبله، فإن الراوي عن "خالد بن سلمة" هو "موسى بن محمد بن عطاء أبو طاهر المقدسي" أحد المتروكين، رمي بالوضع والسرقة.
وخرج جماعة منهم الحافظ أبو بكر البغدادي الخطيب في "تاريخه" من طريق القاضي أبي بكر محمد بن عمر بن سلم الجعابي الحافظ، حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج البغدادي بالأبلة، حدثنا سفيان بن محمد المصيصي ح.
وخرج أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه" من طريق الحسين بن
#96#
عبد الله العوفي بالبصرة، حدثنا محمد بن أحمد الكرخي، حدثنا سفيان بن محمد المصيصي، حدثنا هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على الله أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد".
"المصيصي" هذا أحد السراق للحديث، المتكلم فيهم، لا يحتج بخبره، لاسيما وقد انفرد بهذا الحديث، قال الخطيب أبو بكر البغدادي في "تاريخه" بعد روايته هذا الحديث: لم يروه فيما يقال عن "يونس" غير "هشيم"، وتفرد به "سفيان بن محمد"، انتهى.
وأما ما رواه أبو القاسم بن عساكر من طريق القاضي أبي عمر محمد بن الحسين البسطامي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الجارود الرقي، أخبرنا الحسن بن عرفة، أخبرنا هشيم بن بشير، عن يونس، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كرامتي على ربي أني ولدت مختونا، ولم ير سوأتي أحد".
فهذا ربما يخفى على غير المتوغل في هذا الشأن فيظنه متابعة للمصيصي على روايته عن هشيم، وليس كذلك، فإن ابن الجارود سرقه فيما ذكره ابن عساكر وألصقه بابن عرفة، وحدث عنه به، والله أعلم.
#97#
ورواه ابن عساكر أيضا من طريق أبي بكر محمد بن أحمد الأسفاطي، حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الله البرجاني ونوح بن محمد بن نوح، قالا: حدثنا الحسن بن عرفة، فذكره.
وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الحلية" من طريق نوح بن محمد الأبلي، عن الحسن بن عرفة، وهذا شبه الموضوع.
وقال أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون بن ثابت الصباحي حدثنا علي بن محمد الفارسي، حدثنا محمد بن كثير الكوفي، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختونا.
وهذا لا يثبت أيضا، فابن كثير هو: "أبو إسحاق القرشي" واه جدا، تكلم فيه قتيبة بن سعيد وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو عبد الله البخاري وغيرهم.
#98#
وشيخه "إسماعيل بن مسلم"؟ أظنه والله أعلم المكي الراوي عن الحسن وابن سيرين وغيرهما، وقد ضعفه ابن المبارك وسفيان بن عيينة ويحيى القطان وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وغيرهم.
وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في "معجزات النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: ومنها: أن صفية بنت عبد المطلب قالت: أردت أن أعرف أذكر هو أم أنثى؟ فرأيته مختونا.
وهذا لا يصح أيضا، ولا له إسناد يعرف به.
قال أبو عبد الله ابن القيم: وقد زعم بعضهم أن الأحاديث (التي) في هذا الباب متواترة، وفيه نظر.
#99#
قلت: هو: الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، قال الذهبي في كتابه "الميزان" في ترجمة الحاكم أبي عبد الله: (من شقاشقه قوله: أجمعت الأمة أن القتبي كذاب، وقوله في أن المصطفى صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا قد تواتر هذا، وقوله إن عليا وصي).
فأما صدقه في نفسه ومعرفته بهذا الشأن فأمر مجمع عليه، مات سنة خمس وأربعمائة. انتهى.
وهذا أحد الأقوال في ختانه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن جبريل عليه السلام ختنه يوم شق قلبه.
قال جعفر بن محمد بن نصير الخلدي: حدثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، حدثنا عبد الرحمن بن عيينة البصري، حدثنا علي بن محمد المدائني، حدثنا مسلمة بن محارب بن سليم بن زياد عن أبيه، عن أبي
#100#
بكرة رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه.
خرجه أبو بكر الخطيب البغدادي في "تاريخه".
ومن طريقة خرجه أبو القاسم ابن عساكر في "تاريخه".
وهذا مع كونه موقوفا لا يثبت إسناده، و"المدائني" لين.
وقيل: إن جده "عبد المطلب" ختنه:
قال أبو عمر ابن عبد البر: حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن أحمد قراءة مني عليه، أن محمد بن عيسى حدثه، حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف، حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني، حدثنا الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن
#101#
عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وجعل له مأدبة، وسماه محمدا صلى الله عليه وسلم.
قال يحيى بن أيوب: طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد ممن لقيت إلا عن ابن أبي السري، والله أعلم.
حديث غريب موقوف كالذي قبله.
قال بعض العلماء: وهذا الحديث -يعني: حديث ابن عباس- على ما فيه أشبه بالصواب، حكاه عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي.
وجاء عن عبد الله بن حبيب، عن عبد الرحمن بن موسى، عن خلف بن ياسين، عن أبيه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الخميس؛ فقال: "أول يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى"، قال: بأبي أنت وأمي، فأخبرني عن من صام يوم الاثنين، قال: "ذلك يوم تعرض فيه الأعمال على الله تعالى أيضا، وهو يوم ولدت فيه، ويوم ختنت فيه، ويوم بعثت فيه" الحديث.
#102#
وهو حديث مع إعضاله منكر جدا.
و"خلف" وأبوه "ياسين بن معاذ الزيات" يرويان الموضوعات.
وقد صنف الصاحب العلامة كمال الدين أبو القاسم كمال الدين عمر بن أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي الحلبي بن العديم كتابا بين فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ختن على عادة العرب، ورد فيه على من جزم بأنه ولد مختونا.
قال فيه: ولو ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا فليس هذا من خصائصه، فإن كثيرا من الناس يولد غير محتاج إلى ختان.
ثم قال: وكانت العرب لا تعتد بصورة الختان من غير ختان، وترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به.
قال: وقد بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم من صمم العرب، وخصه
#103#
بصفات الكمال من الخُلق والخَلق والنسب، فكيف يجوز أن يكون ما ذكره من كونه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مما تميز به النبي صلى الله عليه وسلم وتخصص؟!
وقيل: إن الختان من الكلمات التي ابتلى الله عز وجل بها خليله صلى الله عليه وسلم، فأتمهن وأكملهن، وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم الختان من الفطرة، ومن المعلوم أن الابتلاء به مع الصبر عليه مما يضاعف ثواب المبتلى به وأجره، والأليق بحال النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسلب هذه الفضيلة، وأن يكرمه الله عز وجل بها كما أكرم خليله عليه السلام، فإن خصائصه صلى الله عليه وسلم أعظم من خصائص غيره من النبيين وأعلى، انتهى.
وجنح ابن العديم إلى تقوية أن جبريل عليه السلام ختنه صلى الله عليه وسلم.
والأقوال الثلاثة التي قدمناها ليس لشيء منها حديث ثابت يعضده، والله أعلم.
وتوقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في ذلك، قال المروذي: سئل أبو عبد الله: هل ولد النبي صلى الله عليه وسلم مختونا؟ قال: الله أعلم. ثم قال: لا أدري.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي قدمناه ما يدل على أن عبد المطلب عق عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، ولكن لا يثبت أيضا.
#104#
قال الخلال: أخبرني أبو المثنى العنبري أن أبا داود حدثهم: سمعت أحمد يحدث بحديث الهيثم بن جميل، عن عبد الله بن المثنى، عن ثمامة، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه.
قال أحمد: عبد الله بن المحرر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه": منكر، وضعف عبد الله بن محرر.
وذكر هذا أبو داود في "مسائله" عن أحمد بنحو ما رواه عنه هنا أبو المثنى.
قال عبد الرزاق في "جامعه": أخبرنا عبد الله بن محرر، عن قتادة، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة.
#105#
قال عبد الله: إنما تركوا ابن المحرر لهذا الحديث.
وقال الخلال أيضا: أخبرنا محمد بن عوف الحمصي، حدثنا إبراهيم بن جميل، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن رجل من آل أنس، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما جاءته النبوة.
الرجل الذي من آل أنس هو: "ثمامة بن عبد الله بن أنس" كما صرح به في رواية أبي المثنى العنبري المتقدمة.
وصرح به أيضا فيما قال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن مسعود، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعدما بعث نبيا.
والمشهور: أن عبد المطلب ذبح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل للناس مأدبة في اليوم السابع من ميلاده، كما تقدم.
#106#
&تسميته صلى الله عليه وسلم "محمدا"، وذكر ما روي في أسمائه الشريفة&
#107#
وحدث بكر بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم البخاري، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن النضر، حدثنا عيسى بن موسى غنجار، عن خارجة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ولد النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه عبد المطلب بكبش، وسماه محمدا، فقيل له: يا أبا الحارث، ما حملك على أن تسميه محمدا ولم تسمه باسم آبائه؟ فقال: أردت أن يحمده الله في السماء، ويحمده الناس في الأرض.
وفي الأثر الذي خرجه البيهقي من حديث معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي قال: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة، وذكر الأثر، وتقدم طرف منه، وفيه: فلما كان اليوم السابع ذبح عنه -يعني: عبد المطلب- ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب،
#108#
أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته؟ قال: سميته "محمدا"، قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟ قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض.
قيل: سماه جده عبد المطلب "محمدا" صلى الله عليه وسلم لرؤيا رآها، وهي: أنه رأى في منامه كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهره، لها طرف في السماء وطرف في الأرض وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، فإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون بها، فقصها، فعبرت له بمولود يكون من صلبه يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماء والأرض، فلذلك سماه "محمدا" صلى الله عليه وسلم، مع ما حدثته به أمه حين قيل لها: إنه قد حملت سيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه "محمدا".
ذكره أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، عن علي بن أبي طالب القيرواني العابر في كتابه "البستان".
وذكره أبو الربيع بن سالم.
وهذا الذي ذكروه رواه أبو نعيم أحمد بن عبد الله في كتابه "دلائل النبوة". فقال: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا محمد بن
#109#
أحمد بن أبي يحيى، حدثنا سعيد بن عثمان، حدثنا علي بن قتيبة الخراساني، حدثنا خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن أبيه، عن جده، سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال:
لبينا أنا نائم في الحجر، إذ رأيت رؤيا هالتني، ففزعت منها فزعا شديدا، فرأيت كاهنة قريش وعلي نمط خز يضرب منكبي، فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغير وأنا يومئذ سيد قومي، فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون، هل رابه من حدثان الدهر شيء؟ فقلت لها: بلى - وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته، ولم أفعل؛ لأني كبير قومي- فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا، ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظما ونورا وارتفاعا، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوما من قريش
#110#
يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها ولا أطيب منه ريحا، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها قبسا، وقلت: لمن النصيب؟ قالوا: لهؤلاء الذين تعلقوا بها وسبقوك إليها.
فانتبهت مذعورا فزعا، قال: فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك من يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس، ثم قالت لأبي طالب: لعلك أن تكون هذا المولود.
فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج، ويقول: كانت الشجرة -والله أعلم- أبا القاسم الأمين، فيقال له: ألا تؤمن؟ فيقول: السبة والعار.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني قيس مولى عبد الواحد، عن سالم، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: أمرت "آمنة" وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميه "أحمد".
وقد تقدم أنها حين حملت به صلى الله عليه وسلم أتيت فقيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، وفيه: فإذا وقع فسميه "محمدا".
#111#
قال بعضهم: ألهم الله تعالى قومه أن يسموه "محمدا" صلى الله عليه وسلم لما فيه من الصفات المحمودة ليطابق الاسم المسمى في الصورة والمعنى، وقد سماه الله تعالى بهذا الاسم الشريف في كتابه العزيز في قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، وقال عز وجل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، وقال عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار}.
وقد وافق كل عالم من مؤمني أهل الكتاب أن هذا الاسم سمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة صريحا، وقد ورد مجيئه في زبور داود كذلك.
$[مطلب في ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم وكنيته][1]$
وللنبي صلى الله عليه وسلم أسماء أخر قد تجاوزت المئين، وكثرة الأسماء من باب جلالة المسمى وعظمته وفضله، مع أن فضل نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام- لم يكن ليحيط بمعانيه اسم واحد، بل أسماء كثيرة لا تحصى، كما أن فضله لا يحصى، والآتي من أسمائه دال على ما يأتي من فضله، ملائما لجلالة قدره صلى الله عليه وسلم.
#112#
قال الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي في مصنفيه: "أحكام القرآن" و"شرح جامع أبي عيسى الترمذي": إن الله عز وجل حظظ النبي صلى الله عليه وسلم يحظظه، وعدد له أسماءه، والشيء إذا عظم قدره عظمت أسماؤه.
وقال بعض الصوفية: لله عز وجل ألف اسم، وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم، فأما أسماء الله تعالى فهذا العدد حقير فيها، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بسبعة أبحر مثله مددا.
وأما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر بصيغة الأسماء البينة فوعيت منها جملة، الحاضر منها سبعة وستون اسما، ثم ذكرها ابن العربي في الكتابين المذكورين.
وذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة وتسعين اسما.
#113#
وذكر ابن دحية أن أسماءه صلى الله عليه وسلم إذا فحص عن جملتها من الكتب المتقدمة والقرآن العظيم والحديث النبوي بلغت الثلاثمائة، ذكره في كتابه "المستوفى في أسماء المصطفى صلى الله عليه وسلم".
ونحن نبدأ -بعون الله وتوفيقه- ببعض أسماء نبينا صلى الله عليه وسلم الواردة في القرآن، ثم في الكتب المتقدمة، ثم في الأحاديث النبوية، ونتبعها بمعانيها مقتضبة - إن شاء [الله] تعالى.
ففي القرآن العظيم جملة من أسمائه الشريفة، فمنها:
"محمد"، "أحمد"، و"نور" و"سراج منير"، و"منذر"، و"نذير"، و"مبشر"، و"بشير"، و"شاهد"، و"شهيد" و"هاد"، و"رحمة للعالمين"، و"عزيز"، و"حريص على هداية الأمة"، و"رؤوف"، و"رحيم"، و"داع"، و"كريم"، و"مذكر"، و"مبين"، و"صاحب"، و"ولي"، و"مرسل"، و"رسول"، و"مصدق"، و"قدم الصدق"، و"عبد"، و"مطاع"، و"نعمة الله"، و"العروة الوثقى"، و"الصراط المستقيم"، و"النجم الثاقب"، و"النبي الأمي"، و"المزمل"، و"المدثر"، و "رسول الله"، و"عبد الله"، و"داعي الله"، و"أول المسلمين"، و"أول المؤمنين"، و"خاتم النبيين".
وأما أسماؤه صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة فكـ:
"المتوكل"، و"حرز الأميين"، و"عظيم"، و"مأذ"، و "أحمد"،
#114#
و"حمطايا"، و"خير البرية"، و"صاحب القضيب"، و"فارقليط"، و"روح الحق"، و"مقيم السنة"، و"إكليل محمود"، و"الجبار"، و"مشفح"، و"المنحمنا".
ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي ذكرناه في صفته في التوراة اسمه: "المتوكل" و"حرز الأميين".
وورد في بعض طرقه اسمه بـ "المختار" أيضا، رواه الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي الضحى، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: وذكر نعت النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب: "عبدي المتوكل"، و"المختار"، وذكر الحديث.
وجاء في أول سفر من التوراة عن إسماعيل: "وستلد عظيما لأمة عظيمة".
وورد أن اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة أيضا بـ: "مأدمأد" وقد حكيناه في أوائل
#115#
الكتاب عن الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة.
وجاء أن اسمه صلى الله عليه وسلم في التوراة أيضا: "أحمد" و"حمطايا" ويقال: "حمياطا".
ويروى: أن عيسى عليه السلام قال: إني أذهب ويأتيكم خير البرية، فآمنوا به فإني مؤمن به.
وفي ترجمة من الإنجيل: أن عيسى عليه السلام قال: إن أحببتموني فاحفظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى [الله] فيعطيكم بارقليط آخر يكون معكم الدهر كله.
فهذا تصريح بأن الله سبحانه سيبعث إليهم من يقوم مقامه وينوب في تبليغ رسالات الله منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا، فهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب النبوة الخاتمة، قاله ابن ظفر.
وقد قدمنا عن إنجيل يوحنا أن فيه: البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة.
#116#
وفي موضع آخر من الإنجيل: ابن البشر ذاهب، والبارقليط من بعده يحيي لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل.
وفي موضع آخر: إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء روح الحق ذاك يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي.
ويروى: أن داود عليه السلام قال: اللهم ابعث لنا محمدا مقيم السنة بعد الفترة.
وفي ترجمة من زبور داود عليه السلام ما ترجمه أهل الكتاب: وقال داود عليه السلام: اللهم ابعث جاعل السنة يجيء يعلم الناس أنه بشر.
وفيما ترجموه من مزامير داود: أن الله عز وجل أظهر من صهيون إكليلا محمودا.
قالوا: أراد بـ "الإكليل" محمدا صلى الله عليه وسلم، و"صهيون": مكة عند أهل الكتاب.
#117#
وقيل: "الإكليل" ضربه الله مثلا للرئاسة والإمامة، و"محمود" هو: محمد صلى الله عليه وسلم.
وفيها أيضا: أيضا: تقلد الجبار بسيفك، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك.
ووقع في بعض كتب الأنبياء تسميته صلى الله عليه وسلم بـ "المقدس" وفي ترجمة عن كتاب إشعيا: "مشقح" وهو بالعبرانية، وقيل: بالسريانية، ويقال له بها: المنحمنا.
جاء في الإنجيل الذي عن يوحنا: أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: من أبغضني فقد أبغض الرب، ولولا أني صنعت لهم صنائع لم يصنعها أحد لم يكن لهم ذنب، ولكن من الآن بطروا، فلا بد أن تتم الكلمة التي في الناموس، لأنهم أبغضوني مجافا، فلو جاء المنحمنا هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب روح القسط، فهو شهيد علي،
#118#
وأنتم أيضا؛ لأنكم قديما كنتم معي، هذا قولي لكم: لكي لا تشكوا إذا جاء.
وأما الأحاديث الواردة بتعداد أسمائه صلى الله عليه وسلم فكثيرة جدا منها:
ما قال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد في كتابه "أسباب الأسماء": حدثنا محمد بن علي النقاش: أن أبا بشر النعمان بن مدرك الرسعني، حدثهم قال: حدثنا أبو عثمان محمد بن إدريس الشافعي حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب والعاقب الذي لا نبي عبده".
وقد خرجه الشيخان في "صحيحهما" من حديث الزهري، ولفظ البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
#119#
تابعه ابن المقرئ عن سفيان.
وتابعه سفيان بن حسين بن حسن الواسطي، وشعيب بن أبي حمزة، وعقيل، ومالك بن أنس، ومحمد بن الوليد الزبيدي، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد عن الزهري، وألفاظهم متقاربة.
#120#
وهو عند محمد بن صالح بن دينار المدني التمار عن الزهري مطول، خرجه الحافظ أبو نعيم في "الدلائل"، من حديث أحمد بن صالح قال: وجدت في كتاب بالمدينة عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عمر بن عوف، عن محمد بن صالح التمار، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال أبو جهل ابن هشام -حين قدم مكة منصرفه عن حمزة-: يا معشر قريش، إن محمدا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا، فاحذروا أن تمروا طريقه وأن تقاربوه؛ فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق عليكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم، والله إن له لسحرة، ما رأيته قط ولا أحد من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة، وهو عدو استعان بعدو.
فقال له مطعم بن عدي: يا أبا الحكم، والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ولا أصدق موعودا من أخيكم الذي طردتم، فإذا فعلتم فكونوا أكف الناس عنه.
قال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشد ما كنتم عليه، فإن ابني قيلة
#121#
إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة، وإن أطعتموني ألجمتموهم خير كنانة، أو يخرجوا محمدا من بين أظهركم فيكون وحيدا مطرودا، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل ذلك في المذلة إلا سواء، وسأكفيكم حدهم. وقال:
سأمنح جانبا مني غليظا ... على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل ... إذا ما كان هزل بعد جد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والله، لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون، إني رحمة، بعثني الله عز وجل ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب".
ابنا قيلة هما: الأنصار، الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة البهلول بن مازن الزاد بن الأزد، وهو درأ بن الغوث بن النبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان.
و"قيلة" أمهما، نسبا إليها، وهي: قيلة بنت كاهل بن عذرة، من "قضاعة".
قال هشام ابن الكلبي النساب: يقولون: هي عذرة. انتهى.
وقيل: هي قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة بن عمرو بن عامر.
#122#
والحديث هو عند الزهري أيضا، عن عثمان بن أبي سليمان، عن جبير مختصر.
تابعه نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، رواه جعفر بن أبي وحشية وأبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، عن نافع نحوه.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال: أن نافع بن جبير بن مطعم قال: دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لي: أتحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان جبير بن مطعم يعدها؟ قلت: نعم، هي ست: محمد، وأحمد، وخاتم وحاشر، وعاقب، وماح.
فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وأما عاقب: فإنه أعقب الأنبياء.
وأما ماح: فإن الله عز وجل محى به سيئات من اتبعه.
سقط من هذا الإسناد "عتبة بن مسلم" ولا بد منه.
#123#
وخرجه البخاري في "تاريخه الأوسط" و"الصغير" فقال: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير: أنه دخل على عبد الملك بن مروان قال: تدري أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم رضي الله عنه يعدها؟ قال: نعم، هي ست: محمد رسول الله، وأحمد، وخاتم، وحاشر، والعاقب، وماح، فأما الحاشر: فبعث مع الساعة -يعني: بين يدي الساعة بين يدي عذاب شديد، والعاقب: عاقب الأنبياء، وماح: محى الله سيئات من اتبعه.
تابعه يعقوب بن سفيان الفسوي، فرواه في "تاريخه" عن أبي صالح، حدثنا الليث. فذكره.
ومن طريق يعقوب: خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" فقال: حدثنا أبو بكر بن أبي داود، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا آدم وأبو صالح وابن بكير قالوا: حدثنا الليث، حدثني خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير بن
#124#
مطعم: أنه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: تحصي أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كان جبير بن مطعم يعدها؟ فقال نافع: هي ست: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماح: فأما حاشر: فبعث مع الساعة نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
وأما العاقب: فإنه عقب الأنبياء. وأما ماح فإن الله عز وجل محى به السيئات؛ سيئات من اتبعه صلى الله عليه وسلم.
وحدث به ابن سعد في "الطبقات الكبرى" عن حجين بن المثنى أبي عمر صاحب اللؤلؤ قال: حدثنا ليث بن سعد، فذكره.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" فقال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب ابن أبي الليث قالا: أخبرنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن عتبة بن مسلم بنحوه.
وصححه الحاكم وجعل إسناده على شرط الشيخين.
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا محمد بن شعيب، حدثنا معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام النوبي قال: حدثت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "فضلت على من كان قبلي بست ولا فخر: بعثني الله عز وجل إلى الناس كافة .. .. " الحديث، وفي آخره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد، والحاشر، والماحي، والعاقب، والخاتم، لا نبي بعدي"، الحاشر: يسوق أمته
#125#
إلى المحشر، والماحي: يمحو الله به الخطايا لمن آمن به، والعاقب: العاقبة لله ولرسوله وللمؤمنين.
وخرج أبو نعيم الأصبهاني من حديث إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء، منها ما حفظنا ومنها ما لم نحفظ، قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الملحمة".
وخرجه أحمد في "مسنده" إلا أنه قال: "ونبي الملاحم" مكان "الملحمة".
تابعه الأعمش ومسعر وعبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن عمرو بن مرة.
وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني: حدثنا أبو بكر بن عياش،
#126#
عن عاصم، عن زر، عن حذيفة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا نبي الرحمة، وأنا نبي الملاحم، وأنا المقفى".
تابعه عبد الحميد بن صالح وأسود بن عامر، عن أبي بكر بن عياش نحوه.
خرجه أبو نعيم في "الدلائل" للحماني.
وحدث به أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" [عن] أحمد بن حميد القرشي ختن عبيد الله بن موسى، حدثنا أبو بكر بن عياش، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة، فسمعته يقول: "أنا محمد، وأحمد، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم، وأنا المقفى والحاشر".
#127#
تابعهما سليمان بن داود الشاذكوني وأحمد بن عمر الوكيعي، فيما خرجه أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" من طريقهما عن أبي بكر بن عياش.
وخرجه الإمام أحمد في "مسنده" عن أسود بن عامر.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث عبيد بن عمرو، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، فإذا كان يوم القيامة كان لواء الحمد معي، وكنت إمام المرسلين وصاحب شفاعتهم".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة رضي الله عنه قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة".
ورواه الحافظ أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري الدمشقي، حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، فذكره وقال: "نبي الرحمة" مكان "التوبة".
#128#
وخرج أبو نعيم في "الدلائل" من حديث صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر اليهود، والله لأنا الحاشر، وأنا العاقب، وأنا المقتفى آمنتم أو كذبتم" ثم انصرف وأنا معه.
وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن عمر بن أيان -يعني: ابن أخت حسين الجعفي-، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم التيمي، حدثنا سيف بن وهب، عن أبي الطفيل رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لي عند ربي عز وجل عشرة أسماء"، قال أبو الطفيل حفظت منها ثمانية: محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والعاقب، والحاشر، والماحي.
قال أبو يحيى: وزعم سيف أن أبا جعفر قال له: إن الاسمين الباقيين: "طه" و"يس".
تابعه أبو أحمد محمد بن عبدوس بن كامل، عن عبد الله بن عمر.
خرجه أبو نعيم في "الدلائل".
وحدث به أبو بكر الآجري في كتابه "الشريعة" فقال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا عبد الله بن
#129#
عمر الكوفي فذكره.
وأبو يحيى هو: إسماعيل التيمي، وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
قال أبو نعيم عقب روايته هذا الحديث: وأما تعداد من عد "طه" و"يس" معناه: يا إنسان- فلم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء.
قلت: قال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا ابن فضيل، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} يا رجل، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وكان يقوم الليل على رجليه، وهي لغة لعك، إن قلت لعكي: "يا رجل" لم [يلتفت]، وإن قلت "طه" التفت إليك.
قلت: ولم تجئ في حديث صحيح ولا أثر عن الصحابة تسميته صلى الله عليه وسلم بـ "طه" و"يس" والله أعلم، وإنما مجراها في القرآن كـ: (الم) و (الر) و(حم) ونحوها.
#130#
وشبهة بعض الناس في تسميتهم النبي صلى الله عليه وسلم بـ "طه" و"يس" حديث أبي الطفيل الذي ذكرناه آنفا، وما خرجه الحافظ أبو سعيد محمد بن علي النقاش بمعناه، وكلا الإسنادين واه لا تقوم به حجة.
وفي إسناد حديث أبي الطفيل: "إسماعيل التيمي": ضعفه الحفاظ كابن نمير وابن المديني وأبي حاتم الرازي ومسلم بن الحجاج والنسائي والدارقطني.
وأما "سيف بن وهب": فقال يحيى بن معين: "كان هالكا من الهالكين"؛ فبطل الاحتجاج بهذا الحديث.
وللنبي صلى الله عليه وسلم أسماء غير ما ذكرناه، وردت في أحاديث متفرقة وآثار وذكرها العلماء، منها تسميته صلى الله عليه وسلم بـ: "الأول" و"الآخر"، و"المصطفى"، و"المجتبي" و"المرتضى"، و"الآمر" و"الناهي"، و"المحلل"، و"المحرم"، و"المذكر"، و"الواضع"، و"الرافع"، و"المجيز"، و"المصطلح"، و"التقي"، و"الصادق"، و"المصدوق"، و"المهيمن"، و"الطيب"، و"المبارك"، و"الشكور"، و"المأمون"، و"الفاتح"، و"القاسم"، و"القثم"، و"الضحوك"، و"القتال"، و"المنصور"، و"ثاني اثنين"، و"نبي الحرمين"، و"راكب البراق"، و"راكب البعير"، وصاحب التاج والمعراج والهراوة والحجة والسلطان والبرهان، وصاحب الشفاعة والمقام المحمود والحوض والكوثر والوسيلة، و"الشفيع"، و"المشفع"، و "العلي"، و"خليل الرحمن"، و"إمام المتقين"، و"قائد الغر المحجلين"، و"حبيب رب العالمين" صلى الله عليه وسلم.
#131#
$[ما روي في كنية النبي صلى الله عليه وسلم]$
وكنيته صلى الله عليه وسلم: "أبو القاسم".
قال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبو نعيم، حدثنا داود بن قيس، حدثني موسى بن يسار: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أبو القاسم".
ورواه محمد بن عجلان بزيادة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجمعوا اسمي وكنيتي، أنا أبو القاسم، الله يعطي وأنا أقسم".
وصح من حديث أبي محمد سليمان بن مهران الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: ولد لرجل منا غلام فسماه: القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ولد لي غلام فسميته القاسم، فقالت الأنصار: لا نكنيك أبا القاسم ولا ننعمك عينا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أحسنت الأنصار، تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي".
خرجاه في الصحيحين من طرق إلى الأعمش.
#132#
تابعه منصور وقتادة وحصين بن عبد الرحمن.
وقال أبو عبد الرحمن زكريا بن يحيى بن إياس بن سلمة بن حنظلة الحافظ خياط السنة: حدثنا سعيد بن كثير بن يحيى المدني، حدثنا إسحاق بن إبراهيم مولى مزينة، عن صفوان بن سليم، عن أبي الزبير: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمى رجل من الأنصار ابنه القاسم، وتكنى أبا القاسم، فأبت الأنصار أن تكنيه أبا القاسم، فانطلق الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أحسنت الأنصار، فسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي".
ورواه مختصرا سفيان الثوري، وهشام الدستوائي، والحسين بن واقد، وغيرهم، عن أبي الزبير بمعناه.
وله شاهد من حديث أبي هريرة، وابن عمر، وغيرهما.
وثبت من حديث حميد عن أنس رضي الله عنه قال: دعا رجل بالبقيع قال: "يا أبا القاسم"، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أعنك، فقال: "تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي".
#133#
خرجاه في "الصحيحين": البخاري من حديث شعبة، وزهير، ومسلم من حديث مروان بن معاوية، كلهم عن حميد به.
وقال بجير بن أبي بجير: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن يعلى، عن أبيه، عن بكر بن وائل عن إسماعيل بن مسلم، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دعا رجل رجلا فقال: يا أبا القاسم. فارتاع له النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الرجل: إني لم أعنك عنيت غيرك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي".
وجاء: أنه صلى الله عليه وسلم كني بولده إبراهيم عليه السلام.
حدث به محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" فقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولد إبراهيم عليه السلام جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
وحدث به قاضي مصر أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة، عن عقبة الحضرمي، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولد للنبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم عليه السلام، كأنه وقع في نفسه شيء، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
#134#
ورواه أبو الحسن عمرو بن خالد الحراني -سكن مصر-، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب وعقيل، عن الزهري.
ورواه أحمد بن نباتة بن عمر الصدفي، حدثنا عثمان بن صالح، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ولدت أم إبراهيم إبراهيم عليه السلام وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، فجاءه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فطابت نفس النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى صخر بن عبد الله ، عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهبط عليه جبريل عليه السلام فقال: يا أبا إبراهيم، الله يقرئك السلام.
#135#
$[تفسير أسمائه صلى الله عليه وسلم]$
وأسماء النبي صلى الله عليه وسلم: [قسم] خاص به لا يشركه فيه غيره من الرسل كـ: "محمد"، و"أحمد" و"الحاشر" و"العاقب" و"المقفى" و"نبي الملاحم" و"رحمة للعالمين" و"خاتم النبيين" وأشباه ذلك.
وقسم يشاركه غيره من الرسل في معناه لكن لنبينا صلى الله عليه وسلم منه درجة الكمال.
وأسماؤه كلها مشتقة من صفاته الحميدة التي منحه الله تعالى إياها، وأوجب له بها المدح والكمال، وهي متعلقة به تعلق الأرواح بالأشباح.
قال بعضهم: لما كانت الأسماء قوالب للمعاني ودلالة عليها اقتضت الحكمة أن يكون بينها وبينها ارتباط وتناسب، وأن لا تكون معها بمنزلة الأجنبي المحض فإن حكمة الحكيم سبحانه وتعالى تأبى ذلك، والواقع يشهد بخلافه، بل للأسماء تأثير في المسميات، وللمسميات تأثير عن أسمائها في الحسن والقبح والخفة والثقل واللطافة والكثافة كما قيل:
وقل إن أبصرت عيناك ذا لقب ... إلا ومعناه إن فكرت في لقبه
#136#
وتأمل كيف اشتمل للنبي صلى الله عليه وسلم اسمان مطابقان لمعناه وهما: "أحمد" و"محمد"، فهو لكثرة ما فيه من الصفات المحمودة "محمد"، ولشرفها وفضلها على صفات غيره "أحمد"، فارتبط الاسم بالمسمى ارتباط الروح بالجسد.
$[مطلب في تفسير أسمائه صلى الله عليه وسلم][2]$
أما "محمد": فهو أشهر أسمائه، وذكره الله عز وجل في مواضع من كتابه وصرح به في التوراة وغيرها من الكتب المنزلة كما تقدم وقد عرف به أولا بين أهله وقومه أكثر مما عرف بـ "أحمد".
وهذان الاسمان مشتقان من الحمد، فمحمد بمعنى: "محمود"، وضعف للمبالغة، أي: يحمد حمدا بعد حمد أكثر ما يحمد غيره من البشر؛ لأنه يحمده أهل السموات وأهل الأرض وأهل الدنيا وأهل الآخرة لما فيه من الصفات الحميدة والأخلاق المحمودة والخصال الشريفة التي لا يحصيها إلا مانحها سبحانه وتعالى.
قال سفيان بن عيينة: سمعت علي بن زيد بن جدعان يقول: تذاكروا أي بيت من الشعر أحسن؟ فقال رجل: ما سمعنا بيتا أحسن من قول أبي طالب:
#137#
وشق له من إسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
خرجه الإمام أحمد في "العلل" رواية ابنه عبد الله عنه عن سفيان بنحوه.
(ورواه روح بن الفرج عن حامد بن يحيى عن سفيان) بنحوه.
وهو في "دلائل النبوة" للبيهقي من طريق محمد بن ميمون المكي، حدثنا سفيان بن عيينة، فذكره.
وهذا البيت جعله جماعة لحسان بن ثابت رضي الله عنه.
#138#
وقال محمد بن إسحاق فيما رواه عنه إبراهيم بن سعد: وقال بجير بن زهير يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أتانا نبي بعد يأس وفترة ... إلى الله والأوثان في الأرض تعبد
فشق له من اسمه لجلاله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وأشركه في ذكره لجلاله ... ليلقى نعيما في الجنان فيخلد
وذكر أبياتا أخر.
وأما "أحمد": فهو على وزان "أفعل" التفضيل، وهل هو بمعنى فاعل أو مفعول؟ مختلف فيه على قولين؛ فمن قال بمعنى "مفعول" جعله من مادة ما أشغله بالشيء، فهو مشغول، فيكون كـ "محمد" في المعنى، لكن معنى "محمد" هو: كثير الخصال التي يحمد عليها، و"أحمد" هو: الذي يحمد أفضل مما يحمد غيره، وهو صلى الله عليه وسلم أولى الناس بأن يحمد.
#139#
وقالت طائفة: هو بمعنى فاعل، أي : حمده الله عز وجل أكثر من حمده غيره له، فمعناه حينئذ: أحمد الحامدين لربه عز وجل.
وقال أبو القاسم السهيلي: وكذلك هو في المعنى؛ لأنه يفتح عليه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود محامد لم تفتح على أحد قبله، فيحمد ربه عز وجل بها، وكذلك يعقد له لواء الحمد.
وأما "محمد" فمنقول من وصفه أيضا، وهو في معنى "محمود"، ولكن فيه معنى المبالغة والتكرار، فـ "المحمد" هو الذي حمد مرة بعد أخرى، كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة، وكذلك الممدح ونحو ذلك، فاسم "محمد" صلى الله عليه وسلم مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه به قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته، إذ كان اسمه صادقا عليه، فهو صلى الله عليه وسلم محمود في الدنيا بما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة، فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ.
ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد حمد ربه، فنبأه وشرفه؛ فلذلك يقدم اسم "أحمد" على الاسم الذي هو "محمد"، فذكره عيسى عليه السلام حين قال له ربه عز وجل: "تلك أمة أحمد" فقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد، فبأحمد ذكر قبل أن يذكر بـ "محمد" صلى الله عليه وسلم؛ لأن حمده لربه عز وجل كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل.
وكذلك في الشفاعة يحمد ربه [بالمحامد] التي يفتحها عليه،
#140#
فيكون أحمد الناس لربه، ثم يشفع فيحمد على شفاعته.
فانظر؛ كيف ترتب هذا الاسم قبل الاسم الآخر في الذكر والوجود، وفي الدنيا والآخرة؛ تلح لك الحكمة الإلهية في تخصيصه بهذين الاسمين.
فانظر، كيف أنزلت عليه سورة (الحمد) وخص بها دون سائر الأنبياء، وخص بلواء الحمد، وخص بالمقام المحمود.
فانظر كيف شرع لنا سنة وقرآنا أن نقول عند اختتام الأفعال وانقضاء الأمور: "الحمد لله رب العالمين"، فقال الله سبحانه وتعالى: {وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} وقال تعالى أيضا: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} تنبيها لنا على أن الحمد مشروع لنا عند انقضاء الأمور، وسن صلى الله عليه وسلم الحمد بعد الأكل والشرب، وقال صلى الله عليه وسلم عند انقضاء السفر: "آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون".
ثم انظر، لكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومؤذنا بانقضاء الرسالة وارتفاع الوحي ونذيرا بقرب الساعة وتمام الدنيا، مع أن الحمد كما قدمنا مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده، تجد معاني اسميه جميعا، وما خص به من الحمد والمحامد مشاكلا لمعناه مطابقا لصفته.
وفي ذلك برهان عظيم وعلم واضح على نبوته، وتخصيص الله عز وجل له
#141#
بكرامته، وأنه قدم له هذه المقدمات قبل وجوده تكرمة له وتصديقا لأمره صلى الله عليه وسلم.
وما تخيله السهيلي رحمه الله في سبق اسمه صلى الله عليه وسلم "أحمد" لاسمه "محمد" لا يسلم له، فقد قدمنا أن اسمه صلى الله عليه وسلم "محمد" مذكور في التوراة وغيرها من الكتب المتقدمة فيما ذكرنا من الأحاديث والآثار، والله أعلم.
#142#
$[من سمي "محمدا" في الجاهلية]$
وحدث أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، عن أحمد بن يعقوب بن المهرجان وعبد الرحمن بن الحارث الغنوي قالا: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا إسحاق بن زياد - إمام مسجد الأبلة، حدثنا هانئ بن يحيى، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، عن محمد بن جحادة، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنها قال: ما سمي أحد "محمدا" قبل "محمد" صلى الله عليه وسلم.
ويؤيد هذا حديث ابن حاطب: أن أمه أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي باسمك.
ذكره أبو موسى المديني.
ولعلها أرادت أول من سمي باسمك في الإسلام، لكن ابن عمه محمد بن حطاب أسن من ابن حاطب، فيما ذكره ابن عبد البر وغيره، فعله أول من سمي محمدا في الإسلام.
وأما في الجاهلية: فقال أبو محمد بن قتيبة: ومن أعلام نبوة نبينا
#143#
صلى الله عليه وسلم: أنه لم يسم أحد باسمه قبله صيانة من الله تعالى لهذا الاسم، كما فعل بـ "يحيى بن زكريا" إذ لم يجعل له من قبل سميا، وذلك أنه سماه في الكتب المتقدمة وبشرت به الأنبياء، فلو جعل الاسم مشتركا فيه ساغت الدعاوى ووقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمانه وبشر أهل الكتاب بقربه حضر أربعة أنفس عند راهب وأخبرهم باسمه وقرب زمنه، فسموا أولادهم بذلك، لا نعرف غيرهم.
وزاد القاضي عياض هذا المعنى وضوحا فقال رحمه الله في كتابه "الشفا" في اسمي "محمد" و"أحمد": في هذين الاسمين من عجائب خصائصه وبدائع آياته صلى الله عليه وسلم فن آخر هو: أن الله -جل اسمه- حمى أن يسمى بهما أحد قبل زمانه.
أما "أحمد" الذي أتى في الكتب وبشرت به الأنبياء فمنع الله تعالى بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا يدعى به مدعو قبله؛ حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك.
#144#
وكذلك "محمد" أيضا لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن شاع قبيل وجوده صلى الله عليه وسلم وميلاده أن نبيا يبعث اسمه "محمد"، فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، وهم:
"محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي"، و"محمد بن مسلمة الأنصاري"، و"محمد بن براء البكري"، و"محمد بن سفيان بن مجاشع"، و"محمد بن حمران الجعفي"، و"محمد بن خزاعي السلمي".
#145#
لا سابع لهم.
ويقال: أول من تسمى [بـ "محمد"] "محمد بن سفيان"، واليمن تقول: بل "محمد بن اليحمد" من الأزد.
ثم حمى الله تعالى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها أحد له، أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره، حتى تحققت السمتان له صلى الله عليه وسلم ولم ينازع فيهما.
وهذا الخبر الذي أشار إليه القاضي عياض خرجه الحافظ أبو بكر
#146#
محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "هواتف الجنان" فقال: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي، حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية، أخبرني أبي عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن جده أبي سوية، عن أبيه خليفة -يعني: ابن عبدة المنقري- قال: سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواءة بن جشم بن سعد فقلت: كيف سماك أبوك "محمدا"؟ فقال: سألت أبي عما سألتني عنه فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم، أنا منهم وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جندب بن العنبر، ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص بن مازن، ونحن نريد ابن جفنة ملك "غسان"، فلما شارفنا الشام نزلنا إلى غدير عليه شجرات، فتحدثنا، فسمع كلامنا راهب، فأشرف علينا فقال: إن هذه لغة ما هي بلغة أهل هذه البلاد؟
قلنا: نعم، نحن قوم من "مضر".
فقال: من أي المضرين؟
قلنا: من "خندف".
قال: أما إنه يبعث فيكم وشيكا نبي خاتم النبيين، فسارعوا إليه وخذوا بحظكم منه ترشدوا.
#147#
فقلنا له: ما اسمه؟
قال: اسمه "محمد".
قال: فرجعنا من عند ابن جفنة، فولد لكل واحد منا ابن فسماه "محمدا".
وحدث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتابه "الأعلام" فقال: حدثنا يزيد بن عمرو، حدثنا العلاء بن الفضل، فذكره بنحوه.
وحدث به أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتاب "المجالسة" عن عبد الله بن مسلم بن قتيبة به.
وحدث به أبو نعيم عن سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، وعن أحمد بن بندار، حدثنا أبو العباس الهروي، حدثنا عمرو بن علي، وعن أبي أحمد محمد بن أحمد الجرجاني، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة إملاء، حدثنا أبو الفضل صالح بن مسمار المروزي أملاه علينا واللفظ لروايته، قالوا: حدثنا العلاء بن الفضل بن أبي سوية البصري فذكره بنحوه.
خرجه في كتابيه: "معرفة الصحابة" و"دلائل النبوة".
#148#
وشيخه سليمان بن أحمد هو: الطبراني، وقد خرج الحديث في معجمه "الكبير" فقال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري.
وحدثنا أبو أمية سلم بن عصام الثقفي الأصبهاني، حدثنا العباس بن الفرج الرياشي، حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية المنقري، حدثني أبي: الفضل بن عبد الملك، عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية، عن أبي سوية، عن أبيه خليفة بن عبدة بن جرول: سألت محمد بن عدي بن ربيعة بن سواءة بن جشم: كيف سماك أبوك "محمدا" في الجاهلية؟ قال: أما إني قد سألت أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجت رابع أربعة من بني تميم، أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع بن دارم، وأسامة بن مالك بن جندب بن العنبر ويزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص بن مازن، نريد ابن جفنة ملك "غسان" بالشام، فلما قدمنا الشام نزلنا على غدير عليها شجرات لديراني -يعني: صاحب صومعة-، فقلنا: لو اغتسلنا من هذا الماء وادهنا ولبسنا ثيابا ثم أتينا صاحبنا؟
فأشرف علينا الديراني فقال: إن هذه اللغة لغة ما هي بلغة أهل البلد؟
فقلنا: نعم، نحن قوم من "مضر".
#149#
قال: من أي "مضر"؟
قلنا: من "خندف".
قال: أما إنه سيبعث منكم وشيكا نبي، فسارعوا وخذوا بحظكم منه ترشدوا؛ فإنه خاتم النبيين.
فقلنا: ما اسمه؟
قال: محمد.
فلما انصرفنا من عند ابن جفنة ولد لكل واحد منا غلام فسماه "محمدا".
قال العلاء: قال قيس بن عاصم للنبي صلى الله عليه وسلم: تدري من أول من أعلم بك من العرب قبل أن تبعث؟ قال: "لا". قال: بنو تميم. وقص عليه هذه القصة.
وقد ورد أن سفيان بن مجاشع سمى ولده محمدا لقصة غير هذه، وهي ما يحكى أن سفيان بن مجاشع بن دارم احتمل ديات دماء كانت بين قومه، فخرج يستعين فيها، فدفع إلى حي من تميم، فإذا هم مجتمعون إلى كاهنة لهم، فأتاهم فحياهم، ثم جلس إليهم، فسمع الكاهنة تقول: "العزيز من والاه، والذليل من خالاه، والموفور من والاه، والموتور من عالاه".
#150#
فقال سفيان: من تذكرين لله أبوك؟
قالت: "صاحب حل وحرم، وهدى وعلم، وبطش وحلم، وحرب وسلم، رأس رؤوس، ورائض شموس، وماحي بوس، وماهد وعوس، وناعش متعوس".
قال سفيان: من هو لله أبوك؟
قالت: نبي مؤيد، وقد أتى حين يوجد، ودنا أوان يولد، يبعث إلى الأحمر والأسود، بكتاب لا يفند، اسمه محمد.
قال سفيان: لله أبوك، أعربي هو أم أعجمي؟
قالت: أما والسماء ذات العنان، والشجر ذات الأفنان، إنه لمن معد بن عدنان، فقدك يا سفيان.
فأمسك سفيان عن سؤالها، ثم إن سفيان ولد له غلام فسماه "محمدا"؛ لما رجاه من أن يكون النبي الموصوف.
وذكر ابن الكلبي في "الجمهرة": أن سفيان بن مجاشع أول فارس
#151#
ورد الكلاب.
قلت: ومن ولد ابنه: عياض بن حمار بن محمد بن سفيان بن مجاشع، أحد الصحابة رضي الله عنهم، وهو جد أعلى للفرزدق الشاعر.
وقول عياض رحمه الله المتقدم:
"لا سابع لهم" قد ورد جماعة غير الستة سماهم آباؤهم محمدا؛ رجاء أن يكون المسمى هو النبي الموصوف، وهم الثلاثة المذكورون في حديث خليفة بن عبدة المنقري السابق، وهم:
محمد بن عثمان بن ربيعة، ويقال محمد بن عدي بن ربيعة، وجعله بعضهم اثنين، ففرق بينهما، وهما واحد، والله أعلم.
ومحمد بن أسامة بن مالك بن خندف بن العنبر.
ومحمد بن يزيد بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص، وقيل في نسبه غير ذلك.
#152#
وجاء غير هذه الثلاثة أيضا ممن سمي بذلك في الجاهلية:
محمد بن خولي الهمداني، ذكره أبو بكر بن دريد.
وفيما ذكره أبو موسى المديني في كتاب "المستفاد بالنظر والكتابة من أسماء الصحابة" عن بعض الحفاظ أنه ذكر بعض رواة الأخبار ممن تسمى بذلك في الجاهلية.
محمد بن عتوارة بن عامر الكناني، ومحمد بن حرماز بن مالك التميمي.
قلت: "وابن عتوارة" هذا هو: محمد بن البراء البكري الذي ذكره القاضي عياض لأنه محمد بن البراء، وقيل: ابن بر بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
وذكر "محمد بن سلمة الأنصاري" معهم فيه نظر؛ لأنه ولد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمان عشرة سنة، وقيل: بعد المولد الشريف بعشرين سنة، وقيل: بإحدى وعشرين سنة، وقيل: بأربع وعشرين، على الخلاف في وفاته، مع أن الجزم بأن عمره لما توفي سبع وسبعون سنة، والله أعلم.
و"محمد بن أحيحة" المسمى معهم هو أخو عبد المطلب بن هاشم لأمه "سلمى" فيما ذكر، والله أعلم.
وقال عبدان بن محمد المروزي: بلغني أن أول من سمي محمدا: "محمد بن أحيحة".
#153#
$[سياق ما ورد في شرح بقية أسماء النبي صلى الله عليه وسلم]$
| وأما اسمه "النور":|
يقال: نار الشيء ينار، أو: أنار واستنار: أضاء، وسمي صلى الله عليه وسلم نورا؛ قيل: لوضوح أمره وبيان نبوته، قال الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور} هو: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: النور هو الذي يبين الأشياء.
| وأما "سراج منير":|
أي: تستنير به قلوب المؤمنين وتستضيء بهديه أفئدة العارفين، فقد كان الخلق في ظلمات الكفر والجهل والضلال فنور الله الأفئدة بالإيمان والعلم والهدى الذي أتى به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
#154#
| وأما "المنذر" و "النذير":|
فالنذير بمعنى المنذر، والنذير أيضا، والنذر: الإنذار، وهو: الإبلاغ والإعلام بالشيء الذي يحذر منه، ولا يكون إلا في التخويف، وتسميته صلى الله عليه وسلم "بالمنذر" و"النذير" أي: المخبر عما يخاف من سوء عاقبته ليحذر ويكف عنه ويعمل بما يدفعه ويباعد عنه، قال الله تعالى: {وجاءكم النذير} يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، في أحد الأقوال.
| وأما "المبشر" و "البشير":|
فهو من قولهم: "بشرك" ويقال بالكسر "بشارة" مثلثة الباء و"بشرى": إذا أخبرك بالخير، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر المؤمنين بما لهم عند الله من الأجور والخيرات والدرجات العاليات.
| وأما "شاهد" و "شهيد": |
فـ "الشاهد": العالم الذي يبين ما علمه، وقيل: الشاهد للمعجزة
#155#
بالصدق. الذي يبين ما علمه.
و"الشهيد" على الأمة بظهور الحق، وقيل: الشهيد: الأمين في شهادته.
وقيل: الشاهد لأمته في التوحيد.
والشهيد: حجة الله على الناس.
وقيل: الشاهد على نفسه بإبلاغه الرسالة، وهي من خصائصه.
والشهيد لأمته بالصدق والتزكية حين يشهدون للأنبياء بإبلاغ الرسالة إلى أممهم.
قال ابن المبارك في كتابه "الزهد": أخبرنا رشدين بن سعد، حدثني ابن أنعم، عن ابن أبي جبلة -يسنده- قال: أول من يدعى يوم القيامة: إسرافيل؛ فيقول الله عز وجل هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رب، قد بلغته جبريل. فيدعى جبريل فيقال: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول: نعم. فيخلى عن إسرافيل، فيقول لجبريل: ما صنعت في عهدي؟ فيقول: يا رب؛ بلغت الرسل. فتدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون: نعم. فيخلى عن جبريل، فيقال للرسل: هل بلغتم عهدي؟ فيقولون: نعم، بلغناه الأمم. فيدعى بالأمم فيقال لها: هل بلغتكم الرسل عهدي؟ فمكذب ومصدق، فتقول الرسل: لنا عليهم شهداء. فيقول: من؟ فيقولون أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال لهم: أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم؟ فيقولون: نعم،
#156#
فتقول الأمم: يا ربنا، كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول الله -تبارك وتعالى-: كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم؟ فيقولون: يا ربنا، أرسلت إلينا رسولا، وأنزلت علينا كتابا، وقصصت علينا فيه: أن قد بلغوا. فذلك قول الله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
حدث به الحسين بن الحسن المروزي، عن ابن المبارك، وقال: وأراه قال: الوسط: العدل.
| وأما "هاد":|
فهو من الهدى الذي هو: الرشاد والدلالة، وهو يذكر ويؤنث، ومن معاني الهدى: البيان والطريق والطاعة والورع، وسمي النبي صلى الله عليه وسلم هاديا بمعنى: توفيق الله لمن أراد من عباده وبين الله على لسانه النجدين، وهو أيضا بمعنى، الدلالة والدعاء إلى الله عز وجل.
| وأما "رحمة العالمين":|
رحم الله به أمته من العذاب في الدنيا وفي الآخرة بتعجيل الحساب وتضعيف الثواب، وقيل: معنى "رحمة للعالمين": رحمة للمؤمنين
#157#
بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللكافرين بتأخير العذاب حتى عاشوا في ظله، ومن قتل منهم على يديه أو يدي أمته كان أيضا من الرحمة لأنه عجل بهم إلى النار، واستراحوا من الحياة الطويلة التي لا يزدادون بها إلا شدة في العذاب، وقيل غير ذلك.
قال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا عيسى بن عبد الله النعماني، حدثنا المسعودي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن بالله ورسله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ولا رسوله عوفي من تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والخسف والقذف.
"سعيد بن أبي سعيد" هذا هو: أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان.
قال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو حفص عمر بن أيوب السقطي، حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا مسكين بن بكير، عن المسعودي، عن سعيد بن المرزبان وهو: -أبو سعد البقال- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن بالله ورسوله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ولا رسوله عوفي مما كان يصيب الأمم الماضية من العذاب في عاجل الدنيا.
#158#
وهذا عند المسعودي أيضا، عن سلمة بن كهيل فيما رواه داود بن رشيد، حدثنا إبراهيم بن بكر أبو إسحاق الشيباني، حدثني المسعودي، عن سلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} قال: من آمن به وصدقه تمت له رحمته في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن به ولم يصدقه لم يصبه ما أصاب الأمم من الخسف والقذف والمسخ.
وقال بعضهم: "زين الله محمدا صلى الله عليه وسلم بزينة الرحمة، فكان كونه رحمة وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق".
فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه، والواصل فيهما إلى كل محبوب.
| وأما "عزيز":|
فمعناه: الذي لا نظير له من البشر، أو القوي الذي لا يغلب؛ لأن الله تعالى أظهره على عدوه وأعزه بالنصر العزيز والفتح المبين.
وقيل: العزيز على ربه عز وجل لعلو قدره عنده ورفعة رتبته لديه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله، ولا فخر".
وقيل: "العزيز": المعز لمن اتبعه في الدنيا والآخرة.
#159#
| وأما "حريص":|
من حرص عليه يحرص بالكسر: إذا اجتهد على هداه وصلاحه، وقوله تعالى: {حريص عليكم} أي: على هداية المواجهين بالخطاب ورشدهم وإسلامهم ونفعهم وإنقاذهم من مهاوي الهلكات.
| وأما "رؤوف رحيم":|
فالرأفة أرق من الرحمة، رأف الله تعالى بك، مثلث رأفا، ويحرك، ورآفة ورآفة، فهو: راؤف ورؤف ورئف ورأف، وسمي نبينا صلى الله عليه وسلم رؤوفا رحيما بما أعطاه الله تعالى من الشفقة على الأمة والعطف على الناس والرحمة للخلق والرأفة بالعباد.
| وأما "داع":|
فهو الذي دعا الخلق إلى عبادة الحق، قال ابن سيده في "المحكم" في قوله تعالى: {وداعيا إلى الله} قال: معناه: داعيا إلى توحيد الله وما يقرب منه.
#160#
|وأما "كريم":|
فيقال: كرم بالضم كرما محرك ضد "لؤم"، وأيضا: فضل في أخلاقه وأفعاله، وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالاسم، فإنه يستحقه دون غيره من العالم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أكرم الأولين والآخرين، ولا فخر"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر"، أي: أعزهم على الله تعالى، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ذكر بعض أخلاقه صلى الله عليه وسلم في الكرم، وأخلاقه في الجود.
| وأما "المذكر":|
فهو بالله تعالى وبتعظيمه وبالقيام في طاعته وعبوديته، ومذكر العباد بالمعاد.
قال ابن العربي: ولقد اعترف الخلق لله -سبحانه- بأنه الرب، ثم ذهلوا، فذكرهم الله بأنبيائه، وختم الذكرى بأفضل أصفيائه صلى الله عليه وسلم وقال له: {فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمصيطر} ثم مكنه من الصيطرة وآتاه السلطنة ومكن له دينه في الأرض.
قلت: "الصيطرة": التسليط، و"المسيطر": المسلط على الشيء،
#161#
والمتعهد له، والرقيب، والحافظ.
| وأما "مبين":|
فهو من "أبان" أي: أفصح، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المبين الذي أبان عن ربه عز وجل الوحي وما بعثه به، وشرح الدين، وشرح الأحكام، وأبان الآيات، وأظهر المعجزات.
وقيل: "المبين" أي: البين أمره ورسالته وصدقه.
| وأما "الصاحب":|
فيقال: صحبته بالكسر صحبة بالضم وصحابة بالفتح وتكسر: عاشره.
وسمي النبي صلى الله عليه وسلم صاحبا بما كان من أتباعه من حسن العشرة، وكمال المروءة وعظيم الوفاء والإحسان والإكرام.
| وأما "ولي":|
فهو: الناصر لدين الله، وهو ولي كل مؤمن.
#162#
| وأما "مرسل":|
بالفتح: فهو الذي ابتعثه الله تعالى برسالته إلى الخلق كافة، ويقال له: "المرسل" بكسر العين لأنه لا يعم بالتبليغ مشافهة، فلم يكن بد من الرسل يقولون عنه ويبلغون كما بلغ عن ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: "تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم".
قال ابن العربي في "شرح الترمذي".
وقال في "أحكام القرآن" في قوله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} في هذا مسألة بديعة وهي: أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن وتعليم ما علمه من الدين، فكان إذا قرأه على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وعلى من سمعه أن يبلغه إلى غيره، وليس يلزم صلى الله عليه وسلم أن يذكره لجميع الصحابة ولا كان عليه إذ أعلم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم: نزل كذا، ولا: كان كذا.
| وأما "الرسول":|
فهو الذي أوحي إليه وأمر بالتبليغ، وقيل: الذي تتابع خبره عن الله عز وجل، وهو بمعنى "المرسل" بالفتح، والرسول أخص من النبي؛ لأن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.
#163#
| وأما "النبي":|
فمعناه: الذي أطلعه الله تعالى على غيبه وأعلمه أنه نبيه، فيكون "فعيلا" بمعنى "مفعول"، أو يكون مخبرا عما بعثه الله به ومنبئا بما أطلعه الله عليه، ويكون بمعنى "فاعل"، والوصفان مؤتلفان في حقه صلى الله عليه وسلم، وسمي رسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم- "أنبياء" لأنهم الطرق إلى الله عز وجل.
ومن الناس من يجعل "النبي" من "النباوة"، فيترك همزه، يريد: أنه شرف على الخلائق. قاله أبو عبيد الهروي.
فمن ترك همزه كان عنده من "النبوة".
و"النباوة" وهو: ما ارتفع من الأرض، أو على القاعدة في الهمز وتركه.
وفي حديث الأعرابي الذي أخبرنا به الحافظ أبو محمد عبد الله بن أبي إسحاق السنجاري، أخبرنا أحمد بن علي بن عمرون.
وأخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عثمان الحنبلي، أخبرنا عبد الكريم بن عبد الكريم بن الصفي.
وأخبرنا أبو محمد سلمان بن عبد الحميد السلامي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن عثمان.
وأخبرنا التقي عبد الرحمن بن أحمد بن عثمان السلعوس، أخبرنا أبي في آخرين.
قالوا: أخبرنا أبو حفص عمر بن عبد المنعم الطائي. ح.
#164#
وقرأت على المعمرة اليقظة زينب بنت محمد بن عثمان بن عبد الرحمن السريجية قلت لها أخبرك أبو حفص عمر بن عبد المنعم وأبو الحسن علي بن أحمد الحنبلي إذنا عاما، قالا: أخبرنا أبو الفضل عبد الصمد بن محمد الأنصاري قراءة عليه، قال الأول: وأنا حاضر، وقال الثاني: وأنا أسمع، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن مسلم السلمي، أخبرنا أبو نصر الحسين بن محمد، أخبرنا الإمام أبو الحسين محمد بن أحمد الغساني، أخبرني أبو نصر إسحاق بن إبراهيم بن معروف السبتي بمكة، حدثنا أبو خالد يزيد بن خالد العقيلي، حدثنا عبد الرحيم بن حماد الثقفي، حدثنا الأعمش، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيء الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لست بنبيء الله، ولكني نبي الله".
خرجه الحاكم في "مستدركه".
#165#
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن رزقويه، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح الحافظ، حدثنا أحمد بن الخضر، حدثنا محمد بن عبد الكريم، حدثنا الهيثم، حدثنا حمزة الزيات أبو عمارة، عن حمران الشيباني أبي أعين، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدئلي: قال رجل: "يا نبيء الله" فهمز، فقال صلى الله عليه وسلم: "لست بنبيء الله، ولكني نبي الله".
خرجه هكذا مرسلا: أبو بكر الخطيب في كتابه "من وافقت كنيته اسم أبيه" في ترجمة حمران بن أعين أبي أعين، كوفي من بني شيبان: روى عنه سفيان الثوري وحمزة الزيات القارئ وغيرهما.
وجاء في لفظ: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنبز باسمي، فإنما أنا نبي الله".
وفي رواية: "لا تنبز اسمي، فلست بنبيء الله، ولكني نبي الله".
اختلف في إنكار النبي صلى الله عليه وسلم الهمز:
فقيل: كل ما لزم من البدل، فإنه لا يجوز رده إلى الأصل إلا في ضرورة؛ فلذلك أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم، الهمز، وإن كان هو الأصل.
#166#
وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نبه في هذا الحديث على أنه نبي الله أي: الرفيع بالرسالة المتضمنة للإنباء عن الله عز وجل ونبه بنهيه للداعي له: "يا نبيء الله" بقوله: "لا تنبز اسمي" أي: لا تجعلني منبئا عن الله فقط، فإني رفيع بالرسالة التي تتضمن الإنباء، إذ ليس كل منبئ رفعيا بإنبائه.
وقيل: معنى الإنكار، أي: ليس الهمز من لغة قومي قريش.
وهذا ضعيف، فقد قدمنا عن "غريب المصنف" لأبي عبيد: قال: وقال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب يهمزون "النبيء" و"البريئة"، وذلك أنهم يشبعون الكلام.
وقال أبو إسحاق الزجاج في كتابه "معاني القرآن": وجماعة من أهل المدينة يهمزون جميع ما في القرآن من هذا إلا {النبيين بغير الحق} و {الأنبياء بغير حق}.
قلت: وهي قراءة نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المديني القارئ، وغيره من القراء.
#167#
قال الزجاج: وأخبرني إسماعيل بن إسحاق أنا نافعا: لم يقرأ بحرف إلا وأقر به اثنان من قراء المدينة، وله وجه في العربية. انتهى.
وفسروا مراد الأعرابي بقوله: "يا نبيء الله" أي: يا من أخرجه الله عز وجل من مكة إلى المدينة.
و"النبيء": الطريق الواضح.
وأما الذي ينبأ من بلد إلى بلد فهو "نابئ"، يقال: "سبيل نابئ" إذا جاء من بلد إلى بلد، و"رجل نابئ" مثله.
| وأما "الأمي":|
فمعناه: أنه على جبلته التي ولدته أمه عليها: لا يقرأ الكتابة، ولا يكتب، وهذا أصح الأقوال، وهو أبلغ في فضائله وخصائصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم.
#168#
| المصدق:|
الذي صدق بما جاء من الله عز وجل، وامتثل ما آتاه عنه، وتحقق ما وعده، وصدق بجميع الأنبياء قبله.
| وأما "قدم الصدق":|
فقال قتادة في قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم} هو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم.
وروي عن زيد بن أسلم نحوه.
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: هو شفيع صدق عند ربهم.
وقيل غير ذلك.
| وأما "عبد":|
فاسم صادق عليه إذ قام بعبودية مولاه، فنسب إليه.
قال أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي في كتابه
#169#
"الأمثال" قال: وقال أبو عبد الله المغربي: من ادعى العبودية وله مراد باق فيه فهو كاذب في دعواه؛ إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته وقام بمراد سيده، يكون اسمه ما سمي به، ونعته ما حلي به، إذا دعي باسم أجاب عن العبودية، فلا اسم له ولا رسم لا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده، وأنشأ يقول:
يا عمرو ثأري عند زهرائي ... يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بـ: يا عبدها ... فإنه أصدق أسمائي
وقيل في قوله تعالى: {الذي أسرى بعبده ليلا} إن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذل لله عز وجل في العبودية، وتواضع للعظمة والربوبية، أسرى به مولاه، وبـ "عبده" تشريفا سماه.
#170#
ولقد أجاد الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري -رحمة الله عليه- حين قال: لما رفعه إلى حضرته السنية وأرقاه فوق الكواكب العلوية ألزمه اسم العبودية تواضعا للإلهية.
| وأما "ذو قوة"، و"مكين"، و"مطاع"، و"أمين":|
ففسر علي بن عيسى وغيره من أرباب المعاني قوله تعالى: {إنه لقول رسول كريم} إنه محمد صلى الله عليه وسلم، فجميع ما بعده من الأوصاف راجعة إليه، فقوله تعالى: {ذي قوة} أي: على تبليغ ما أوحاه إليه، وقوله: {مكين} أي: متمكن المنزلة رفيع القدر عند ربه عز وجل، وقوله: {مطاع} أي: في السموات، وقوله: {أمين} أي: على وحي الله عز وجل.
#171#
ذكره بنحوه القاضي عياض في "الشفا".
| وأما "نعمة الله":|
فمعناه معروف، وأي نعمة من الملك العلام أعظم على الأنام من نعمته بمحمد - عليه أفضل الصلاة والسلام-، قال الله عز وجل: {يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها} يعني: نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وأما "رسول الله" و "عبد الله" و "داعي الله":
فتقدم معنى ذلك.
| وأما "العروة الوثقى":|
فقد قيل في قوله عز وجل: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
حكاه أبو عبد الرحمن السلمي عن بعض المفسرين، ومعناه: المعين لمن اتبعه والظهير له، فمن اتبعه تمسك بأقوى سبب وأخذ بأشد متمسك.
| وأما "الصراط المستقيم":|
فيضارع "العروة الوثقى" أي: من سلك طريقه وهديه، فقد هدي إلى كل خير.
روي عن أبي العالية في قوله عز وجل في أم الكتاب: {اهدنا الصراط
#172#
المستقيم} هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار أهل بيته.
وجاء عن الحسن البصري وعبد الرحمن بن زيد نحوه.
| وأما "ثاني اثنين":|
فمعروف.
| وأما "النجم الثاقب":|
فحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير: {وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب} أنه محمد صلى الله عليه وسلم، ويعضده ما روي عن جعفر بن محمد الصادق في تفسير: {والنجم إذا هوى} إنه محمد صلى الله عليه وسلم.
ويضارع معناه معنى "النور" و"السراج المنير"؟ لأن "الثاقب": المضيء.
| وأما "المزمل" و"المدثر":|
فـ "المزمل": المتلفف في ثيابه، وأصله المتزمل، و"المدثر" وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا مثله، وأصله "متدثر" أيضا، ولكنهما على الإدغام، وسبب تسميته صلى الله عليه وسلم بهذين الاسمين معروف.
#173#
| وأما "أول المسلمين" و " أول المؤمنين":|
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث".
| وأما "خاتم النبيين":|
فمعروف، وخاتمة كل شيء: آخره، و"خاتم" يقال بفتح التاء وكسرها.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: "الخاتم" -يعني: بالكسر- الذي ختم به الأنبياء، و "الخاتم" أحسن الأنبياء خلقا وخلقا.
وقال أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي في زياداته في "المغازي": قال يحيى بن آدم: "الخاتم" بالفتح: ما يختم به، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه خاتم النبوة بالكسر.
وهذه ستة وأربعون اسما من القرآن.
#174#
| وأما "حرز الأميين":|
أي: حافظهم، فالحرز بالكسر: المكان الذي يحفظ فيه الشيء، وأيضا: المنع والضم. وحرز الأميين مانعهم مما يهلكهم، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا للأمة: "فأنا آخذ بحجزكم عن النار" الحديث.
والأميون نسبة إلى "الأم"؛ لأن النساء لا يكتبن غالبا، وقد يكون الباقي على أصل ولادة الأم، لا يقرؤون ولا يكتبون، والله أعلم.
| وأما "المتوكل":|
فهو: الملقي لمقاليد الأمور إلى الله علما، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أحصي ثناء عليك" وعملا: كما قال صلى الله عليه وسلم: "إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟!". ذكره ابن العربي.
وقيل: الذي توكل على الله في إقامة الدين وإظهاره.
| وأما "المختار":|
فهو خيار المخلوقات، قال صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذين كنت منه".
#175#
وقد تقدمت أحاديث كثيرة في معناه.
وروينا من حديث أبي خليفة الفضل بن حباب الجمحي، حدثنا محمد بن الحسن ابن أخت القعنبي، حدثنا محمد بن طلحة بن عبد الرحمن التيمي، عن عبد الرحمن بن سالم بن عويم بن ساعدة، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل اختارني ، واختار لي أصحابا فجعل منهم وزراء وأنصارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا".
| وأما "عظيم":|
فمعناه: صاحب الهيبة والقدرة والرفعة والدرجة العالية.
| وأما "بمأذمأذ":|
فورد تفسيره بـ "طيب" وهو: الزكي الحسن الخُلق والخَلق.
#176#
وقيل: معناه: "جدا جدا" أي: كثيرا كثيرا. وعلى هذا فهي بشارة لمن عظم من بني إسماعيل: كبيرا كبيرا، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
و"مأد" وجدتها مضبوطة بخط بعض من آمن من علماء اليهود بضم الميم والهمز معا وسكون الدال المهملة، وقال بعض المتأخرين: "مأذ" على وزن "عمر". انتهى.
وقال أبو محمد ابن قتيبة: وقد قال لي ولغيري بعض من أسلم من علمائهم: إن "ماذماذ" هو محمد، وهو بكسر الميم والهمزة، وبعضهم بفتح الميم ويدنيها من الضمة. انتهى.
| وأما "أحيد":|
فأظنه بالعبرانية، ولا أدري معناه، إلا أنه في اللغة العربية بمعنى: أميل، يقال: حاد عن الشيء يحيد حيدا ومحيدا وحيدانا وحيدودة: إذا مال، و"رجل حيداء" للذي يحيد، فيكون صلى الله عليه وسلم على هذا أبعد الناس من الأخلاق الذميمة وأميلهم عنها.
#177#
نعم قال أبو أحمد بن أحمد: حدثنا الخضر بن أحمد الحراني، حدثنا محمد بن الفرج بن السكن، حدثنا إسحاق بن بشر، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "اسمي في القرآن: محمد، وفي الإنجيل: أحمد، وفي التوراة: أحيد؛ لأني أحيد أمتي عن النار، فأحبوا العرب بكل قلوبكم".
إسحاق بن بشر هو: أبو حذيفة البخاري، صاحب كتاب "المبتدأ": كذبه علي بن المديني، وكان يزن بحفظ، ويروي العظائم عن الثقات، ومنها هذا، والآفة فيه من أبي حذيفة، والله أعلم. مات في رجب سنة ست ومائتين.
#178#
وجاء عن محمد بن جمهان: حدثنا عبد الله بن الأشرس، حدثنا علي بن موسى الرضا، حدثنا أبي، عن أبيه عن جده، عن أبي جده، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيد بنى دارا واتخذ مأدبة وبعث داعيا، فالسيد: الله الجبار، والدار: الجنة، والمأدبة: القرآن، والداعي: أنا، اسمي في القرآن: محمد، وفي الإنجيل: أحمد، وفي التوراة: أحيد، أحيد شيعتك يا علي يوم القيامة من النار".
رواه عن ابن جمهان: محمد بن سهل، أظنه العطار، المتهم بالوضع، وأظن هذا مما صنعته يداه.
وعلي بن موسى بن محمد الهاشمي العلوي بريء من ذلك، والله أعلم.
#179#
| أما "حمطايا": ويقال: "حمياطا":|
فقال صاحب "النهاية": قال أبو عمر: سألت بعض من أسلم من اليهود عنه فقال: معناه: يحمي الحرم، ويمنع من الحرام، ويوطئ الحلال، والله أعلم.
| وأما "خير البرية":|
فالبرية بالهمز: الخليقة، فعيلة بمعنى مفعولة، ويسهل فيدغم، وقيل: أصل المدغمة من البراء وهو: التراب، وتقدم الكلام على ذلك في أوائل الكتاب.
#180#
| وأما "صاحب القضب":|
فهو: السيف، وقيل: هو القضيب الممشوق، ويقرب منه "صاحب الهراوة"؛ لأنها في اللغة: "العصا"، قيل: وهي المعنية بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض: "أذود الناس بعصاي".
وتقدم في البشارات العيسوية تفسير "الهراوة" بـ: القضيب.
| وأما "البارقليط":|
فيقال بالباء والفاء، قال أبو محمد ابن قتيبة: و"البارقليط" بلغتهم -أي: بلغة الحواريين- لفظ من ألفاظ الحمد؛ إما: "أحمد" أو "محمد" أو "محمود" أو "حامد" ونحو ذلك.
#181#
وقال غيره: الذي يقوم عليه البرهان في لغتهم أنه الحمد، ورجح هذا طائفة، واستدلوا بقول يوشع: "من عمل حسنة يكون له فارقليط جيد" أي: حمد جيد.
وقيل: "البارقليط" بالسريانية: المخلص هو؛ لأن "المخلص" بالسريانية: "فاروق" و "ليط": "هو"، فجعل "فارقليط" أي: مخلص هو، بمعنى قول العرب: رجل هو.
وفسره ثعلب أبو العباس بـ: الفارق بين الحق والباطل.
وقيل: معناه بالسريانية: المعز، وكذلك هو باليونانية.
وقيل: معناه: الحكيم، قال ابن ظفر: وسألت عنه رجلا من علمائهم، فقال: هو الذي يعلم كل شيء، ثم قال: هو الذي يعلم الأشياء الخفية.
وقيل: هو الرسول، وقيل: لا يعرف معناه.
#182#
| وأما "روح الحق":|
ففسر الروح بـ: "الأمر".
| وأما "مقيم السنة":|
فمعروف.
| وأما "إكليل محمود":|
فمعناه: رأس الناس الذي يحمدونه، وهم فيهم بمنزلة الإكليل، وهو: التاج.
وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عبد الله الرازي في "مختصر العين" "الإكليل": كعصابة مزينة بالجوهر.
#183#
| وأما "جبار":|
سمي به إما لإصلاحه الأمة بالهداية والتعليم، أو لقهره أعدائه، أو لعلو منزلته على البشر وعظيم خطره، ونفى الله تعالى عنه في القرآن جبرية التكبر التي لا تليق به، فقال تعالى: {وما أنت عليهم بجبار}
قاله القاضي عياض.
| وأما "مقدس":|
فمعناه: المطهر من الذنوب، كما قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر}
وقيل: مطهر من الأخلاق الذميمة.
وقيل: يتطهر باتباعه من الذنوب.
#184#
| وأما "مشفح":|
فهو بالعبرانية، وقيل: بالسريانية، وهو بضم الميم وفتح الشين المعجمة وتشديد الفاء مفتوحة، لكن فتحها بين الضمة والفتحة، وهو مطابق لاسمه "محمد" وزنا ومعنى؛ لأن "مشفح" مشتق من قولهم "شفحا لاها" إذا أرادوا أن يقولوا "الحمد لله". قال ابن قتيبة: وإذا كان الحمد "شفحا"، فـ "مشفح": محمود، بغير شك. انتهى.
| وأما "المنحمنا":|
فهو بالسريانية، ومعناه بالرومية: البارقليط، وتقدم معناه.
وقد قيل: هو "محمد" صلى الله عليه وسلم.
وهذه خمسة عشر اسما من أسمائه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة.
#185#
| وأما "الماحي":|
ففسر في الحديث بأنه الذي محا الله به الكفر، لما بعثه الله عز وجل كان أهل الأرض كلهم كفارا إلا بقايا من أهل الكتاب، وكان الكفار ما بين عباد أوثان ويهود ونصارى ومجوس ودهرية وعباد كواكب وفلاسفة، ولا يقرون بالأنبياء، ولا يعرفون شرائعهم، فمكنه الله تعالى وسلطه على الكفار حتى محي ذلك كله، وأظهر الله دينه على كل دين.
وقد مر أيضا مفسرا في الحديث أن "الماحي" الذي محا الله به سيئات من اتبعه، وفي الرواية الأخرى: "والماحي يمحو الله به الخطايا لمن آمن به".
قال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا محمد بن علي، حدثنا أبو العباس ابن قتيبة، حدثنا محمد بن عمرو الغزي، حدثنا عطاف بن خالد، عن محمد بن أبي بكر بن مطر بن عبد الرحمن بن عوف قال: قالت عائشة رضي الله عنها: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانبي، ثم استيقظت فاستوحشت له، فسمعت حسه يصلي، فتوضأت ثم جئت فصليت وراءه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله من الليل، فجاء نور حتى أضاء البيت كله، فمكث ما شاء الله، ثم ذهب ثم جاء نور هو أشد من ذلك كله ضوءا، حتى
#186#
لو كان الخردل في بيتي، فشئت أن ألقطه لقطته، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فقلت: يا رسول الله، ما هذا النور الذي رأيت؟ قال: "وقد رأيتيه يا عائشة؟!" قالت: قلت: نعم.
قال: "إني سألت ربي أمتي، فأعطاني الثلث منهم، فحمدته وشكرته، ثم سألته البقية فأعطاني الثلث الثاني، فحمدته وشكرته، ثم سألته الثلث الثالث، فأعطانيه، فحمدته وشكرته".
| وأما "الحاشر":|
فقد فسر في الحديث.
| وأما "العاقب" و"المقفي":|
فهمها متقاربان في المعنى:
#187#
فـ "العاقب": الذي عقب الأنبياء فجاء آخرهم.
و"المقفي": الذي قفا آثار من تقدمه منهم.
والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل، ولا ابتكر الدين، ولا أحداث الإسلام، وإنما قفا في ذلك غيره من الأنبياء والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين.
| وأما "الخاتم":|
فتقدم.
| وأما "نبي التوبة":|
فلأن الله تعالى تاب على أمته بالقول والاعتقاد توبة لم يحصل مثلها لأمة قبلها دون تكلف قتل أو إصر كما كانت توبة من قبلهم، بل هي أسهل الأشياء، هي بالندم والإقلاع، وجعلها الله تعالى ماحية للذنوب قليلها وكثيرها، صغيرها وكبيرها، ولم يمنعها من أحدهم ما دامت روحه في جسده ما لم يعاين.
#188#
| وأما "نبي الملحمة والملاحم":|
فـ "الملحمة": الحرب الشديدة، والمراد بها هنا - والله أعلم - : الجهاد؛ لأن الله عز وجل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالحجة القاطعة والبرهان الواضح والدليل الظاهر، لكن لما عند عليه المشركون وأعرضوا عن حجته ولم يلتفتوا إلى ما جاء به أذن الله له في قتالهم، ووعده النصر عليهم، فقابل ذلك بالقبول والامتثال، وقاتل أعداء الله أشد القتال، فكان "نبي الملحمة والملاحم"، ولم يجاهد نبي وأمته ما جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته.
قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب "شرح أحاديث الصحيحين": وفي كونه صلى الله عليه وسلم نبي الملحمة دليل واضح صادع على صدقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان قد جاء بالحكمة فقط ولم تظهر معجزته في أنه قهر الخلق وكسر شوكة الملوك على كونه لم يستعن في ذلك بملك، ولا استجاش بجند ولا عشيرة، بل كانت عشيرته أشد الناس عداوة له، حتى أخرجوه من بلده ثاني اثنين، فأظهره الله عز وجل على الدين كله كما وعده، فثبت حينئذ صدقه في الطرفين في إتيانه بالحكمة وفصل الخطاب، وبقهره وقوته باليد والظهور. انتهى.
وقيل: معنى "نبي الملحمة": إنه إعلام من النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون بعده
#189#
في أمته من الجهاد والحروب والقتل والسباء .
| وأما "نبي الرحمة":|
فتقدم معناه، وروي "نبي المرحمة" وهذه الميم ميم المصدر الدالة على تأكيد الفعل من الرحمة، أتى بها لتكون أبلغ في فعل الرحمة، والله أعلم.
| أما "الأول" و"الآخر":|
فلأنه صلى الله عليه وسلم سابق الأنبياء وخاتمهم صلى الله عليه وسلم أجمعين، تقدم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث"، وقال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون"، وتقدم.
| وأما "المصطفى" و"المجتبى" و"المرتضى":|
فمعانيها متقاربة معروفة كـ: "المختار".
| وأما "الآمر" و"الناهي":|
فهو صلى الله عليه وسلم أحق الناس بوصفه بذلك، والحقيقة لله عز وجل ولكنه صلى الله عليه وسلم لما كان الواسطة أضيف ذلك إليه، وهو معلوم أن الأمر والنهي لله عز وجل حقيقة، قال الله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى}.
#190#
ويقرب من معنى ذلك "المحلل" و"المحرم".
|وأما "المصلح":|
فهو اللازم للصلح لنفسه ولأمته صلى الله عليه وسلم.
| وأما "التقي":|
فهو الذكي خَلقا وخُلقا، ظاهرا وباطنا، قولا وعملا، قال صلى الله عليه وسلم: "فأنا أتقى ولد آدم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "فوالله، إني لأتقاكم لله عز وجل وأشدكم له خشية".
| وأما "الصادق والمصدوق":|
فمعروف.
| وأما "المهيمن":|
فمعناه معنى "الأمين" في أحد معانيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بهذا الاسم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمين الله تعالى على وحيه ودينه، وأمين من في السماء، وأمين من في الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم يعرف بذلك قبل البعثة وبعدها.
#191#
وفسر القتبي وغيره قول العباس رضي الله عنه:
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق
أنه أراد: يا أيها المهيمن.
| وأما "الطيب":|
فهو: الذي سلم عن خبث القلب حين رميت منه العلقة السوداء، وسلم عن خبث القول، فهو الصادق المصدوق عن خبث الفعل، فعمله وأحواله كلها طاعة، وتقدم معناه.
| وأما "المبارك":|
فهو الذي يأتي من قبله الخير الكثير.
وقيل: سمي صلى الله عليه وسلم مباركا بما جعل الله عز وجل في حاله من نماء الثواب،
#192#
وتضعيف الإكرام، وزيادة الإفضال، وبما جعل في أصحابه من فضائل الأعمال، وتزكية الأحوال، وفي أمته من علو القدر وزيادة الأجر على جميع الأمم مع قصر المدة.
| وأما "الشكور":|
فهو المعترف بنعم الله تعالى، المثني عليه جهده والقائم بعبادته حسب طاقته.
| وأما "المأمون":|
فهو الذي لا يخاف من جهته شر.
#193#
| وأما "الفاتح":|
فمعناه: الفاتح لأبواب الرحمة على أمته، والفاتح لبصائرهم بمعرفة الحق والإيمان بالله تعالى.
وقيل: "فاتح الأنبياء" المقدم عليهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنت أول الأنبياء في الخلق" الحديث.
| وأما "القاسم":|
فمعروف، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا قاسم، والله معطي".
| وأما "قثم":|
ففسر في الحديث الآتي بعد إن شاء الله تعالى في شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم من رواية مروان بن جناح الشامي مولى الوليد بن عبد الملك، عن يونس بن ميسرة بن حلبس.
#194#
قال مروان: "القثم": السري.
وقد فسر "القثم" أيضا بـ: الجامع للخير.
وفي "مختصر العين" لأبي عبد الله الخطيب الرازي: و"القثوم": الجموع للخير.
| وأما "الضحوك" و "القتال":|
فهما اسمان مقترنان لا يفرد أحدهما عن الآخر، فإنه صلى الله عليه وسلم ضحوك في وجوه المؤمنين طليق الوجه لهم، لا ير أكثر تبسما منه، قتالا لأعداء الله، لا تأخذه في الله لومة لائم.
#195#
| وأما "منصور":|
فإن الله عز وجل أيده بنصره، فظفره على أعدائه، وأعلى دينه على الدين كله.
| وأما "نبي الحرمين":|
فالحرمان: دار مولده مكة المشرفة، ودار هجرته: طيبة المطيبة.
| وأما "راكب البراق" و "راكب البعير":|
فمعروفان:
| وأما "صاحب التاج":|
فقال أبو الفضل عياض: فالمراد به: العمامة، ولم تكن حينئذ إلا للعرب، والعمائم تيجان العرب.
#196#
قلت: قد قدمنا في البشارات العيسوية بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه صاحب "الجمل" و"المدرعة"، و"العمامة"، وهي التاج.
| وأما "صاحب المعراج":|
فهو الذي رقى فيه إلى السماء، وهو مرقاة من ذهب، ومرقاة من فضة، وسيأتي ذكره في قصة "المعراج" إن شاء الله تعالى.
| وأما "صاحب الهراوة":|
فهي العصا، وتقدم تفسيرها.
| وأما "صاحب الحجة":|
فالحجة: الكلام المستقيم على الإطلاق.
#197#
| وأما "صاحب السلطان" و "البرهان":|
فهما بمعنى الأول، فالسلطان: الحجة والبرهان، يقال: "برهان قوله" أي: بينه بحجته.
| وأما "صاحب الشفاعة":|
فالمراد بها: الشفاعة العظمى.
وشفاعات نبينا صلى الله عليه وسلم على ضروب، فأعظمها وأعمها شفاعة الموقف لتخليص الناس من الكرب، وتعجيل الحساب، وحصول الفصل، وهي مخصوصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحد، ويدخل في هذه الشفاعة آدم ومن ولد، بل جميع الخلائق كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
ومنها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم" وقال: "إن الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم".
ومن شفاعاته صلى الله عليه وسلم:
أنه يشفع في تعجيل حساب أمته أول الخلق، كما في الحديث: "يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تريد أن أصنع بأمتك؟ قال: فأقول: يا رب؛ عجل حسابهم. قال: فيدعى بهم فيحاسبون".
#198#
ومنها: شفاعته صلى الله عليه وسلم في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وتعجيلهم إلى منازلهم، كما ثبت في حديث الشفاعة: "فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأول. من أبواب الجنة".
ومن شفاعاته صلى الله عليه وسلم: في قوم استوجبوا النار بقبح ما اكتسبوه من الأوزار، حتى لا يدخلوا النار وينجوا منها، وإليها الإشارة في الحديث: "ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة".
ومنها: الشفاعة في إخراج من دخل النار من الموحدين كما صرحت به الأحاديث الكثيرة.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى أقول: يا رب، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود" أي: من لا حظ له في الإيمان وهم الكفار بالله عز وجل.
ومنها: الشفاعة لأهل الجنان بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها،
#199#
بزيادة درجات وإعطاء منازل عاليات.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب: "لعله تنفعه شفاعتي فيجعل في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار".
وأحاديث الشفاعة كثيرة، وطرقها وألفاظها جليلة:
ومنها: ما قال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: إن الأنبياء عليهم السلام ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيده، إني لسيد الناس يوم القيامة، ولا فخر، وإن بيدي لواء الحمد، إن تحته لآدم عليه السلام ومن دونه، ولا فخر".
قال "ينادي الله عز وجل يومئذ آدم، فيقول: لبيك رب وسعديك. فيقول: أخرج من ذريتك بعث النار.
فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين، فيخرج ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل.
فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم، أكرمك الله، وخلقك بيده، ونفخ فيك
#200#
من روحه، وأسكنك جنته، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لذريتك؛ لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: ليس ذلك إلي اليوم، ولكن سأرشدكم، عليكم بعبد اتخذه الله خليلا وأنا معكم.
فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم، أنت عبد اتخذك الله خليلا، فاشفع لذرية آدم؛ لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: ليس ذلك إلي، ولكن سأرشدكم وأنا معكم.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت عبد اصطفاك الله عز وجل برسالاته وكلامه، وألقى عليك محبة، اشفع لذرية آدم، لا تحرق اليوم بالنار.
قال: ليس ذلك اليوم إلي، ولكن سأرشدكم، عليكم بروح الله وكلمته: عيسى ابن مريم عليه السلام.
فيأتون عيسى ابن مريم، فيقولون: يا عيسى، أنت روح الله وكلمته، اشفع لذرية آدم؛ لا تحرق اليوم بالنار.
قال: ليس ذلك اليوم إلي، عليكم بعبد جعله الله عز وجل رحمة للعالمين: أحمد صلى الله عليه وسلم، وأنا معكم.
فيأتون فيقولون: يا أحمد، جعلك الله رحمة للعالمين، فاشفع لذرية آدم؛ لا تحرق بالنار.
فأقول: نعم، أنا صاحبها، فآتي، حتى آخذ بحلقة باب الجنة.
فيقال: من هذا؟ فأقول: أنا أحمد.
فيفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار -تبارك وتعالى- خررت ساجدا، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب تعالى بشيء لا يحسنه الخلق.
ثم يقال: سل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب، ذرية آدم، لا تحرق اليوم بالنار.
#201#
فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه.
ثم يعودون إلي فيقولون: ذرية آدم، لا تحرق اليوم بالنار.
فآتي حتى آخذ بحلقة باب الجنة.
فيقال: من هذا؟ فأقول: أحمد.
فيفتح لي، فإذا نظرت إلى الجبار -تبارك وتعالى- خررت ساجدا، فأسجد مثل سجودي أول مرة، ومثله معه، فيفتح لي من الثناء على الرب عز وجل والتحميد مثل ما فتح لي أول مرة.
فيقال: ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: رب، ذرية آدم؛ لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: أخرجوا له من كان في قلبه مثقال قيراط من إيمان.
ثم يعودن إلي، فآتي حتى أصنع كما صنعت، فإذا نظرت إلى الجبار عز وجل خررت ساجدا، فأسجد كسجودي أول مرة ومثله معه، ويفتح لي من الثناء والتحميد مثل ذلك، ثم يقال: سل تعطه، واشفع تشفع.
فأقول: يا رب، ذرية آدم لا تحرق اليوم بالنار.
فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ويبقى أكثرهم، ثم يؤذن لآدم بالشفاعة، فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين، فيشفعون، ثم إن المؤمن ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر".
رواته كلهم ثقات، وليس لـ "سعيد بن أبي هلال" عن "أنس" في الكتب الستة شيء، والله أعلم.
#202#
وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد: حدثنا الحارث بن أبي أسامة التيمي، حدثنا عبيد الله بن موسى، أخبرني ابن أبي ليلى، عن الحسن أو عيسى كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختبأت شفاعتي لأمتي يوم القيامة، ما من أحد إلا يرغب فيها، حتى إبراهيم خليل الرحمن".
قال عمرو بن عاصم: حدثنا حرب بن سريج قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: جعلت فداك، أرأيت هذه الشفاعة التي يحدث بها أهل العراق، أحق هي؟
قال: شفاعة ماذا؟ قلت: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: إي والله؛ حدثني عمي محمد ابن الحنفية، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عز وجل: أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم رب رضيت".
ثم أقبل علي فقال: إنكم تقولون يا معشر أهل العراق: إن أرجى آية في كتاب الله: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} قلنا: لنقول ذلك.
#203#
قال: لكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} وهي: الشفاعة.
من أفراد حرب بن سريج، ولم يروه عنه إلا عمرو بن عاصم.
| وأما "صاحب المقام المحمود":|
فالجمهور على أنه شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو قول أبي هريرة، وابن عمر، وكعب بن مالك وجابر - وحذيفة، وابن عباس، وابن مسعود في أحد قوليه، وغيرهم من الصحابة، وبه قال علي بن الحسين، ومجاهد في أحد قوليه، وخلق.
قال أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي في كتابه "الاستقامة" -من تأليفه-: حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن الحسن: قوله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: هو مقام الشفاعة يوم القيامة.
وورد هذا التفسير مسندا فيما قال تمام بن محمد الرازي الحافظ في "فوائده": أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، حدثنا أبو جعفر محمد
#204#
ابن سليمان، حدثنا أبو أسامة، عن داود بن يزيد، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} فقال صلى الله عليه وسلم: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
تابعه وكيع عن داود الأودي.
وحدث أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": عن محمد بن إسماعيل -يعني: الفيدي-، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: " ينادي مناد يوم القيامة: أين محمد؟ فأقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من هديت بك وإليك سبحانك رب البيت، تباركت ربنا وتعاليت" قال: فيشفع عند ذلك فيشفع.
قال: قال حذيفة: ذلك المقام المحمود.
تابعه إسرائيل عن أبي إسحاق.
#205#
وقال سنيد بن داود: حدثنا أبو سفيان -يعني: المعمري- عن قتادة قال: هو الشفاعة، يشفعه الله عز وجل في أمته، فهو المقام المحمود.
وقال معمر: عن الزهري، عن علي بن حسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أشفع، فأقول: يا رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض" وهو المقام المحمود.
ورويناه من حديث أبي بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، حدثنا عمر بن حفص أبو بكر السدوسي، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن علي بن حسين، حدثني رجال من أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تمد الأرض لعظمة الرحمن عز وجل مد الأديم، لا يكون لشيء من بني آدم موضع قدم، ثم أدعى أول الناس؛ فأخر ساجدا، ثم يؤذن لي فأقوم فأقول: أي رب، إن هذا جبريل - وهو عن يمين الرحمن تعالى، والله ما رآه قط قبلها - أنك
#206#
أرسلت إلي، وجبريل ساكت لا يتكلم ثم يقول: صدق. ثم يؤذن بالشفاعة فأقول: أي رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض، فذلك المقام المحمود".
تابعه محمد بن عثمان بن خالد أبو مروان العثماني، عن إبراهيم بن سعد بنحوه.
ورواه محمد بن يونس الكديمي، حدثنا ابن عثمة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تمد الأرض يوم القيامة لعظمة الرحمن، فلا يكون فيها لأحد إلا موضع قدميه، فأكون أول من يدعى، فأجد جبريل عليه السلام قائما عن يمين الرحمن، ولا والذي نفسي بيده ما رأى الله عز وجل قبلها فأقول: يا رب، إن هذا جاءني فزعم أنك أرسلته إلي قال: فيقول الله عز وجل: صدق، أنا أرسلته إليك؛ فما حاجتك؟ فأقول: يا رب؛ إني تركت خلقا وعبادا من عبادك قد عبدوك في أطراف البلاد وشعف الآكام، ينتظرون جواب ما أجيء من عندك. فيقول: أما إني لا أخيبك فيهم".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهذا المقام المحمود الذي قال الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} ".
#207#
وحدث به ابن إسحاق عن عبيد الله بن أبي بكر، عن الزهري، فذكره بنحوه.
وقال شريك عن أبي إسحاق في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يبعثه الله عز وجل يوم القيامة مقاما يغبطه الأولون والآخرون.
وقيل: "المقام المحمود" هو: إعطاؤه صلى الله عليه وسلم لواء الحمد:
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنه قيام نبينا صلى الله عليه وسلم عن يمين العرش مقاما لا يقومه غيره، يغبطه الأولون والآخرون حين يكسى تلك الحلة العظيمة، وينال ذلك المنال العظيم.
وبه قال كعب والحسن وغيرهما.
قال خشيس بن أصرم في كتاب "الاستقامة": حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا الصعق بن حزن، [عن علي] بن الحكم [عن] عثمان بن عمير، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من يكسى يوم القيامة -يعني: إبراهيم-، يقول الله تعالى: اكسوا خليلي إبراهيم. ثم أكسى على أثره، ثم أقوم عن يمين العرش مقاما يغبطني به الأولون والآخرون".
#208#
وخرج ابن حبان في "صحيحه" من حديث كثير بن عبيد، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، فيكسوني ربي حلة خضراء، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود".
وقيل: "المقام المحمود": قعود نبينا صلى الله عليه وسلم على العرش !!
ولم يثبت ذلك في نص حديث، وإنما اشتهر من تفسير مجاهد في قول الله عز وجل: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} واستغرب هذا التفسير أبو عمر ابن عبد البر، وعده قولا مهجورا.
#209#
وتفسير مجاهد هذا: رواه جماعة من الأئمة.
فقال أبو سهل القطان: حدثنا عبد الكريم الديرعاقولي: حدثنا يحيى بن عبد الرحمن وغيره، قالوا: حدثنا ابن فضيل، عن ليث عن مجاهد: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه أو يقعده على العرش.
وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا المعيطي، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قول الله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده معه على العرش.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا ابن الأصبهاني، ومحمد بن إسماعيل الفيدي أبو عبد الله، وهارون بن معروف، قالوا: حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه على العرش.
"ليث" هو: ابن أبي سليم.
#210#
تابعه: عطاء بن السائب، وأبو يحيى القتات، وجابر بن يزيد، فرووه عن مجاهد.
ورواه جماعة عن محمد بن فضيل منهم: محمد بن عبد الله بن نمير، وواصل بن عبد الأعلى، وعبيد بن يعيش، وعلي بن المنذر الطريقي، وعلي بن حرب الموصلي، والحسن بن حماد سجادة، وخلاد بن أسلم، وعبد الرحمن بن صالح
#211#
الأزدي، والحارث بن سريج النقال، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة.
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تفسيره"، وكذلك أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد النقاش في "شفاء الصدور".
وقال ابن جرير: ليس في فرق الإسلام من ينكر هذا، لا من يقر أن الله فوق العرش ولا من ينكره.
#212#
وكذلك رد أبو العباس بن سريج على من أنكره.
وقال أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": وحديث مجاهد في فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وتفسيره لهذه الآية: "أنه يقعده
#213#
على العرش" تلقاها الشيوخ من أهل العلم. والنقل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحسن تلق وقبلوها أحسن قبول، ولم ينكروها، وأنكروا على من رد حديث مجاهد إنكارا شديدا، وقالوا: من رد حديث مجاهد فهو رجل سوء.
ثم ذكر الآجري عن أبي محمد يحيى بن صاعد أنه قال: له هذه الفضيلة في القعود على العرش لا ندفعها، ولا نماري فيها، ولا نتكلم في حديث فيه فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بشيء يدفعه ولا ينكره.
وزاد بعضهم عن الآجري عن ابن صاعد أنه قال: هذه الفضيلة في القعود على العرش لا يدفعها ولا يتكلم في حديث فيه فضيلة وشرف للنبي صلى الله عليه وسلم بشيء يدفعه أو يتعرض فيه إلا منافق مرتاب مذموم في السنة والكتاب، وهي من الأحاديث المقبولة عند أولي الألباب. انتهى.
وكتب محمد بن أبي عمران الفارسي الإمام الزاهد إلى أبي بكر المروذي كتابا، منه:
وقد حدثني هارون، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد
#214#
في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه على العرش.
فبلغني أن مسلوبا من الجهال أنكر ذلك، فنظرت في إنكاره، فإن كان قصد مجاهدا فابن عباس قصد، وإن كان لابن عباس قصد فعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رد، وإن كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم رد فبالله كفر، وإني أسأل الله بكل اسم هو له من أنكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقا أو جحد له فضلا أو غاظه شيء من فضله صلى الله عليه وسلم أن لا تناله شفاعته وأن لا يحشره في زمرته، وذكر باقي الكتاب.
وممن أفتى من الأئمة أن هذا الأثر يسلم ولا يعارض: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب "السنن"، وأبو إسحاق
#215#
إبراهيم الحربي، وخلق.
وقال بهذا التفسير جماعة منهم:
إسحاق بن راهويه، وعباس الدوري، وعلي بن داود القنطري،
#216#
ومحمد بن أبي عمران الفارسي، ومحمد بن مصعب العابد شيخ بغداد.
قال المروذي: سمعت أبا عبد الله الخفاف يقول: سمعت ابن مصعب وتلا: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: نعم، يقعده على العرش.
#217#
وقال أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد الفقيه المحدث فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء: لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا: إن الله عز وجل يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش، واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت.
وروى الشيخ أبو حفص عمر بن عبيد الله بن عمر بن تعويذ الدلال، عن أبي بكر الشيبلي الزاهد وسأله رجل فقال له: أيقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش؟ فقال له: ويلك، ما أبلمك! أليس الله تعالى يقول: {إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر}، ويلك اتق الله، يقعده أي موضع شاء من محل الكرامة.
#218#
مات ابن تعويذ هذا في سنة عشر وأربع مائة، وقد بلغ نحو مائة سنة.
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في ترجمة زينب بنت جحش رضي الله عنها قول الإمام العلامة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي هذا التفسير أيضا.
وصنف فيه المروذي مصنفا وطرقه إلى مجاهد.
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: وأنا منكر على كل من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء متهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال: سمعت هذا الحديث من جماعة، وما رأيت أحدا من المحدثين ينكره، وكان عندنا في وقت ما سمعناه من المشائخ: أن هذا الحديث إنما ينكره الجهمية.
و"عبد الله" حدث به: عن هارون بن معروف، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده على العرش.
قال: فحدثت به أبي رحمه الله فقال: كان محمد بن فضيل يحدث به، فلم يقدر لي أن أسمعه منه.
#219#
وقال أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة": حدثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني وأبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، قالا: حدثنا محمد بن عثمان بن [أبي] صفوان الثقفي، حدثنا يحيى بن كثير العنبري، حدثنا سلم بن جعفر، حدثنا سعيد الجريري، حدثنا سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم صلى الله عليه وسلم فأقعد بين يدي الله عز وجل على كرسيه.
فقال رجل لسعيد الجريري: يا أبا مسعود، إن كان على كرسيه فهو معه؟!.
قال: ويلكم! هذا أقر حديث في ديننا لعيني.
تابعه عباس العنبري، ومحمد بن يونس الكديمي، وعلي بن مسعدة النسائي.
#220#
وقال البخاري في "تاريخه": وقال سلم بن جعفر، عن الجريري، حدثنا سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام قال: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بين يدي الرب عز وجل على كرسي الرب عز وجل.
ولا يعرف لـ "سيف" سماع من "ابن سلام" انتهى.
وقد روي هذا التفسير من قول ابن عباس رضي الله عنهما، ولا يثبت:
فأنبأنا الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المقدسي، أخبرنا أبو الفضل سليمان بن حمزة الحاكم -قراءة عليه، وأنا شاهد مرتين، في شهر رجب سنة أربع عشرة وسبع مائة-، أخبرنا أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله الهمداني، أخبرنا أبو الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني، أخبرنا
#221#
أبو القاسم علي بن أبي طالب الرزاز -بقراءتي عليه ببغداد .. .. ، أخبرنا أبو الحسن بشرى بن مسيس الفاتني الرومي، أخبرنا عمر بن محمد بن إبراهيم بن سبنك القاضي، حدثنا الحارث بن محمد بن إشكاب- وكان قد ذهب بصره فرده الله عليه، حدثنا عمر بن مدرك الرازي، حدثنا مكي بن إبراهيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تبارك وتعالى-: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يقعده على العرش.
إسناده ساقط، فـ "عمر الرازي" و"جويبر": متروكان.
#222#
وروي من طريق عباد بن أبي روق، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس به.
وقد جاء مرفوعا، وهو باطل.
روى أحمد بن يونس، عن سلمة بن الأحمر، عن أشعث بن طليق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ عليه حتى بلغت: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: "يجلسني على العرش".
هذا حديث منكر، و"سلمة بن الأحمر" هذا: متروك الحديث، و"أشعث بن طليق" لم يلق "ابن مسعود".
وله طريق أخرى موقوفة على ابن مسعود، ويروى عن ابن عمر مرفوعا، ولا يصح، والمشهور: أن هذا التفسير عن مجاهد .
#223#
#224#
وقد قال الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب "السنة" -من تأليفه-: أخبرني الحسن بن صالح العطار، عن محمد بن علي السراج قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله، فتقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت عن يسار عمر، فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أقول شيئا. فأقبل علي فقال: "قل"، فقلت: إن الترمذي يقول: إن الله لا يقعدك معه على العرش، ونحن نقول: إن الله يقعدك معه على العرش، فكيف تقول يا رسول الله؟ فأقبل علي شبه
#225#
المغضب وهو يقول: "بلى والله، بلى والله، بلى والله، يقعدني معه على العرش"، ثم انتبهت.
وجدت بخط الحافظ أبي علي أحمد بن محمد بن أحمد البرداني، أنشدنا شيخنا أبو طالب محمد بن عليذ بن الفتح العشاري قال: أنشدنا أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد الدارقطني رضي الله عنه:
حديث الشفاعة من أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسنده
فأما حديث بإقعاده ... على العرش أيضا فلا نجحده
أمروا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسده
#226#
وذكر باقي الأبيات.
وجاءت الرواية عن مجاهد في تفسيره الآية بغير ما تقدم وهو: ما قال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "التاريخ": حدثنا سنيد بن داود، حدثنا
#227#
حجاج عن [ابن] جريح، قال مجاهد: {مقاما محمودا} قال: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
| وأما "صاحب الحوض":|
فهو حوضه صلى الله عليه وسلم الذي يكون في عرصات القيامة، ترده الأمة، وقد وردت بذكره الأحاديث الصحيحة، وجاءت بوصفه الأخبار الصريحة من حديث أبي بن كعب، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وبريدة الأسلمي، وثوبان، وجابر بن سلمة، وجابر بن عبد الله، وجبير بن مطعم، وأبي ذر جندب بن جنادة، وجندب بن عبد الله، وحارثة بن وهب الخزاعي، وحذيفة بن أسيد، وحذيفة، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدري، وسمرة بن جندب، وسهل بن سعد، وأبي أمامة صدي بن عجلان؛ وعبد الله بن زيد، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وعتبة بن عبد السلمي، وعقبة بن عامر، وأبي برزة الأسلمي، وعمر بن الخطاب، وكعب بن عجرة، والنواس بن سمعان، وأبي بكرة، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة، وأم سلمة، وغيرهم رضي الله عنهم.
ومن أحاديث الحوض: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
#228#
"حوضي مسيرة شهر، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك، كيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ أبدا".
متفق عليه من حديث نافع بن عمر الجمحي، عن أبي محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمر.
وخرجه البخاري عن سعيد بن أبي مريم، ومسلم عن داود بن عمرو الضبي، كلاهما: عن نافع بن عمر به.
وحدث معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يدخل من أمتي يوم القيامة سبعين ألفا بغير حساب"، فقال رجل: يا رسول الله، فما سعة حوضك؟ قال: "ما بين عدن وعمان، وأوسع، وفيه مثعبان من ذهب وفضة، وشرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب ريحا من المسك، من شرب منه
#229#
لا يظمأ بعدها أبدا ولن يسود وجهه أبدا".
وقال يحيى بن صالح الوحاظي: حدثنا محمد بن مهاجر، أخبرني العباس بن سالم، عن أبي سلام الحبشي قال: بعث إلي عمر بن عبد العزيز، فحملني على البريد، فأتاه، فلما دخل عليه قال: يا أمير المؤمنين، لقد شق علي مركبي البريد. فقال: يا أبا سلام، ما أردت أن أشق عليك، ولكن بلغني عنك حديث تحدث به عن ثوبان، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الحوض، فأحببت أن تشافهني به. فقال أبو سلام: حدثني ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حوضي من عدن إلى عمان البلقاء، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، أكاويبه عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين؛ الشعث رؤوسا الدنس ثيابا، الذين لا ينكحون المتمنعات ولا يفتح لهم السدد".
#230#
قال عمر: لكني قد نكحت المتمنعات وفتح لي السدد، ونكحت فاطمة بنت عبد الملك، لا جرم، لا يستحيل رأسي يشعث، ولا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ.
تابعه أبو توبة الربيع بن نافع، عن محمد بن مهاجر نحوه.
ورواه هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا زيد بن واقد، حدثني بسر بن عبيد الله، حدثنا أبو سلام الأسود، فذكره بنحوه.
وهو في "جامع الترمذي" و"سنن ابن ماجه" لأبي سلام.
وروى مكي بن إبراهيم البلخي، حدثني موسى بن عبيدة، عن أبي
#231#
بكر بن عبيد الله بن أنس، عن جده أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت حوضي، فإذا على حافتيه آنية مثل عدد نجوم السماء، فأدخلت يدي فيه فإذا عنبر أذفر".
وروينا من حديث أبي بكر الشافعي، حدثنا أبو حمزة أحمد بن عبد الله بن مروان المروزي، حدثنا داود بن الحسين العسكري، حدثنا بشر بن داود، عن سابور، عن علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن على حوضي أربعة أركان، فأول ركن منها في يد أبي بكر، والركن الثاني في يد عمر، والركن الثالث في يد عثمان، والركن الرابع في يد علي، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر، ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر، ومن أحب عثمان وأبغض عليا لم يسقه عثمان، ومن أحب عليا وأبغض عثمان لم يسقه علي، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحسن القول في عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحسن القول في علي فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، ومن أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن".
#232#
|وأما "صاحب الكوثر"|: فـ"الكوثر" نهر في الجنة.
قال أبو السري هناد بن السري التميمي الكوفي في كتاب "الزهد" -من تأليفه-: حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل، أبيض من الثلج".
تابعه أبو بكر ابن أبي شيبة، عن ابن فضيل.
وحدث به علي بن المديني، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن عطاء ابن السائب قال: قال لي محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جبير في "الكوثر"؟ قلت: قال ابن عباس: هو الخير الكثير.
#233#
فقال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، يجري على الدر والياقوت".
وقال عبد الأعلى بن حماد النرسي: حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه أنبأهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض علي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقال الملك: أتدري ما هذا؟ هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، وضرب بيده إلى أرضه فأخرج من طينه المسك".
وقال محمد بن سليمان لوين الحافظ: حدثنا إسماعيل بن زكريا عن محمد بن عون، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {إنا أعطيناك الكوثر} قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه من لؤلؤ وزبرجد وياقوت، خص الله عز وجل به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
#234#
وحدث به هناد بن السري أيضا، عن أبي الأحوص، عن عطاء بن السائب موقوفا بنحوه.
وقال أبو سعيد النقاش: أخبرنا أبو يعلى الحسين بن محمد الزبيري، حدثني أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد، حدثنا الفضل بن يزيد بن الفضل، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا الأوزاعي، عن واصل، عن أم نجيح -كذا قال- قالت: كنت قاعدة عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت زيدة -جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنها- وكانت من المجتهدات في العبادة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدنيها لما يعلم منها، فقالت: السلام عليك ورحمة الله، يا رسول الله كنت عجنت لأهلي عجينا، فخرجت لأحتطب فإذا برجل نقي الثياب طيب الريح، كأن وجهه دارة القمر ليلة البدر، على فرس أغر محجل، فدنا مني وقال: السلام عليك يا زيدة ورحمة الله وبركاته. فقلت: وعليك السلام ورحمة الله.
قال: هل أنت مبلغة ما أقول؟
قلت: نعم إن شاء الله.
#235#
قال: إذا رأيت محمدا صلى الله عليه وسلم فقولي له: إني لقيت "الخضر" وهو يقرئك السلام ويقول لك: يا محمد، ما فرحت بمبعث نبي ما فرحت بمبعثك، لأن الله تبارك وتعالى أعطاك الأمة المرحومة والدعوة المقبولة، يدخل محسنهم بإحسانهم الجنة، ومسيئهم بشفاعتك يا محمد، وإن الله عز وجل أعطاك نهرا في الجنة طوله طول الجنة، وعرضه أربعون ذراعا، آنيته مثل نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، ألا وإن أنهار الجنة لتفجر من ذلك النهر.
ورواه أبو العباس المستغفري في "الصحابة" عن الخليل، عن محمد بن حمدون، وفي روايته "أم يحيى" بدل "أم نجيح"، وقال: واصل هو مولى أبي عيينة، ولا سماع له من "أم يحيى" انتهى.
وقيل: "الكوثر": حوضه صلى الله عليه وسلم، وقيل: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات الكثيرة، وقيل: النبوة، وقيل: القرآن، وقيل: المعرفة.
وقال هناد بن السري في كتاب "الزهد" حدثنا وكيع، عن بدر بن عثمان، سمعت عكرمة يقول: {إنا أعطيناك الكوثر} قال: ما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من الخير والإسلام والنبوة.
قال: وأراه قال: والقرآن.
#236#
|وأما "صاحب الوسيلة":|
فـ "الوسيلة" قد جاء تفسيرها في الحديث، ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله تعالى لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة".
خرجه مسلم في "صحيحه" عن محمد بن سلمة المرادي، حدثنا ابن وهب، عن حيوة بن شريح وسعيد بن أبي أيوب وغيرهما، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فذكره.
وقوله: "وغيرهما" هو: عبد الله بن لهيعة، والله أعلم.
وقال هناد بن السري في كتاب "الزهد": حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلوا علي؛ فإن الصلاة علي زكاة لكم، وسلوا الله لي الوسيلة". قالوا: يا رسول الله، وما "الوسيلة"؟ قال: "أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو".
#237#
| وأما "الشفيع" و "المشفع":|
فهو من قولهم: شفع فلان في الأمر شفاعة: طلبه بوسيلة أو ذمام، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الشفيع المأمول والمشفع المقبول والشافع المطاع والسائل المجاب صلى الله عليه وسلم.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر وشجر".
| وأما "العلي":|
فهو: الشريف القدر الرفيع الرتبة الجليل المنزلة صلى الله عليه وسلم.
| وأما "المولى":|
فهو: الناصر، في أحد معانيه، وتقدم ذكره.
#238#
| وأما "خليل الرحمن":|
فهو محبه الذي ليس في محبته إياه خلل، المنقطع إليه، قال صلى الله عليه وسلم: "قد اتخذ الله صاحبكم خليلا".
و"الخليل" له معان، ومنها: أن الخليل: المختص [بالله].
| وأما "إمام المتقين":|
فكلهم مقتدون به، راجعون إلى قوله، تابعون هديه وفعله صلى الله عليه وسلم.
| وأما "قائد الغر المحجلين":|
فهم بيض الوجوه واليدين والرجلين من نور الوضوء.
| وأما "حبيب رب العالمين":|
فقد قال علي بن نصر الحلواني: حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد، حدثنا زمعة بن صالح، حدثنا سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جلس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا. وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله موسى تكليما. وقال آخر: فـ "عيسى" كلمة الله وروحه. وقال آخر: "آدم" اصطفاه الله تعالى. قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجي الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر،
#239#
وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله تعالى لي ويدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر".
حدث به كذلك أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي في كتابه "المعاني": عن محمد بن حامد بن سهل، حدثنا علي بن نصر بن علي الحلواني، فذكره.
تابعه أبو عيسى الترمذي فحدث به في "جامعة" عن علي بن نصر.
وقد تقدم بطوله من روايته ورواية غيره، ولله الحمد.
وقال أبو إسماعيل الترمذي: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا مسلمة، أخبرني زيد بن واقد، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى كليما نجيا، واتخذني حبيبا، ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي -عليهم الصلاة والسلام".
"مسلمة" هو: ابن علي الخشني: متروك، وقد خرج له الترمذي وابن ماجه.
وقد فضلوا درجة المحبة، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم على درجة الخلة لمعان.
#240#
وأورد على هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يسمه الله في القرآن حبيبا كما سمى إبراهيم خليلا.
وأجيب عنه:
أنه عز وجل سمى نبينا صلى الله عليه وسلم حبيبا بأبلغ التسمية وألطف الإشارة، فقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فإذا جعل متبعيه أحباءه. فقد استغني بذلك عن ذكره حبيبا؛ لأنه إذا ذكر الأقل صار الأكثر مذكورا على المبالغة والتأكيد، كقوله عز وجل: {فلا تقل لهما أف} فاستغنى بذلك عن ذكر تحريم الضرب والشتم، وعلم يقينا أن الضرب والشتم محرمان لتحريم التأفيف، فلو سمى الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم حبيبا على التصريح لم يعرف كون متابعيه أحباءه، فلما ذكر أن المتبع حبيبا استغنى عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم حبيبا.
ذكره بنحوه أبو الحسين محمد بن يحيى البشاغري في كتابه "عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام".
ومحبة الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم بتفضيله إياه على غيره وإفاضة إنعامه عليه وخيره وتخصيصه بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، وعلو مرتبته في الدنيا والآخرة، وإتمام نعمته عليه بالأجر الجسيم والخير العميم والفضل العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما}.
خرج الترمذي عن مجمع بن جارية قال: قال جعفر بن محمد:
#241#
تمام نعمته عليه صلى الله عليه وسلم: أن جعله حبيبه، وأقسم بحياته، ونسخ به شرائع غيره، وعرج به إلى المحل الأعلى، وحفه في المعراج حتى ما زاغ البصر وما طغى، وبعثه إلى الأسود والأحمر، وأحل له ولأمته الغنائم، وجعله شفيعا مشفعا وسيد ولد آدم، وقرن ذكره بذكره ورضاه برضاه، وجعله أحد ركني التوحيد.
حدث محمد بن عبد الله الحضرمي الحافظ، عن علي بن بهرام، حدثنا عبد الملك بن أبي كريمة، عن عمرو بن قيس، عن عطاء، عن أبي هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "نزل آدم عليه السلام بالهند؛ فاستوحش؛ فنزل جبريل فنادى بالأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله. فقال له: ومن (محمد) هذا؟ فقال: آخر ولدك من الأنبياء - عليه وعليهم الصلاة والسلام-".
وقد ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب نبذة من تفضيل الله إياه وتخصيصه بما لم يعطه أحدا سواه.
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي البيهقي في كتابه "دلائل النبوة": أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن شيبان الرملي، حدثني أحمد بن إبراهيم الحلبي، حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا زهير، عن محارب بن دثار، عن عمرو بن يثربي، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، دعاني إلى
#242#
الدخول في دينك أمارة لنبوتك، رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بأصبعك، فحيث أشرت إليه مال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني كنت أحدثه ويحدثني، ويلهيني عن البكاء، وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش".
تفرد به هذا "الحلبي" وهو مجهول، قاله البيهقي.
و"المناغاة": تكليم الصبي بما يهواه ويسره، يقال: نغيت إليه نغية: ألقيت إليه كلمة.
ومما يندرج فيما خص الله سبحانه به رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام-: ما هيأه له في ميلاده وتربيته ورضاعه من الإكرام، ومنه:
#243#
أن "آمنة" والدته، و"الشفاء" قابلته، و"أم أيمن بركة" حاضنته، و"ثويبة" أول مراضعه، و"حليمة" وافاها السعد بطالعه.
وفي هذا بشارة - إن شاء الله تعالى- لأمته الآخرين السابقين بالأمن والشفاء واليمن والبركة والثواب والحلم من رب العالمين.
#244#
&فصل في: رضاعه، ونشأته، وزواجه، وذكر بعثته مختصرة، ومعراجه&
بلغنا: أن "آمنة" أم النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أرضعته سبعة أيام، ثم أرضعته "ثويبة".
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، عن معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت "ثويبة" مولاة لأبي لهب قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما قبل أن تقدم "حليمة" وأرضعت أبا سلمة بن عبد الأسد معه فكان أخاه من الرضاعة.
وقال قبله: أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي، حدثنا موسى بن شيبة، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن برة بنت أبي تجراة العبدرية رضي الله عنهما قالت: أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثويبة" بلبن ابن لها -يقال له: مسروح- أياما قبل أن تقدم "حليمة"، وكانت قد أرضعت قبله "حمزة بن عبد المطلب"، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
#245#
وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث بكير بن عبد الله بن الأشج، سمعت عبد الله بن الأشج، سمعت عبد الله بن مسلم، سمعت محمد بن مسلم، سمعت حميد بن عبد الرحمن، سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا رسول الله عن بنت حمزة؟ أو قيل: ألا تخطب بنت حمزة بن عبد المطلب؟ قال: "إن حمزة أخي من الرضاعة".
وخرج أيضا من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي الله عنه: قلت: يا رسول [الله] مالك تتوق في قريش وتدعنا؟ قال: "وعندكم شيء؟" قلت: نعم، بنت حمزة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحل لي؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة".
رواه عن الأعمش جرير بن عبد الحميد، وعبد الله بن نمير، ومحمد بن عبيد الطنافسي وغيرهم.
وجاء من حديث سعيد بن المسيب وأبي صالح الحنفي وهانئ بن هانئ وجماعة من أهل الكوفة، رووه عن علي رضي الله عنه.
#246#
ورواه قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان - يعني: الثوري، عن علي بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيب، عن علي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ألا أدلك على أحسن أيم في قريش! قال: "وعندك شيء؟" فقلت: نعم، بنت حمزة. فقال: "إنها ابنة أخي، أما علمت أن الله تعالى حرم من الرضاعة ما حرم من النسب".
ورواه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري، عن الثوري، عن علي بن زيد، عن ابن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره مرسلا.
ورواه مسدد، عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد كذلك.
ورواه محمد بن سعيد بن الأصبهاني، عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي رضي الله عنه: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مسندا.
خالفهم عبد الله بن بكر السهمي فقال: حدثنا سعيد -يعني: ابن أبي عروبة-، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عليا رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.
#247#
وله شاهد من حديث ابن عباس، والبراء بن عازب وأم سلمة رضي الله عنهم.
وقد قيل: إن حمزة رضي الله عنه أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع سنين.
وحكى ابن عبد البر نحوه، قال: وهذا لا يصح عندي؛ لأن الحديث الثابت أن حمزة وعبد الله بن الأسد أرضعتهما "ثويبة" مع رسول الله، إلا أن تكون أرضعتهما في زمانين.
قلت: قد قدمنا حديث برة بنت أبي تجراة، وهو يدل على أن "ثويبة" أرضعت "حمزة" و"أبا سلمة" في زمانين، لكن رواية ابن عباس التي تقدمت قبل فيها: أن أبا سلمة أرضعته "ثويبة" مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن ابن إسحاق: أن "حمزة" أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وهذا أشبه، والله أعلم.
وفي "الصحيحين" من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: قلت: يا رسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان. قال: "أو تحبين ذلك؟"، قلت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني فيك أختي. قال: "إن ذلك لا يحل لي". قالت: فإنا تحدثنا أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أم سلمة؟" قالت: نعم. قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة" الحديث.
تابعه الزهري عن عروة نحوه.
#248#
رواه شعيب وعقيل ومحمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري.
ورواه الليث عن يزيد بن أبي حبيب: أن محمد بن شهاب كتب يذكر أن عروة حدثه: أن زينب بنت أبي سلمة، حدثته أن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثتها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، انكح أختي عزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتحبين ذلك؟". فقالت: نعم يا رسول الله، لست لك بمخلية، وأحب من شركني في خير أختي. وذكر الحديث بنحوه.
خرجه مسلم في "صحيحه"، ورواه من حديث جماعة عن الزهري، وقال: ولم يسم أحد منهم في حديثه "عزة" غير يزيد بن أبي حبيب. انتهى.
وهو عند "يزيد بن أبي حبيب" فيما رواه عنه الليث أيضا عن عراك بن مالك: أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته: أن أم حبيبة قالت: فذكره مختصرا.
و"ثويبة الأسلمية" مولاة لأبي لهب، كانت وهي أمة تدخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تزوج خديجة، فيكرمها وتكرمها خديجة رضي الله عنها.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر عن غير
#249#
واحد من أهل العلم قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة. قال: وكانت خديجة تكرمها وهي يومئذ مملوكة، وطلبت إلى أبي لهب أن يبيعها منها لتعتقها، فأبى أبو لهب، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وكسوة، حتى جاءه خبرها أنها قد توفيت سنة سبع مرجعه من "خيبر"، قال: "ما فعل ابنها مسروح؟" قيل: مات قبلها، ولم يبق من قرابتها أحد.
ووقع في كلام أبي القاسم خلف بن بشكوال في كتابه "الغوامض": أنها توفيت بـ "خيبر".
وقد جاء: أن عتق "ثويبة" كان يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم: فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه "آمنة" جاءت "ثويبة" مولاها أبا لهب فبشرته بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقها من ساعته.
وفي رواية: أن "ثويبة" دخلت على "أبي لهب" وقالت له: أشعرت أن "آمنة" ولدت ولدا؟ فقال لها: "أنت حرة" فهو يخفف عنه العذاب في مثل يوم الاثنين، وذلك لسروره بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وعتقه "ثويبة".
#250#
وقال عروة بن الزبير -فيما ثبت عنه- فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة فقال: ماذا لقيت؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي "ثويبة". وأشار إلى النقرة التي بين الإبهام والتي تليها.
#251#
و"الحيبة" بكسر الحاء المهملة بعدها مثناة من تحت تليها باء موحدة.
قال أبو عمرو بن العلاء: "فلان بحيبة سوء" أي: بحال سوء.
والرائي لأبي لهب هو أخوه العباس رضي الله عنه، وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة "بدر".
وقال أبو بكر ابن أبي الدنيا: حدثني أبو بكر بن سهل التميمي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: رأى أبا لهب بعض أهله في النوم في هذه -وأشار إلى النقرة التي فوق الإبهام- بعتقي "ثويبة". قالت: وكانت أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا سلمة.
#252#
وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا لهب في النار يصيح: "العطش" فيسقى من ثغر في إبهامه، فقلت له: "بم هذا؟" قال: بعتقي ثويبة لكونها أرضعتك.
وقد اختلف في إسلام "ثويبة":
وذكرها غير واحد في الصحابيات.
وقال أبو نعيم أحمد بن عبد الله: لا أعلم أحدا أثبت إسلامها غير ابن منده.
قلت: قال ابن مندة في كتابه "معرفة الصحابة": "ثويبة": مولاة أبي لهب، أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف في إسلامها.
لم يزد على ذلك.
ثم أرضعته فيما أجمعت عليه الأمة: أم كبشة حليمة.
وحكى أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن بعضهم: "حليمة" كما سيأتي إن شاء الله.
#253#
ولم أره لغيره، والصحيح -إن شاء الله-: "حليمة" وهي: بنت أبي ذؤيب: عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان، وهو: إياس بن مضر بن نزار السعدية.
و"سعد بن بكر" من "علياء هوازن" الذين قال فيهم أبو عمرو ابن العلاء أفصح العرب علياء هوازن وسفلى تميم.
وهم بنو دارم.
#254#
و"علياء هوازن" يقال لهم: العجز، وهم أربع قبائل: سعد بن بكر، وجشم ونصر ابنا معاوية بن بكر، وثقيف وهو: قسي بن منبه بن هوازن. وقال بعضهم: هو: منبه بن هوازن.
وأما "سفلى تميم" فهم: بنو دارم بن مالك بن حنظلة: ومجاشع بن دارم، ونهشل بن دارم.
وكانت "حليمة" قدمت "مكة" مع زوجها الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان.
وقيل: هلال بن ناصرة بن فصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن.
وذكر أبو عبد الله القضاعي في "تاريخه": أن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع له من "حليمة" بعد مولده بسبعة أيام. انتهى.
وزعموا أن "حليمة" لما أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم لرضاعه أتاها عبد المطلب حين أرادت أن تخرج برسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه وبرك عليه وشمه، ثم قال:
#255#
رب هذا الراكب المسافر
ورب كل منجد وغابر
محمدا فاقلب بخير طائر
وازجره عن طريقة الفواجر
ونجه من كل خلب عاهر
أخنس ليس قلبه بطاهر
وحية ترصد بالهواجر
وغاسق وحاسد وساحر
إني أراه مكرمي وناصري
وسيد الأحياء والمعاشر
#256#
وروي هذا الرجز بتقديم وتأخير وزيادة، فيما ذكره أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر".
وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" المسمى بـ: "المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها": أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا مسروق بن المرزبان، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر:
عن حليمة -أم رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدية التي أرضعته- قالت: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء في سنة شهباء لم تبق شيئا، ومعي زوجي، ومعنا
#257#
شارف لنا والله إن تبض علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لنا، إن ننام ليلتنا من بكائه، ما في يديه ما يغنيه، فلما قدمنا مكة لم تبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة الرضاعة من والد المولود، وكان يتيما، فكنا نقول: يتيما، ما عسى أن تصنع أمه به؟! حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبيا، غيري، فكرهت أن أرجع ولم آخذ شيئا وقد أخذ صواحبي، فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
قالت: فأتيته فأخذته، ورجعت إلى رحلي.
فقال زوجي: قد أخذتيه؟ فقلت: نعم والله، وذلك إني لم أجد غيره.
فقال: فقد أصبت، فعسى الله أن يجعل فيه خيرا.
قالت: فوالله، ما هو إلا أن جعلته في حجري أقبل عليه ثديي بما شاء الله من اللبن، فشرب حتى روي وشرب أخوه -يعني: ابنها- حتى
#258#
روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا هي حافل، فحلبها من اللبن ما شئنا، وشرب حتى روي، وشربت حتى رويت، وبتنا ليلتنا تلك شباعا رواء، قد نام صبياننا.
قال: يقول أبوه -تعني: زوجها-: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة، قد نام صبينا وروي.
قالت: ثم خرجنا، فوالله لخرجت أتاني أمام الركب، حتى إنهم ليقولون: ويحك، كفي عنا، أليست هذه بأتانك التي خرجت عليها؟
فأقول: بلى والله، وهي قدامنا، حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن بكر، فقدمنا على أجدب أرض الله، فوالذي نفس حليمة بيده، إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي، فتروح بطانا لبنا حفلا، وتروح أغنامهم جياعا هالكة ما بها من لبن.
قالت: فنشرب ما شئنا من اللبن، وما من الحاضر أحد يحلب قطرة ولا يجدها، فيقولون لرعاتهم: ويلكم، ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة. فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه، فتروح أغنامهم جياعا ما بها من لبن، وتروح غنمي لبنا حفلا.
وكان صلى الله عليه وسلم يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة، فبلغ سنتيه وهو غلام جفر.
#259#
قالت: فقدمنا على أمه، فقلت لها وقال لها أبوه: ردي علينا ابني، فلنرجع به، فإنا نخشى عليه وباء مكة.
قالت: فلم نزل حتى قالت: ارجعا به فرجعنا به، فمكث عندنا شهرين.
قالت: فبينما هو يلعب وأخوه يوما خلف البيوت يرعيان بهما لنا، إذ جاءنا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي؛ قد جاءه رجلان فأضجعاه وشقا بطنه.
فخرجنا نشتد، فانتهينا إليه وهو قائم منتقع لونه، فاعتنقه أبوه واعتنقته، ثم قلنا: أي بني؟ قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني ثم شقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا.
قالت: فاحتملناه فرجعنا به.
قالت: يقول أبوه: يا حليمة، ما أرى هذا الغلام إلا قد أصيب، فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه.
قالت: فرجعنا به، فقالت: ما يردكما به وقد كنتما حريصين عليه؟
قالت: فقلت: لا والله، إنا كفلناه وأديناه الحق الذي يجب فيه، ثم تخوفنا الأحداث عليه، فقلنا: يكون في أهله.
فقالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما وخبره.
فوالله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره.
قالت: فتخوفتما عليه، كلا والله، إن لابني هذا شأنا، ألا أخبركما عنه، إني حملت به، فلم أحمل حملا قط كان أخف علي ولا أعظم بركة منه، ثم رأيت نورا كأنه خرج مني حين وضعته- أضاءت لي أعناق الإبل
#260#
بـ "بصرى"، ثم وضعته، فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعا يديه بالأرض رافعا رأسه إلى السماء. دعاه، والحقا بشأنكما.
تابعه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن المقرئ، عن أبي يعلى الموصلي، حدثنا مسروق بن المرزبان الكوفي أبو سعيد والحسن بن حماد ونسخته من حديث مسروق-، قالا: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، فذكره.
قال أبو حاتم: قال وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، حدثنا جهم بن أبي جهم، نحوه.
حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا وهب بن جرير، انتهى.
وهذا يوهم أن رواية جرير بن حازم، كرواية يحيى بن [زكريا بن] أبي زائدة التي خرجها أبو حاتم ابن حبان من طريقه كما تقدم عن ابن
#261#
إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر، عن حليمة.
وليست رواية جرير كذلك، فإن "مغازي ابن إسحاق" التي رواها أبو الفضل محمد بن يحيى بن الفياض الزماني عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق قال فيها: حدثني جهم بن أبي جهم عن عبد الله بن جعفر، أو عمن حدثه عن ابن جعفر قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت "حليمة ابنة الحارث" في نسوة من بني سعد بن بكر، وذكر الحديث بنحوه مطولا.
وقد روى الحديث عن ابن إسحاق جماعة منهم: المحاربي عبد الرحمن بن محمد، وسلمة بن الفضل، ونوح بن أبي مريم أبو عصمة الجامع، عن ابن إسحاق، كنحو رواية ابن أبي زائدة.
ورواه بكر بن سليمان البصري فيما رواه عنه أبو طلحة موسى بن عبد الله الخزاعي عنه، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني جهم بن أبي
#262#
الجهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب أو عمن حدثه عنه قال: كانت "حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية" أم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته تحدث: أنها خرجت من بلدها، وذكر الحديث بطوله.
حدث به أبو بكر محمد بن هارون الروياني في كتابه "الغرر": عن موسى بن عبد الله بن طلحة الخزاعي به.
وحدث به يونس بن بكير الشيباني في "المغازي" عن ابن إسحاق، حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب قال: حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يقول: حدثت عن حليمة، فذكره.
وقال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق، حدثني جهم بن أبي جهم مولى الحارث بن حاطب الجمحي، عن عبد الله بن جعفر أو عمن حدثه عنه: أن حليمة، فذكره.
وهو في كتاب "المبتدأ" لابن إسحاق رواية سعيد بن بزيع عنه، عن جهم عن عبد الله بن جعفر من غير شك.
#263#
وممن رواه عن ابن إسحاق كذلك: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد المحاربي، رواه عن المحاربي: هارون بن موسى السلمي وغيره.
وهذا الحديث يعد من أفراد [ابن] إسحاق فيما قاله الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في كتابه "الأربعين الطوال في دلائل النبوة".
وقال ابن دحية في كتابه "المولد": هو من كنوز محمد بن إسحاق، قد انفرد به، ولا يعرف إلا من طريقه، فأعرضت عن إيراده، وإن كان قد أجمع أهل السير والخبر: أن "حليمة" أرضعته بعد "ثويبة" ورأت له برهانا عظميا. انتهى
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثنا زكريا بن يحيى بن يزيد السعدي، عن أبيه قال: قدم مكة عشر نسوة من بني سعد بن بكر يطلبن الرضاع، فأصبن الرضاع كلهن إلا "حليمة بنت عبد الله بن الحارث" -وذكر نسبها إلى
#264#
"مضر"- قال: وكان معها زوجها الحارث بن عبد العزى، وذكر نسبه إلى "هوازن"، قال: ويكنى "أبا ذؤيب"، وولدها منه: عبد الله بن الحارث، وكانت ترضعه، وأنيسة بنت الحارث، وخذامة بنت الحارث وهي "الشيماء" وكانت هي التي تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمها وتوركه - فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت تقول: يتيم ولا مال له، وما عست أمه أن تفعل، فخرج النسوة وخلفنها، فقالت حليمة لزوجها: ما ترى؟ قد خرج صوادي وليس بمكة غلام يسترضع إلا هذا الغلام اليتيم، فلو أنا أخذناه؛ فإني أكره أن نرجح إلى بلادنا ولم نأخذ شيئا.
فقال لها زوجها: خذيه عسى الله أن يجعل لنا فيه خيرا.
فجاءت إلى الأمة فأخذته منها، فوضعته في حجرها، فأقبل عليه ثدياها حتى تفطرا لبنا، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى روي، وشرب أخوه، ولقد كان أخوه لا ينام من الغرث.
قالت أمه: يا ظئر، سلي عن ابنك، فإنه سيكون له شأن، وأخبرتها بما رأت وما قيل فيه حين ولدته.
#265#
فقالت: قيل لي ثلاث ليال: استرضعي ابنك في بني سعد بن بكر، ثم في آل أبي ذؤيب.
قالت حليمة: فإن أبا هذا الغلام الذي في حجري أبو ذؤيب وهو زوجي.
وطابت نفس حليمة وسرت بما سمعت، ثم خرجت به إلى منزلها فحدجوا أتانهم فركبتها "حليمة"، وحملت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديها، وركب "الحارث" شارفهم، فطلعا على صواحبها بوادي السرر وهن مرتعات، وهما يتواهقان فقلن: يا حليمة، ما صنعت؟
قالت: أخذت والله خير مولود رأيته قط وأعظمه بركة.
قال النسوة: أهو ابن عبد المطلب؟ قالت: نعم.
قالت: فما رحلنا من منزلنا ذلك حتى رأيت الحسد من بعض نسائنا.
قال: وحدثنا محمد بن عمر قال: وذكر بعض الناس: أن "حليمة" لما خرجت برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادها قالت آمنة بنت وهب:
أعيذه بالله ذي الجلال
من شر ما مر على الجبال
حتى أراه حامل الكلال
ويفعل العرف إلى الموالي
وغيرهم من حشوة الرجال
وقال: حدثنا محمد بن عمر عن أصحابه قالت: فمكث عندهم
#266#
سنتين حتى فطم، وكأنه ابن أربع سنين، فقدموا به على أمه زائرين لها، وأخبرتها "حليمة" خبره وما رأوا من بركته.
فقالت "آمنة": ارجعي بابني، فإني أخاف عليه وباء مكة، فوالله ليكونن له شأن.
فرجعت به، فلما بلغ أربع سنين كان يغدو مع أخيه وأخته في البهم قريبا من الحي، فأتاه الملكان هناك، فشقا بطنه واستخرجا علقة سوداء، وغسلا بطنه بماء الثلج في طشت من الذهب، ثم وزن بألف من أمته فوزنهم، فقال أحدهما للآخر: دعه، فلو وزن بأمته كلها لوزنهم.
وجاء أخوه يصيح بأمه: أدركي أخي القرشي.
فخرجت أمه تعدو، ومعها أبوه، فيجدان رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقع اللون، فنزلت به إلى "آمنة بنت وهب" وأخبرتها خبره.
وقالت: إنا لا نرده إلا على جدع أنفنا.
ثم رجعت به أيضا، فكان عندها سنة أو نحوها، لا تدعه يذهب مكانا بعيدا، ثم رأت غمامة تظله، إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك أيضا من أره، فقدمت به إلى أمه ليرده وهو ابن خمس سنين، فأظلها في الناس، فالتمسته فلم تجده، فأتت عبد المطلب، فأخبرته، فالتمسه عبد المطلب فلم يجده، فقام عند الكعبة، فقال:
لاهم أد راكبي محمدا
#267#
أده إلي واصطنع عندي يدا
أنت الذي جعلته لي عضدا
لا يبعد الدهر به فيبعدا
أنت الذي سميته محمدا
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: لما قدمت "حليمة" قدم معها زوجها وابن لها صغير ترضعه يقال له: عبد الله، وأتان قمراء وشارف لهم عجفاء قد مات سقبها من العجف، ليس في ضرع أمه قطرة لبن، فقالوا: "نصيب ولدا نرضعه"، ومعها نسوة سعديات، فقدمن فأقمن أياما، فأخذن ولم تأخذ "حليمة"، وعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "يتيم لا أب له"، حتى كان آخر ذلك أخذته، وخرج صواحبها قبلها بيوم، فقالت آمنة: يا حليمة، أعلمي أنك قد أخذت مولودا له شأن، والله لحملته فما كنت أجد كما تجد النساء من الحمل، ولقد أتيت فقيل لي: إنك ستلدين غلاما، فسميه "أحمد"، وهو سيد العالمين، ووقع معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء.
#268#
قال: فخرجت حليمة إلى زوجها، فأخبرته، فسر بذلك، وخرجوا على أتانهم منطلقة، وعلى شارفهم قد درت اللبن، وكان يحلبون منها غبوقا وصبوحا، فطلعت على صواحبها، فلما رأينها قلن: من أخذت؟ فأخبرتهن، فقلن: والله، إنا لنرجو أن يكون مباركا.
قالت حليمة: قد رأينا بركته، كنت لا أروي ابني "عبد الله" لا يدعنا ننام من الغرث، فهو وأخوه يرويان ما أحبا وينامان، ولو كان معهما ثالث لروي، وقد أمرتني أمه أن أسأل عنه ورجعت به إلى بلادها، فأقامت به حتى قامت "سوق عكاظ"، فانطلقت برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تأتي به إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم.
قالت: فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب.
فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم، فقال: "اقتلوا هذا الصبي"، فانسلت به "حليمة".
فجعل الناس يقولون: أي صبي؟ فيقول: هذا الصبي. فلا يرون شيئا، قد انطلقت به أمه، فيقال له: ما هو؟
فقال: ما رأيت غلاما، وآلهته ليقتلن أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم.
فطلب بـ "عكاظ" فلم يوجد، فرجعت به "حليمة" إلى منزلها، فكان بعد لا تعرضه لعراف ولا أحد من الناس.
#269#
وقال: أخبرنا محمد بن عمر: حدثني زياد بن سعد، عن عيسى بن عبد الله بن مالك قال: جعل الشيخ الهذيلي يصيح: يا لهذيل وآلهته، إن هذا لينتظر أمرا من السماء.
قال: وجعل يغري بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينشب أن دله، فذهب عقله حتى مات كافرا.
وقد روى الأموي أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص حديث الرضاع عن أبي الهيثم سعيد بن قطن العامري، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، عن سعيد بن المسيب وعن غيره: أن عبد المطلب لما فرغ من أمر بنيه ونذره.
وذكر القصة مطولة من الزواج والحمل والرضاع وغير ذلك بألفاظ منكرة ووقائع مفتعلة، أضربنا عن ذكرها لاطراحها وبطلانها.
ومن نمط ذلك وشكله: ما قال الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه "دلائل النبوة".
وقد روى محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس عن حليمة هذه القصة بزيادات كثيرة، وهي لي مسموعة، إلا أن محمد بن زكريا هذا
#270#
متهم، والاقتصار على ما هو معروف عند أهل المغازي أولى، والله اعلم.
ثم إني استخرت الله تعالى في إيراده، فوقعت الخيرة على إلحاقه بما تقدمه، ثم ساقه البيهقي بإسناده إلى محمد بن زكريا الغلابي.
وهو في "الأول من الأحاديث الهاشميات" جمع محمد بن زكريا بن دينار الغلابي المذكور فقال: حدثنا يعقوب -هو: ابن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، حدثني أبي، عن أبيه -يعني: سليمان بن علي-، عن علي بن عبد الله -يعني: ابن عباس-، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كانت حليمة بنت أبي ذؤيب التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم تحدث: أنها لما فطمت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: سمعته يقول كلاما أعجبنا، سمعته يقول: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا"، فلما ترعرع كان يخرج فينظر إلى الصبيان يلعبون، فيجتنبهم.
فقال لي يوما من الأيام: "ما لي لا أرى إخوتي بالنهار؟" قالت: قلت: فدتك نفسي، يرعون غنما لنا، يجيئون من ليل إلى ليل.
قالت: فأرسل عينيه فبكى وقال: "يا أمه، فما أصنع أنا هاهنا وحدي، ابعثيني معهم".
قلت: أو تحب ذلك؟ قال: "نعم".
قالت: فلما أصبح دهنته وكحلته وقمصته وعمدت إلى خرزة جزع يمانية فعلقتها عليه من العين، وأخذ عصا وخرج مع إخوته، فكان يخرج مسرورا ويرجع مسرورا، فلما كان يوما من ذلك خرجوا يرعون
#271#
بهما لنا حول بيوتنا، فلما انتصف النهار إذا أنا بابني -في رواية-، وفي رواية البيهقي: قال ضمرة: يعدو فزعا وجبينه يرشح، قد علاه البهر باكيا. ينادي: "يا أمه" و"يا أبه" أدرك أخي محمدا، فما تلحقاه إلا ميتا.
فقلت له: وما قصته؟ قال: بينما نحن قيام نترامى ونلعب إذ أتاه رجل فاختطفه من أوساطنا وعلا به ذروة الجبل، ونحن ننظر إليه، حتى شق من صدره إلى عانته، ولا أدري ما فعل به، ولا أظنكما تلحقانه إلا ميتا.
قالت: فأقبلت أنا وأبوه -تعني: زوجها- نسعى سعيا، فإذا نحن به قاعد على ذروة الجبل متربص، شاخص ببصره نحو السماء ويتبسم ويضحك، فأكببت عليه وقبلت بين عينيه وقلت: فدتك نفسي، ما الذي دهاك؟
قال: "خير يا أماه، بينا أنا الساعة قائم مع إخوتي إذ أتاني رهط ثلاثة، بيد أحدهم إبريق فضة، وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء ملأها ثلجا، فأخذوني فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل، فأضجعني بعضهم على الجبل إضجاعا لطيفا، ثم شق من صدري إلى عانتي وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك حسا ولا ألما، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج، فأنقى غسلها، ثم أعادها مكانها.
وقام الثاني فقال للأول: تنح فقد أنجزت ما أمرك الله تعالى به. ثم دنا مني فأدخل يده جوفي فانتزع قلبي وشقه وأخرج منه نكتة سوداء مثلوثة بالدم، فرمى بها وقال: هذا حظ الشيطان منك يا حبيب الله. ثم حشاه
#272#
بشيء كان معه ورده مكانه وختمه بخاتم من نور. فأنا الساعة أجد برد الخاتم في عروقي ومفاصلي.
وقام الثالث فقال: تنحيا، فقد أنجزتما ما أمركما الله به. ثم دنا الثالث مني فأمر يده على ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم الشق وأنا أنظر إليه، ثم قال الملك: زنوه بعشرة من أمته. فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بمائة. فوزنوني فرجحتهم، فقال: زنوه بألف. فوزنوني فرجحتهم، فقال: دعوه؛ فلو وزنتموه بأمته كلها لرجح بهم. ثم أخذ بيدي فأنهضني إنهاضا لطيفا، ثم أكبوا علي فقبلوا رأسي وما بين عيني فقالوا: يا حبيب الله، إنك لم تراع، ولو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك.
وتركوني قاعدا في مكاني هذا، ثم جعلوا يطيرون طيرانا حتى دخلوا خلال السماء وأنا أنظر إليهم، فلو شئت لأريتك موضع دخولهم".
قالت: فاحتملته فأتيت به منزلا من منازل بني سعد بن بكر، فقال لي الناس: اذهبي به إلى الكاهن حتى ينظر إليه ويداويه.
فقال: ما بي شيء مما تذكرون، وإني أرى نفسي سليمة وفؤادي صحيحا بحمد الله.
قال: فقال الناس: أصابه لمم أو طائف من الجن.
#273#
قالت: فغلبوني على رأيي، فانطلقت به إلى الكاهن، فقصصت عليه القصة، قال: دنيني أسمع أنا منه؛ فإن الغلام أبصر بأمره منكم، تكلم يا غلام.
قالت حليمة: فقص ابني محمد صلى الله عليه وسلم القصة ما بين أولها إلى آخرها، فوثب الكاهن قائما على قدميه، فضمه إلى صدره ونادى بأعلى صوته: يال العرب من شر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه؛ فإنه إن تركتموه وأدرك مدارك الرجال ليسفهن أحلامكم وليكذبن أديانكم، وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه ودين تنكرونه.
قالت: فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت: لأنت أعته وأجن من ابني، ولو علمت أن هذا يكون من قولك ما أتيتك به، اطلب لنفسك من يقتلك، فإنا لا نقتل محمدا صلى الله عليه وسلم.
فاحتملته فأتيت به منزلي، فما يعلم الله ما بقي منزل من منازل بني سعد بن بكر إلا وقد شممنا منه ريح المسك الأذفر، وكان في كل يوم ينزل عليه رجلان أبيضان، فيغيبان في ثيابه ولا يظهران، فقال الناس: رديه يا "حليمة" على جده "عبد المطلب"، وأخرجيه من أمانتك.
قالت: فعزمت على ذلك، فسمعت مناديا ينادي: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والبهاء والكمال، وقد أمنت أن تخذلين أو تخزيين أبد الآبدين ودهر الداهرين.
قالت: فركبت أتاني وحملت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي، وأقبلت أسير حتى أتيت إلى الباب الأعظم - من أبواب مكة- وعليه جماعة مجتمعون، هدة شديدة، فالتفت فلم أره.
فقلت: معاشر الناس، أين الصبي؟
قالوا: أي الصبيان؟
#274#
قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله به وجهي وأغنى عيلتي وأشبع جوعتي، ربيته حتى إذا أدركت به سروري وأملي أتيت به أرده وأخرج من أمانتي اختلس من بين يدي قبل أن تمس قدماه الأرض، واللات والعزى، لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل، ولأنقطعن إربا.
فقالوا: إنا لنراك عائفة، من أين كان معك "محمد"؟!
قالت: قلت: الساعة كان بين أيديكم.
قالوا: ما رأينا شيئا.
فلما أيسوني وضعت يدي على أم رأس وقلت: وا محمداه، وا ولداه. فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضج الناس معي بالبكاء حزنا لي، فإذا أنا بشيخ كالفاني متوكئا على عكازة له، فقال لي: ما لي أراك تبكين أيتها السعدية وتصيحين.
قالت: فقلت: فقدت ابني "محمدا".
قال: لا تبكين، أنا أدلك على من يعلم علمه وإن شاء أن يرده عليك فعل.
قالت: قلت: نعم، دلني عليه.
قال: الصنم الأعظم هو العالم بمكانه، اذهبي إليه، فإن شاء أن يرده رده.
قالت: فزجرت الشيخ وقلت: ثكلتك أمك، كأنك لم تر ما نزل باللات والعزى في الليلة التي ولد فيها "محمد" صلى الله عليه وسلم!
فقال: إنك تهذين ولا تدرين ما تقولين، أنا أدخل إليه فأسأله أن يرده عليك.
قالت حليمة: فدخل وأنا أنظر إليه، فطاف بـ "هبل" أسبوعا وقبل رأسه ونادى: يا سيداه، لم تزل شفقتك على قريش قديمة، وهذه السعدية تزعم أن ابنها "محمدا" قد ضل، فاردده.
#275#
قالت: فانكب "هبل" على وجهه وتساقطت الأصنام بعضها على بعض، ونطقت أو نطق منها ناطق فقال: إليك عنا أيها الشيخ فإنما هلاكنا على يدي "محمد".
قالت: فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكا ولركبتيه ارتعادا، وقد ألقى عكازه من يده وهو يبكي ويقول: يا "حليمة"، لا تبكين فإن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل.
قالت: فخفت أن يبلغ الخبر "عبد المطلب" قبلي، فقصدت قصده، فلما نظر إلي قال: أسعد نزل بك أم نحس؟
قالت: قلت: النحس الأعظم. ففهم مني وقال: لعل ابنك ضل منك؟
قالت: قلت: نعم.
فظن أن بعض قريش قد اغتاله فقتله، فسل عبد المطلب سيفه وغضب، وكان إذا غضب لم يثبت له أحد من شدة غضبه، ونادى بأعلى صوته: يا لغالب - وكانت دعوتهم في الجاهلية.
فأجابته قريش بأجمعها وقالت ما قصتك يا أبا الحارث؟
فقال: فقد ابني "محمد".
فقالت قريش: إن ركبت ركبنا معك، وإن تسنمت جبلا تسنمناه معك، وإن خضت بحرا خضناه معك.
قالت: فركب وركبت معه قريش، فأخذ أعلى مكة، وانحدر على أسفلها، فلم ير شيئا، فنزل الناس، واتشح ببرد وارتدى برداء آخر، وأقبل إلى البيت الحرام فطاف به أسبوعا وأنشأ يقول:
يا رب، رد راكبي محمدا ... اردده رب واتخذ عندي يدا
#276#
إن محمدا لم يوجد ... فجمع قومي مبدد
فسمعنا مناديا ينادي من جوف الهواء: معاشر الناس، لا تضجوا؛ فإن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربا لا يخذله ولا يضيعه.
فقال عبد المطلب: يا أيها الهاتف، من لنا به؟ وأين هو؟
قال: بوادي "تهامة" عند شجرة التمني.
فأقبل عبد المطلب راكبا، فلما صار في بعض الطريق تلقاه "ورقة بن نوفل" فسارا جميعا، فبينما هم كذلك إذ النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يجذب أغصانها ويعبث بالورق.
فقال عبد المطلب: من أنت يا غلام؟
قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
فقال عبد المطلب: فدتك نفسي، وأنا جدك عبد المطلب.
ثم احتمله وعانقه ولثمه وضمه إلى صدره، وجعل يبكي، ثم حمله على قربوص سرجه ورده إلى مكة، فاطمأنت قريش، فلما سكن الناس نحر عبد المطلب عشرين جزورا وذبح الشاء والبقر، وعمل طعاما وأطعم أهل مكة.
قالت حليمة: ثم جهزني عبد المطلب أحسن الجهاز، فانصرفت إلى منزلي وأنا بكل خير من الدنيا لا أحسن أصفه، وصار محمد صلى الله عليه وسلم عند جده.
قالت حليمة: وحدثت عبد المطلب حديثه كله، فضمه إلى صدره
#277#
وبكى وقال: يا حليمة، إن لابني شأنا ، وددت أني أدركت ذلك الزمان.
وقال أبو القاسم السهيلي: وذكر غير ابن إسحاق في حديث الرضاع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل إلا على ثديها الواحد -يعني: حليمة-، وتعرض عليه الآخر فيأباه، كأنه قد أشعر أن معه شريكا في لبانها، وكان مفطورا على العدل مجبولا على جميل المشاركة والفضل صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الغرفي في كتابه "المولد": وذكر أبو بكر وكيع في كتاب "الشريعة": أن حليمة ظئر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها أمه آمنة بنت وهب الزهرية حين دفعته إليها للرضاع: استوصي به خيرا، فإنه إن يعش فسيكون له شأن.
فقالت حليمة: وما عسى أن يكون من شأنه وهو يتيم؟
فقالت: إني حملت منه ما لم تحمل النساء في بطونهن، فلم أجد به ثقلا، وأشرقت الجبال لوضعه، ثم لما هوى على الأرض اتقاها بيده فلم
#278#
يتترب وجهه، وأكفأنا عليه برمة فانفلقت عنه شقتين، فأصبح يتأمل السماء بعينيه، ووجدت وأنا حامل به عند رأسي كتابا فيه: إنك ستلدين ابنا فسميه "محمدا"، فإن اسمه في التوراة "أحمد"، واحذري عليه اليهود.
قال: فأخذته حليمة، فسمعها عبد المطلب وهي تقول:
يا رب هذا الراكب المسافر
ورب كل منجد وغابر
محمد اقلب بخير طائر
وازجره عن طريقة الفواجر
[ونجه من كل خلب عاهر
أخلس ليس قلبه بطاهر][3]
وحية ترصد بالهواجر
وغاسق وحاسد وساحر
إني أراه مكرمي وناصري
وسيد الأحياء والمعاشر
ومن أحواله الغريبة وشئونه العجيبة وأموره العظيمة عند مرضعته حليمة:
ما قال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد بدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته، فقالت: أفي هذا الحر؟! فقالت أخته: يا أمه،
#279#
ما وجد أخي حرا، رأيت غمامة تظل عليه، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت معه حتى انتهى إلى هذا الموضع.
وقد تقدم من رواية الواقدي عن أصحابه: أن حليمة رأت الغمامة تظله، إذا وقف وقفت وإذا سار سارت.
$[سياق ما روي في رعي النبي صلى الله عليه وسلم للغنم]:$
ومنها: رعي الغنم، وتقدم في حديث عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما.
وروى يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود منه؛ فإنه أطيبه"، قلنا: وكنت ترعى الغنم؟ قال: "وهل من نبي إلا وقد رعاها".
متفق عليه من حديث يونس، رواه الليث وابن وهب وغيرهما عن يونس.
وخرجه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه" فقال: أخبرنا عمر بن محمد بن محمد الهمداني، حدثنا بندار، حدثنا عثمان بن عمر، أخبرنا يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نجتني الكباث، فقال: "عليكم بالأسود منه
#280#
فإنه أطيبه، وإني كنت آكله زمن كنت أرعى"، قالوا: يا رسول الله، وكنت ترعى؟ فقال: "وهل بعث نبي إلا وهو راع".
تابعه ابن سعد، فرواه في "الطبقات الكبرى" عن عثمان بن عمر بن فارس بنحوه.
ورواه محمد بن سهم ومصعب بن سعيد، عن عيسى بن يونس، عن مسعر، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم من ثمر الأراك بما اسود منه؛ فإني كنت أجتبيه وأنا أرعى الغنم.."، وذكر الحديث.
وقال أبو الحسن الدارقطني في كتاب "العلل": والصحيح: عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة مرسلا.
وقال أيضا: وقول من قال: عن أبي سلمة عن أبيه وهم. انتهى.
قلت: وما صححه الدارقطني رواه وكيع بن الجراح في كتابه في "الزهد" فقال: حدثنا مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم مروا بثمر الأراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بما اسود منه"، قال: "فلقد رأيتني أجتنيه وأنا أرعى الغنم"، فقالوا: يا رسول الله، أو رعيت؟ قال: "نعم، وما من نبي إلا وقد رعى".
#281#
وصح من حديث عمرو بن يحيى بن سعيد، عن جده: سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
خرجه البخاري في "صحيحه" منفردا به، فقال: حدثنا أحمد بن محمد المكي، حدثنا عمرو بن يحيى، فذكره.
و "أحمد" هذا هو ابن محمد بن الوليد بن عقبة بن الأزرق بن عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني أبو الوليد، ويقال: أبو محمد الأزرقي المكي، وحفيده: أبو الوليد محمد بن عبد الله الأزرقي صاحب "أخبار مكة المشرفة".
وحدث بهذا الحديث أبو محمد سويد بن سعيد بن سهل بن شهريار الهروي الأنباري الحدثاني عن عمرو بن يحيى نحوه.
ورواه محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى" عن سويد والأزرقي كليهما.
وفي رواية غير ابن سعد عن سويد: أنه قال في آخر الحديث: يعني كل شاة بقيراط.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي: "قراريط" موضع، ولم يرد بذلك القراريط من الفضة.
#282#
قال أبو الفضل محمد بن ناصر: وهذا هو الصحيح، وأخطأ سويد في تفسيره. انتهى.
وفي بعض طرقه ما يعضد هذا، وهو: ما خرجه أبو القاسم بن عساكر في "فضل الاكتساب" عن أبي هريرة مرفوعا: "ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم"، قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: "وأنا كنت أرعى لأهل مكة بالقراريط".
وحدث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عبيدة النصري قال: تفاخر رعاء الإبل ورعاء الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوطأهم رعاء الإبل غلبة، قالوا: وما أنتم يا رعاء الغنم؟! هل تحمون أو تصيدون؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فتكلم فقال: "بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد"، فغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقع في هذه الرواية "عبيدة"، والمشهور: "عبدة" وهو: ابن حزن
#283#
النصري، عد في الصحابة، وذكر بعضهم أنه لا تصح له صحبة، وقيل في اسمه: "عبيدة" كما في هذه الرواية، وقيل: "بشر"، وقيل: "نصر".
و "يونس بن عمرو" هو: ابن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي الكوفي.
وحدث بالحديث النسائي في "سننه": عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن ابن حزن قال: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث موسى وهو راعي غنم"، وذكر الحديث.
وحدث به أبو داود الطياليسي في "مسنده" فقال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن بشر بن حزن النصري قال: افتخر أصحاب الإبل وأصحاب الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعث داود وهو راعي غنم، وبعث موسى وهو راعي غنم، وبعثت أنا، وأنا راعي غنم لأهلي بجياد".
#284#
وجاء عن أبي إسحاق من قوله، وذلك فيما قاله محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق قال: كان بين أصحاب الغنم وأصحاب الإبل تنازع، فاستطال أصحاب الإبل، قال: فبلغنا -والله أعلم-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بعث موسى عليه السلام وهو راعي غنم، وبعث داود عليه السلام وهو راعي غنم، وبعثت أنا وأنا راعي غنم أهلي بأجياد".
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا أبي وشعيب بن الليث قالا: أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثنا مخلد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن أمية البصري، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث نبي إلا رعى الغنم"، قال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: "نعم، كنت أرعاها لأهل مكة بالعوارض".
فعلى هذا، كان رعيه صلى الله عليه وسلم الغنم مرتين" مرة عند ظئره "حليمة"، ومرة في "مكة" لأهلها.
قال أبو الوفاء ابن عقيل: لما كان الرعي يحتاج إلى سعة خلق وانشراح صدر لمداراة، وكان الأنبياء عليهم السلام معدين لإصلاح الأمم، حسن هذا في حقهم.
#285#
$[سياق ما روي في شرح صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم]:$
ومن أحواله صلى الله عليه وسلم عند "حليمة" أيضا: شرح الصدر وتطهيره من حظ الشيطان:
قال أبو الفرج ابن الجوزي:
فإن قيل: فلم لم يولد مطهر القلب من حظ الشيطان حتى شق صدره وأخرج قلبه وولد مقطوع السرة مختونا؟ قال ابن عقيل: لأن الله تعالى أخفى أدون التطهيرين الذي جرت العادة أن تفعله القابلة والطبيب، وأظهر أشرفهما وهو القلب، فأظهر آثار التبجيل والعناية والعصمة في طرقات الوحي.
ولما ذكر أبو القاسم السهيلي رحمه الله حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي سيأتي إن شاء الله تعالى في شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما" قال: فبين أن الذي التمس فيه هو: الذي يغمزه الشيطان من كل مولود، إلا عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام لقول حنة - أمهما-: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} فلم يصل إليهما لذلك، ولأنه لم يخلق من مني الرجال، فأعيذ من مغمزه، وإنما خلق -عليه الصلاة والسلام- من نفخة روح القدس.
ولا يدل هذا على فضل "عيسى" على "محمد" صلى الله عليه وسلم، [لأن محمدا
#286#
صلى الله عليه وسلم] قد نزع منه ذلك المغمز [وملئ قلبه حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد، وإنما كان] ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني والشهوات، يحضرها الشيطان، لاسيما شهوة من ليس بمؤمن، فكان ذلك المغمز فيه راجعا إلى الأب لا إلى الابن المطهر صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وشرح صدره صلى الله عليه وسلم تقدم في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، وقد روي من وجوه عديدة وطرق جمة من حديث: أبي بن كعب، وأنس بن مالك، وأبي ذر، وشداد بن أوس، وعتبة بن عبد، وغيرهم رضي الله عنهم.
#287#
$[رواية أنس بن مالك في شق صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم]:$
صح عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق صدره، وفي رواية: فشق عن قلبه، فاستخرج القلب واستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني: ظئره- فقالوا: إن "محمدا" قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وكنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
خرجه مسلم في "صحيحه" لحماد.
وجاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن الصلاة فرضت بالمدينة، وإن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه، فأخرجا حشوته في طست من ذهب، فغسلاه من ماء زمزم، ثم كبسا جوفه حكمة وعلما.
رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه. وهذا في قصة الإسراء. وهو في "الصحيحين" من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس.
ومن طريق الزهري، عن أنس، عن أبي ذر.
#288#
ومن رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة:
وسيأتي في قصة الإسراء إن شاء الله تعالى.
$[رواية يحيى بن جعدة في شق الصدر]:$
وحدث يونس بن بكير الشيباني، عن أبي سنان الشيباني، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد، فشرح أحدهما صدري، ومج الآخر بمنقاره فيه فغسله".
$[رواية عتبة بن عبد في شق الصدر]:$
وروى بقية بن الوليد، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان،
#289#
عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد أنه حدثهم: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان شأنك يا رسول الله؟ قال: "كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا، فقلت: يا أخي، اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا.
فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم. فأقبلا يبتدراني فأخذاني فسطحاني للقفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقتين سوداوين.
فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج، فغسلا به جوفي.
ثم قال: ائتني بماء برد. فغسلا به قلبي.
ثم قال: ائتني بالسكينة. فذرها في قلبي.
ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه. فخاطه وختم على قلبه بخاتم النبوة.
فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة، واجعل ألفا من أمته في كفة. فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أخشى أن يخر علي بعضهم.
#290#
فقال: لو أن أمتك وزنت به لمال بهم.
ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد ألبس بي.
فقالت: أعيذك بالله. فرحلت بعيرا لها وحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أديت أمانتي وذمتي. وحدثتها بالذي لقيت، فلم يرعها، وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام".
خرجه الإمام أحمد والدارمي في "مسنديهما" وأبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة".
ورواه عباس بن محمد، عن يحيى بن معين في "تاريخه": حدثنا علي بن معبد، حدثنا بقية، عن بحير بن سعد، فذكره بنحوه، وعنده: قال: قال أحدهما لصاحبه: حصه. فحاصه.
قال عباس: فوقي، أخشى أن يخر يعني يحصه: يخيطه.
#291#
$[رواية خالد بن معدان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: أخبرنا عن نفسك. قال: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، بينما أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب ممتلئ ثلجا، فأضجعاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه رداه كما كان.
#292#
ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته. فوزنني بعشرة فوزنتهم.
ثم قال: زنه بمائة. فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنتهم.
ثم قال: دعه عنك، فلو وزنت بأمته لوزنهم".
خرجه الحاكم في "مستدركه"، وعنده: عن خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. الحديث.
$[رواية يونس بن حلبس]:$
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مروان بن جناح، عن يونس بن حلبس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني ملك بطست من ذهب، فشق عن بطني، فاستخرج حشوة جوفي، فغسلها ثم ردها، ثم قال: قلب وكيع يعي ما وضع فيه، عيناك بصيرتان وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول الله المصطفى المقض الحاشر، قلبك سليم، ولسانك صادق ونفسك مطمئنة، وخلقك قثماء، أنت قثم".
#293#
قال مروان: "القثم": السري.
وحدث به هشام أيضا عن الوليد بن مسلم، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني ملك، فشق عن قلبي، فاستخرج منه غددا"، وقال: "قال: قلب وكيع يعي ما وضع فيه، عيناه بصيرتان، وأذناه سميعتان، أنت رسول الله المقفى الحاشر، قلبك سليم، ولسانك صادق، وخلقك قثم، ونفسك مطمئنة، أنت قثم".
وروى عبد الرزاق في كتابه "المغازي": عن معمر، عن الزهري أنه قال: ثم شب -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- عندها -يعني: عند حليمة- حتى سعى وأخته من الرضاعة تحضنه، جاءت [أخته] من أمه التي ترضعه فقالت: أي أمتاه، إني رأيت رهطا أخذوا أخي آنفا، فشقوا بطنه.
فقامت أمه التي ترضعه فزعة حتى تأتيهن فإذا هو جالس ينتقع لونه، لا ترى عنده أحدا، فأتت به حتى أقدمته على أمه، فقالت لها: اقبضي عني ابنكم، فإني قد خشيت عليه.
فقالت أمه: لا والله ما بابني ما تخافين، لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام، ولقد ولدته حين ولدته فخر معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء.
#294#
وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر هذه القصة مطولة في كتابه "أنباء نجباء الأبناء" فقال: قال شداد بن أوس رضي الله عنهما: بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم أقبل شيخ من بني عامر وهو مدرة قومه -يعني: الدافع عنهم بمقاله وفعاله- مر شيخ، يتوكأ على عصى، فمثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبه إلى جده فقال: يا ابن عبد المطلب، إني أنبئت أنك تزعم أنك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، ألا وإنك تفوهت بعظيم، وإنما كانت الأنبياء [والخلفاء] في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فمالك والنبوة؟! ولكن لكل حق حقيقة، فائتني بحقيقة قولك وبدو شأنك.
قال: فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بمسألته وقال له: "يا أخا بني عامر، إن لهذا الحديث الذي سألتني عنه نبأ ومجلسا، فاجلس"، فثنى رجله ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، فقال له: "يا أخا بني عامر، إن حقيقة قولي وبدو شأني أني دعوة أبي إبراهيم، وبشر بي أخي عيسى، وأني كنت بكر أبي وأمي، وإنها حملتني كأثقل ما يحمل النساء، وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمي رأت في المنام
#295#
أن الذي في بطنها خرج نورا، قالت: فجعلت أتبع بصري النور، والنور يسبق بصري حتى أضاء لي مشارق الأرض ومغاربها، ثم إنها ولدتني، فنشأت وقد بغضت إلي أوثان قريش، وبغض إلي الشعر وكنت مسترضعا في بني سعد بن بكر، فبينما أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان، إذا أنا برهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملآن ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي، فخرج أصحابي هربا، حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم أقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام، فإنه ليس منا، هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضع فينا، وهو غلام يتيم ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله؟ وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بد قاتليه، فاختاروا منا أينا شئتم، فيأتيكم مكانه، فاقتلوه، ودعوا هذا الغلام، فإنه يتيم.
فلما رأى الصبيان أن القوم لا يحيرون جوابا، انطلقوا هرابا مسرعين إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم.
#296#
فعمد أحدهم فأضجعني إضجاعا لطيفا، ثم شق بطني ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسا، ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج وأنعم غسلها، ثم أعادها مكانها.
ثم قام الثاني منهم قال لصاحبه: تنح، فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي، فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه، فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سواء، ثم رمى بها، ثم قال بيده يمنة منه، كأنه يتناول شيئا، فإذا بخاتم في يده يمنةً منه، كأنه يتناول شيئاً، فإذا بخاتم في يده من نور يحار الناظر دونه، فختم به قلبي، فامتلأ نورا، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا.
ثم قال الثالث: تنح، فنحاه عني، وأمر بيده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله، ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضا لطيفا، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشرين من أمته. فوزنني فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته. فوزنني فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته. فوزنني فرجحتهم، فقال: دعوه، فلو وزنتموه بأمته كلهم لرجحهم".
قال: "فانكبوا علي، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني -يعني: الملائكة- وقالوا: لا ترع، فإنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك".
قال: "فبينما نحن كذلك أقبل الحي بحذافيرهم وظئري أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه".
#297#
قال: "فانكبوا علي، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي وما بين عيني -يعني الملائكة- وقالوا: حبذا أنت من ضعيف.
ثم قالت ظئري: يا وحيداه"
قال: فانكبوا علي، وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي، وما بين عيني -يعني: الملائكة- وقالوا: حبذا أنت من وحيد، وما أنت بوحيد؛ إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض.
ثم قالت ظئري: يا يتيماه! استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك.
فانكبوا علي وضموني إلى صدورهم، وقبلوا رأسي، وما بين عيني -يعني: الملائكة- وقالوا: حبذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله! ولو تعلم ما يراد بك من الخير لقرت عيناك".
قال صلى الله عليه وسلم: "فوصلوا إلى شفير الوادي" -يعني: الحي.
قال: "فلما أبصرتني ظئري قالت: ألا أراك حيا بعد! فجاءت حتى انكبت علي ثم ضمتني إلى صدرها، فوالذي نفسي بيده، إني لفي حجرها قد ضمتني إليها، وإن يدي لفي يد بعضهم" -يعني: بعض الملائكة.
قال: "فجعلت أنظر إليهم، فظننت أن القوم يبصرونهم، فقال بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهنا حتى ينظر إليه ويداويه".
قال صلى الله عليه وسلم: "فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن أرابي سليمة وفؤادي صحيح ليست بي قلبة. فقال أبي -وهو زوج ظئري-: ألا ترون كلامه، كلام صحيح، إن لأرجو أن لا يكون بابني بأس.
#298#
فاتفقوا على أن يذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصتي قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم. فسألني فقصصت عليه أمري من أوله إلى آخره، فوثب إلي وضمني إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يا آل كعب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك ليبدلن عليكم دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله".
قال: "فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن، لو علمت هذا من قولك لما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام".
قال: "فأصبحت مفزعا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي، كأنه الشراك. فذلك حقيقة قولي وبدو شأني يا أخا بني عامر".
فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره أن أمرك حق.
ثم إن العامري سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل لسنا نذكرها الآن. انتهى ما علقه ابن ظفر.
[وخرج][4] هذا الحديث الحافظ أبو نعيم فقال: حدثنا يحيى بن حجر بن النعمان، حدثنا محمد بن يعلى، حدثنا عمر بن صبح، عن ثور. ح.
قال: وأخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا أحمد بن محمد بن مصقلة، أخبرنا علي بن حرب ورزق الله بن موسى، قال علي: أخبرنا أبو نعيم
#299#
العسقلاني، وقال رزق الله: حدثنا محمد بن يعلى الكوفي، قالا: حدثنا عمر بن صبح، عن ثور بن يزيد، عن مكحول، عن شداد بن أوس، فذكره بنحوه.
[وحدث] [5] به أبو بكر محمد بن الحسين الآجري في كتاب "الشريعة": عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا أبو علي الحسين بن علي الصدائي، حدثنا محمد بن عبيد السلمي، حدثنا عمر بن صبح التميمي، فذكره مطولا بنحوه إلى قوله: "إن أمرك الحق".
وهو حديث منكر جدا مطروح، ومداره على "أبي نعيم عمر بن صبح بن عمران التميمي" وهو هالك ذامر، اعترف على نفسه بالوضع.
وله طريق أخرى مظلمة حدث بها أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي، عن الوليد بن مسلم، حدثنا صاحب لنا، عن عبد الله بن مسلم، حدثني عبادة بن نسي، سمعت أبا العجفاء يقول: حدثني شداد بن أوس قال: أقبل رجل - من بني عامر شيخ كبير يتوكأ على عصاه، وذكر الحديث مطولا بنحوه.
وهو حديث منكر لا يثبت مثله.
#300#
وقال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب، حدثني أبي، عن جدي، عن أُبي رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أول ما أنكرت من أمر النبوة؟ قال: "لقد سألت، إني لفي صحراء، وكلام فوقي يهوي إلي أسمعه، فإذا رجل يقول للآخر: هو هو؟ قالا: نعم.
فاستقبلاني بوجوه لم أر على بياضها قط، وعليهما ثياب لم أر مثل حسنها قط، ولها أرواح لم أجد ريحا من أحد قط مثله".
قال: "فأخذ أحدهما بضبعي، والآخر بضبعي الآخر، لا أجد لمسهما مسا، فقال أحدهما للآخر: أضجعه".
قال: "فأضجعاني بلا هصر ولا قصر، فقال لصاحبه: افلق صدره، ففلق صدري فيما أرى، بلا وجع ولا ألم ولا دم، فقال: أخرج منه الغل والحسد وأدخل فيه الرأفة والرحمة".
قال: "فأخرج علقة فرمى بها، وأخرج شيئا مثل الفضة فأدخله فيه وقال: هذا الرأفة والرحمة.
ثم قال بإبهامه اليمنى على صدري، ثم قال: "عد واسلم".
قال: "ثم قمت، ثم جئت بغير ما غدوت به من رحمتي للصغير ورأفتي على الكبير".
#301#
تابعه إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن محمد بن عيسى.
[وحدث] [6] به عبد الله بن أحمد بن حنبل -في مسند أبيه- فقال: حدثني محمد بن عبد الرحيم أبو حيى البزار، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا معاذ بن محمد بن أبي بن كعب؛ حدثني أبي: محمد بن محمد بن معاذ، عن أبي بن كعب، عنه أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟
فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وقال: "لقد سألت أبا هريرة! إني لفي صحراء ابن عشر سنين وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو؟ قال: نعم.
فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان، حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي، لا أجد لأحدهما مسا.
#302#
فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني بلا قصر ولا هصر.
فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى، بلا دم ولا وجع.
فقال له: أخرج الغل والحسد. فأخرج شيئا كهيئة العلقة، ثم نبذها فطرحها.
فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هز إبهام رجلي اليمنى، وقال: عد بها واسلم.
فرجعت بها، أعدو بها، رقة على الصغير، ورحمة للكبير".
وقال الإمام أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري أحد الأعلام: حدثنا جعفر بن عبد الله بن عمر القرشي، أخبرني عمر بن عروة بن الزبير، سمعت عروة بن الزبير، عن أبي ذر: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي حتى علمت ذلك واستيقنته؟
قال: "يا أبا ذر، أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، وقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: فزنه برجل. فوزنني برجل فرجحته، فقال: زنه بعشرة".
#303#
قال: "فوزنني بعشرة. فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة. فوزنني بمائة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف. فوزنني بألف فرجحتهم.
فجعلوا يتناثرون علي من كفة الميزان، فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها.
ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه. فشق بطني.
ثم قال أحدهما لصاحبه: أخرج قلبه أو قال: شق قطبه- فشقا قلبي، فأخرجا منه ضغن الشيطان وعلقة دم، ثم قال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بالسكينة كأنها درهرهة بيضاء، فأدخلت قلبي، فقال أحدهما لصاحبه: خط بطنه. فخاطا بطني وجعلا الخاتم بين كتفي، فما هو إلا أن وليا عني، فكأنما أعاين الأمر معاينة".
"جعفر" هذا إنما هو: جعفر بن عبد الله بن عثمان بن حميد القرشي الأسدي أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.
وقوله فيه: "أخبرني عمر بن عروة" إنما هو: عمر بن عبد الله بن عروة، نسب هذا إلى جده كما وقع في بعض الأسماء.
لكن قال أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتابه "الهواتف": حدثنا بندار بن
#304#
بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا جعفر بن عبد الله القرشي، أخبرني عمر بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن أبي ذر الغفاري قال: قلت: يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي؟ وبم علمت حتى استيقنت؟ فقال: "يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا ببطحاء مكة" وذكر الحديث.
وفيه: "فشق بطني فأخرج قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما" الحديث.
وخرجه أبو القاسم اللالكائي في كتابه "شرح السنة" من طريق أبي داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، حدثنا عثمان بن عروة بن الزبير، سمعت عروة، فذكر بنحوه.
وفيه: "فشق قلبي فأخرج ضغن الشيطان وعلق الدم فطرحها".
وفيه: "ثم رمى بسكينة كأنها زمردة بيضاء، فأدخلت قلبي".
وخرجه أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في "تاريخه" وفيه: "فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم".
#305#
وفيه: "ثم دعا بالسكينة كأنها برهرهة بيضاء، فأدخلت قلبي" الحديث.
وخرجه البزار في "مسنده" وغير واحد من الأئمة.
وهو في الثاني من حديث بكار بن قتيبة رواية أبي الحسن أحمد بن سليمان بن حذلم القاضي عنه.
وفيه: "ثم دعا بالسكينة كأنها درهمة بيضاء، فأدخلت قلبي" الحديث.
وفي بعض طرقه: "رهرهة".
وقد اختلف في هذه اللفظة وفي تفسيرها، فقيل: "الرهرهة": بصيص لون البشرة.
وقال الخطابي: عثرت على رواية وفيها: "أنه شق عن قلبه. قال: فدعا بسكينة كأنها درهمة بيضاء"، فوقع لي: أنه أراد بـ: "البرهرهة": سكينة بيضاء صافية الحديد، شبيها بالبرهرهة من النساء في بياضها وصفاء لونها.
#306#
ورجح ابن الأنباري أنها: "درهرهة"- بدال، وقال: هي السكينة المعوجة الرأس، التي يسميها العامة "المنجل"، وأصله من كلام الفرس: "دره"، فعربته العرب وزادت فيه حروفا.
ورد ابن الأنباري على القتيبي قوله في هذا الحرف: التمست له مخرجا فلم أجده، إلا أن تكون الهاء مبدلة فيه من الحاء لقرب مخرجها، فكأنه أراد: "جيء بطست رحراح"، أي: واسع.
قال ابن الأنباري: وهذا بعيد؛ لأن الحاء لا تبدل من الهاء في كل موضع، وإنما هو روي عن العرب ولا يقاس، وإنما هي "درهرهة"، فأسقط الراوي الدال سهوا.
نقل ابن دحية هذا التفسير في كتابه "التنوير".
وقال أبو الحسن ابن سيده في كتابه "المحكم": و"طس رهرهة": صافية براقة، وفي حديث المبعث: فأتي بطس رهرهة. انتهى.
#307#
$[ما روي في خاتم النبوة الشريف]$
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وجعلا الخاتم بين كتفي": دليل على أن خاتم النبوة وضع حينئذ بين كتفيه.
وقيل: ولد، وخاتم النبوة بين كتفيه، كما في حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه: كان بمكة يهودي يتجر فيها، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ الحديث.
وفي آخره: "فرأى تلك الشامة، فوقع اليهودي مغشيا عليه". الحديث.
وذكر ابن عائذ أنه صلى الله عليه وسلم ختم بالخاتم حين وضعه.
وقد يجمع بينهما بأن يقال: ولد بالشامة التي هي مستقر الخاتم
#308#
والمحيط به، ثم وقت شرح صدره ختم المكان المذكور بالخاتم الشريف.
وخاتم النبوة من علامة نبوته التي كان يعرفه بها أهل الكتاب ويسألون عنها ويطلبون مشاهدتها.
وقال أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة في كتابه "فضائل الصحابة رضي الله عنهم": حدثنا محمد بن سليمان الجوهري، حدثنا وهب بن محمد البناني -إمام مسجد باب البصريين-، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن أبي عصام، عن أبي قيس -مولى عمرو بن العاص-، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم واليا على "عمان"، فأتيتها، فخرج إلي أساقفتهم ورهبانهم، فقالوا: من أنت؟
فقلت: أنا "عمرو بن العاص بن وائل السهمي": رجل من قريش.
قالوا: ومن بعثك؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالوا: من هو؟
#309#
قلت: "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم"، رجل منا قد عرفناه وعرفنا نسبه، يأمرنا بمكارم الأخلاق وينهانا عن مساوئها، وأمرنا أن نعبد الله وحده.
قال: فصيروا أمرهم إلى رجل منهم، فقال لي: هل به من علامة؟
قلت: نعم؛ لحما متراكبا بين كتفيه يقال له: خاتم النبوة.
قال: فهل يأكل الصدقة؟ قلت: لا.
قال: فهل يقبل الهدية؟ قلت: نعم، ويثيب عليها.
قال: فكيف الحرب بينه وبين قومه؟
فقلت: سجالا، مرة له، ومرة عليه.
قال: فأسلم وأسلموا، ثم قال لي: والله، لئن كنت صدقتني لقد مات في هذه الليلة. أو: لقد أتى على أجله في هذه الليلة.
قال: ماذا تقول؟
قال: والله، لئن كنت صدقتني لقد صدقتك.
قال: فمكثت أياما فإذا راكب قد أناخ يسأل عن عمرو بن العاص. فقمت إليه مفزوعا، فناولني كتابا فإذا عنوانه: من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى عمرو بن العاص.
فأخذت الكتاب ودخلت البيت ففككته فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد، فإن الله تعالى بعث نبيه حيث شاء، وأحياه ما شاء، ثم توفاه حين شاء، وقد قال في كتابه الصادق: {إنك ميت وإنهم ميتون} وإن المسلمين قلدوني أمر هذه الأمة عن غير إرادة مني ولا محبة، فاسأل الله العون والتوفيق، فإذا أتاك كتابي فلا تحلن عقالا عقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعقلن عقالا حله، والسلام.
#310#
فبكيت بكاء طويلا، ثم خرجت إليهم فأعلمتهم فبكوا وعزوني. وذكر بقيته.
وقد روي: أن هرقل أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ينظر له خاتم النبوة ثم يخبره عنه، وذلك فيما قال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا أبو بكر الحميدي، حدثنا يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد قال: لقيت التنوخي رسول "هرقل" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"حمص"، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ "الفنداء" وقريبا، فقلت: ألا تخبرني؟ قال: بلى، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم "تبوك"، فإذا هو جالس بين ظهري أصحابه محتب على الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أخا تنوخ"، فأقبلت أهوي حتى كنت قائما بين يديه، فحل حبوته عن ظهره، ثم قال: "هاهنا امض لما أمرت به". فجلت في ظهره صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة.
وقد جاء مطولا فيما رواه موسى بن هارون:
#311#
حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول "قيصر" جاء زمن "معاوية بن أبي سفيان"، فقلت له: أخبرني عن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل "دحية الكلبي" إلى "قيصر"، وكتب كتابا يخيره من إحدى ثلاث: إما أن يسلم، فله ما في يديه، وإما أن يؤدي الخرج، وإما أن يأذن بحرب.
قال: فجمع بطارقته وقسيسيه في قصره، وأغلق عليهم الباب وقال: إن محمدا بعث إلي يخيرني ثلاثا: إما أن أسلم ولي ما في يدي من ملكي. وإما أن أؤدي له الخرج. وإما أن أوذن بحرب، وقد يجدون فيما يقرأون من كتبهم أنه سيملك ما تحت قدمي من ملكي.
قال: فتحيروا بخبره، حتى إن بعضهم خرجوا من برانسهم وقالوا: نرسل إلى رجل من العرب في برديه ونعليه بالخرج!!
قال: اسكتوا، إنما أردت أن أعلم تمسككم بدينكم ورغبتكم فيه.
قال: ثم قال: ابعثوا لي رجلا من العرب. فجاؤوا بي، فكتب معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وقال: انظر ما سقط عليك من قوله، ولا يسقطن عنك ذكر الليل والنهار.
قال موسى: وزاد غير حماد بن سلمة فيه: وما ضيعت فلا تضيعن ثلاث خصال: هل يذكرن كتابه إلي شيء، وانظر: إذا قرأ كتابه إليه هل يذكر الليل والنهار، وفي ظهره هل ترى من شيء يريبك.
#312#
رجع الحديث إلى رواية حماد بن سلمة قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه، وهم محتبون بحمائل سيوفهم حول "بئر تبوك"، فدفعت إليه الكتاب فوضعه في حجره.
ثم قال: "ممن الرجل؟"
قلت: امرؤ من "تنوخ".
فقال: "هل لك في دين أبيك الحنفية؟"
فقلت: إني رسول قومي وعلى دينهم حتى أرجع إليهم.
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية ونظر إلى أصحابه ثم قال: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}.
قال: ثم دفع الكتاب إلى رجل إلى جنبه، فقلت: من هذا؟
فقيل: معاوية بن أبي سفيان.
ففكه، فلما قرأه فإذا في الكتاب: إنك تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ فأين النار؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، إذا جاء الليل فأين النهار؟!"، فكتبته.
ثم قال: "إنك رسول قوم وإن لك حقا، ولكنك جئتنا ونحن مرملون".
فقال عثمان بن عفان: أنا أكسوه حلة صفورية.
وقال رجل من الأنصار: علي ضيافته.
وقال لي قيصر فيما يقول: "انظر إلى ظهره"، فلما قفيت قال له جبريل: إنه قد أمر أن ينظر إلى ظهرك، فدعاني فقال: "امض لما
#313#
أمرت"، وكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم في كتفه، وذكر الحديث.
خرجه بطوله دعلج في "مسند المقلين" فقال: حدثنا موسى بن هارون، فذكره.
وحدث به أبو يعلى الموصلي، عن حوثرة بن أشرس، عن حماد.
وفي هذا الكتاب التخيير زيادة على ما في "الصحيحين"، لكن يشكل قوله في هذا الحديث: وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم "وهو مع أصحابه وهم محتبون بحمائل سيوفهم حول "بئر تبوك" مع قول أبي سفيان: "إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش" .. .. الحديث.
وفيه: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، وهذا كان قبل الفتح- "مكة" لقوله: "في المدة"؛ ولأن أبا سفيان قال في آخر الحديث: ما زلت ذليلا مستيقنا بأن أمره سيظهر، حتى أدخل الله الإسلام علي.
وإسلام أبي سفيان إنما كان في سنة الفتح سنة ثمان من الهجرة.
وأيضا، فإن الكتاب إلى "هرقل" لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة سنة ستة، فكتبه في المحرم سنة سبع وسار به دحية كما هو معروف عند أهل السير.
#314#
قال محمد بن سعد في كتابه "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال يعني الواقدي: وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة.
قال: وحدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه.
قال: وحدثنا عمر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن جدته: الشفاء.
قال: وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن محمد بن يوسف، عن السائب عن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي.
قال: وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن جعفر بن عمرو بن جعفر بن [عمرو بن أمية الضمري، عن أهله عن عمرو بن أمية الضمري] دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، وكتب كتبا، فقيل له: يا رسول الله، إن الملوك لا يقرؤون كتابا إلا مختوما. فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ خاتما من فضة فصه منه، نقشه ثلاث أسطر: محمد رسول الله، وختم به الكتب، فخرج منهم ستة نفر في يوم واحد، وذلك في المحرم سنة سبع، وأصبح كل واحد منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى
#315#
"قيصر" ملك الروم "دحية بن خليفة الكلبي"، وإلى "المقوقس" صاحب "مصر" و"إسكندرية" حاطب بن أبي بلتعة، وإلى "كسرى" "عبد الله بن حذافة السهمي"، وأرسل إلى "الحارث بن أبي شمر" وكان نصرانيا غريبا بظاهر دمشق بعث إليه "شجاع بن وهب الأسدي"، وأرسل إلى غير هؤلاء.
ففي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم كتب كتاب "قيصر" وأرسل به "دحية" في محرم سنة سبع.
وفي حديث سعيد بن أبي راشد المتقدم ما يشعر أنه كان في غزوة "تبوك"، وذلك كان في سنة تسع، لا خلاف في ذلك فيما أعلم.
لكن يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ورد "تبوك" كتب إلى "قيصر" كتابا ثانيا يخيره بين: الإسلام أو أداء الخرج أو المحاربة؛ لأن ظاهر لفظ الكتاب غير لفظ الكتاب المذكور في "الصحيحين"، وهو يقوي ما ذكرناه من الاحتمال.
ويحتمل أن يكون قدوم الكتاب كان على "هرقل" في سنة سبع، ورده الجواب كان والنبي صلى الله عليه وسلم في تبوك حين قرب منهم، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال أبو القاسم السهيلي: وقد روي أن "هرقل" وضع كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب إليه في قصبة من ذهب؛ تعظيما له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه كابرا عن كابر في أرفع صوان وأعز مكان، حتى كان عند "أذفونش" الذي تغلب على "طليطلة"، وما أخذ أخذها من بلاد الأندلس، ثم كان عند ابن بنته معروف بـ: "السليطين".
#316#
قال السهيلي: وحدثني بعض أصحابنا أنه حدثه من سأله رؤيته من قواد أجناد المسلمين كان يعرف بـ "عبد الملك بن سعيد"، قال: فأخرجه إلي فاستعبرت وأردت تقبيله، وأخذه بيدي، فمنعني من ذلك صيانة له أو ضنا علي به.
قلت: كان دخول "الأذفونش" "طليطلة" في المحرم سنة ثمان وسبعين وأربع مائة، وكان هلاكه في سنة اثنتين وخمس مائة، وكان هلاك "السليطين" -لعنه الله- سنة إحدى وخمسين وخمس مائة.
وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إسماعيل الأنصاري الحريري المغربي: وصل هذا الكتاب إلى "إشبيلية" عام ثمانية وستمائة واردا على إمام الوقت: الناصر ابن أمير المؤمنين، من ملك "ليون" وسماه لكن ذهب اسمه من كتابي-، مفتخرا به متشرفا بوراثته، وهو اليوم بيد ولده "فراقدة" وارثه ووارث أمه بنت "أذفونش" في ملك "أذفونش"، فهو صاحب "قشتالة" وبلاد الأندلس اليوم، بيده كـ: "قرطبة" و"إشبيلية" و"جيان" وما أخذ أخذها.
وهذا الكتاب الشريف جاءت الرواية: أن "هرقل" عظمه وجعل له قصبة من ذهب وأدخله فيها صيانة له، ولم تزل ملوكهم يتداولونه حفظا له وتبركا به، وآخر العهد بوجوده في أيام الملك المنصور "قلاوون".
#317#
$[عود إلى وصف الخاتم النبوي الشريف]:$
وهذا الخاتم الشريف جاءت فيه وفي صفته أحاديث عدة: من حديث السائب بن يزيد، وسلمان، وأبي سعيد، وجابر بن سمرة، وبريدة، وعبد الله بن سرجس، وعمرو بن أخطب، وقرة بن إياس، وأبي أمامة، وأبي رمثة، ورميثة بنت عمر بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، وغيرهم، رضي الله عنهم.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل "زر الحجلة"]:$
ومن ذلك: ما أخرجاه في "الصحيحين" من حديث حاتم بن إسماعيل، عن الجعيد بن عبد الرحمن، عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابن أختي وجع. فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة.
وفي لفظ: فنظرت إلى خاتم النبوة.
ورواه محمد بن عبيد الله وإبراهيم بن حمزة، عن حاتم. وقالا: عن الجعيد.
ورواه عبد الرحمن بن يونس، وقتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد، عن حاتم أيضا، إلا أنهم قالوا: عن "الجعد" مكبرا.
#318#
تابعه الفضل بن موسى السيناني، عن الجعيد، مختصرا.
قال البيهقي في كتابه "الدلائل" عقب رواية الحديث: هكذا، المعروف: "زر الحجلة". وقال إبراهيم بن حمزة عن حاتم: "رز الحجلة" الراء قبل الزاي.
وحكى أبو سليمان عن بعضهم: إن "رز الحجلة": بيض الحجل. انتهى.
والمعروف الأول كما قاله البيهقي.
وقال الذهبي: ووهم من قال: "رز الحجلة: هو بيضها". قاله في "تاريخ الإسلام".
والحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب ويكون له أزرار كبار، وتجمع على "حجال".
قاله صاحب "النهاية".
وصححه النووي رحمه الله وحكاه عن الجمهور، وتجمع أيضا على "حجل" حكاه الزبيدي في "مختصر العين".
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل الجمع]:$
وروى حماد بن زيد، عن عاصم بن سليمان، عن عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فدرت من خلفه،
#319#
فعرف الذي أردت فألقى الرداء عن ظهره فرأيت موضع الخاتم على نغض كتفه مثل الجمع حوله خيلان، كأنها الثآليل، فرجعت حتى استقبلته، فقلت: غفر الله لك يا رسول الله. فقال: "ولك" فقال القوم: استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولكم، ثم تلا هذه الآية: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" عن ابن أبي الأشعث -وهو: أحمد بن المقدام العجلي- عن حماد.
تابعه الحسين بن يحيى بن عباس عن العجلي. وهو في "صحيح مسلم" لحماد بن زيد وعلي بن مسهر وعبد الواحد بن زياد، عن عاصم الأحول نحوه.
رواه شعبة والوضاح اليشكري وثابت بن يزيد، عن عاصم.
واسم الرداء الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ظهره: الفيح. قاله البرقي فيما حكاه عنه ابن دحية.
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا هشام بن لاحق المدائني، حدثنا عاصم، عن عبد الله بن سرجس قال: رأيت الخاتم في مرجع كتف النبي صلى الله عليه وسلم كالثآليل.
#320#
حدث به عبد الله بن أحمد عن أبيه في كتاب "العلل".
وحدث به البغوي في "معجمه" عن علي بن الجعد أخبرنا شريك، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت عليه، وأكلت من طعامه، وشربت من شرابه، ورأيت خاتم النبوة في نغض كتفه اليسرى كأنها جمع خيلان سود، كأنها ثآليل.
وخرجه أبو محمد دعلج بن أحمد في "مسند المقلين" من حديث روح بن عبادة، حدثنا هشام بن حسان القردوسي، عن عاصم، عن عبد الله بن سرجس: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه من خلفه، فأرسل ثوبه، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والخاتم عند نغض كتفه اليسرى مثل جمع خيلان الكف.
قال: وقبض هشام على كفه وجمع أصابعه.
و"النغض" بضم النون وتفتح أيضا - هو: العظم الرقيق على أعلى الكتف.
وقيل: هو أعلى الكتف.
وقال أبو عبيد الهروي: قال شمر: الناغض من الإنسان: أصل العنق، حيث ينغض رأسه، و"نغض الكتف" هو: العظم الرقيق على طرفها. وقال غيره: "الناغض": فرع الكتف. انتهى.
#321#
و"جمع الكتف" -بالضم-: قبضها. و"الخيلان": جمع "خال"، وهي: النكتة السوداء تكون في البدن.
وجاء في بعض طرقه: "عند نغض كتفه الأيمن"، وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: بين كتفيه خاتم النبوة، وهو أقرب إلى كتفه اليمنى. وسيأتي بطوله إن شاء الله تعالى.
وخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث زيد بن أبي أنيسة، عن يحيى بن الحصين، عن جدته: أم الحصين قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت بلالا وأسامة، بلال فيقود خطام راحلته والآخر رافعا ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة ثم انصرف وقد جعل ثوبه تحت إبطه الأيمن على عاتقه الأيسر، فرأيت تحت غضروف كتفه الأيمن كهيئة جمع الكف، الحديث.
وسيأتي بتمامه - إن شاء الله - في: حجة الإسلام.
$[ما روي أن خاتم النبوة مثل "الخيلان الأسود"]:$
وجاء عن عزرة بن ثابت، حدثني علباء بن أحمر، حدثني أبو زيد الأنصاري رضي الله عنه قال: رأيت خاتم النبي صلى الله عليه وسلم مجتمعا كأن فيه خيلانا
#322#
سوداء.
"أبو زيد" هذا: عمرو بن أخطب بن رفاعة الأنصاري رضي الله عنه.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" من حديث عزرة بنحوه، ولفظه: قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا زيد، ادن مني فامسح ظهري"، فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم. قلت: وما الخاتم؟ قال: شعرات مجتمعات.
$[ما روي أن خاتم النبوة شامة سوداء]:$
وجاء في وصف الخاتم الشريف أيضا عن عائشة رضي الله عنها: أنه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة، وحولها شعرات متواليات، كأنهن من عرف فرس، في حديث طويل سيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الهجرة.
وفيه: ومنهم من قال: كانت شامة النبوة بأسفل كتفه خضراء منحفرة في اللحم قليلا.
خرجه أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه".
وقد قدمنا فيما خرجه ابن سعد في "الطبقات" من طرق إلى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قصة اليهودي الذي سكن بمكة يتجر فيها، وفي وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: به شامة بين كتفيه، سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات.
#323#
وقد تقدم قريبا من حديث عبد الوارث بن سعيد عن أبي عصام عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو: أنه سأله أساقفة "عمان" ورهبانهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم صيروا أمرهم إلى رجل منهم، قال عمرو: فقال لي: هل به من علامة؟ قلت: نعم، لحما متراكبا بين كتفيه يقال له: خاتم النبوة. وذكر بقيته.
و"أبو عصام" هو: "خالد بن عبيد" فيما أعلم.
و"أبو قيس" قيل: اسمه: "عبد الرحمن بن ثابت".
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل اللحمة الناتئة]:$
قال يعقوب بن سفيان في "التاريخ": حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن ميسرة، حدثنا عتاب، سمعت أبا سعيد يقول: الختم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة.
ورويناه من حديث أبي علي حنبل بن إسحاق بن حنبل الشيباني، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن ميسرة، سمعت عتابا يقول:
#324#
سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الخاتم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة.
وقال دعلج في كتابه "مسند المقلين": حدثنا ابن شيرويه، حدثنا إسحاق، أخبرنا وكيع، حدثنا سفيان، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت على كتفه مثل التفاحة، فقال له أبي: إني طبيب، أفلا أبطها لك؟ قال: "طبيبها الذي خلقها".
ورواه عثمان بن أبي شيبة عن وكيع.
وهو أحد الأحاديث التي ألزم الدارقطني البخاري ومسلما إخراجها.
#325#
والحديث له طرق.
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- صفة الخاتم كالتفاحة أيضا في حديث بحيرا.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة]:$
وخرج مسلم في "صحيحه" من حديث شعبة، عن سماك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام.
تابعه حسن بن صالح بن حي، عن سماك.
وفي لفظ في "الصحيح" أيضا من رواية إسرائيل عن سماك، عن جابر قال: ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة، يشبه جسده.
وقال أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه": أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا روح بن عبادة، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، أنه سمع جابر بن سمرة رضي الله عنه يقول: رأيت الخاتم الذي كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بيضة الحمامة، لونها لون جسده.
وخرجه الترمذي في "جامعه" ولفظه: عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الذي بين كتفيه- غدة حمراء، مثل بيضة الحمامة.
#326#
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج البخاري في "تاريخه الكبير" من حديث سلامة العجلي، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال:
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فألقى رداءه وقال: "يا سلمان، انظر إلى ما أمرت به"، قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة.
وخرجه الترمذي في "الشمائل" مطولا من حديث علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن عبد الله بن بريدة، عن سلمان، نحوه.
$[ما روي في أن خاتم النبوة كعذرة الحمامة]:$
وجاءت رواية: أنه عذرة كعذرة الحمامة. قال أحد رواته: يعني: قرطمة الحمامة.
وذكر أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم: أن الخاتم كأنه بيضة حمامة، مكتوب في باطنها: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها: توجه حيث شئت؛ فإنك المنصور.
علقه ابن دحية في كتابه "التنوير" عن الترمذي الحكيم.
والترمذي هذا كأنه أخذه من حديث مطروح في قصة إسلام سلمان
#327#
الفارسي فيما زعم راويه أن الذي صحبه "سلمان" إلى بيت المقدس، واشتغل بالمقعد عنه، وطلبه فلم يجده وصف له النبي صلى الله عليه وسلم بوصف فيه: بين كتفيه بيضة كبيضة الحمام، وذكره كما تقدم.
وهذا باطل لا يلتفت إليه.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل البندقة]:$
وقال أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه": أخبرنا نصر بن الفتح بن سالم الربعي العابد بـ"سمرقند"، حدثنا رجاء بن مرجى الحافظ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان خاتم النبوة في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البندقة من لحم عليه مكتوب: محمد رسول الله.
#328#
وهذا أيضا باطل لا يصح، والعجب من ابن حبان حيث جعله صحيحا، والمتهم به شيخه نصر بن الفتح، والله أعلم، فإسناده جيد لولا "نصر" هذا، قال الذهبي: أظنه وضع هذا الحديث. انتهى.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل دارة القمر]:$
وقال أبو علي محمد بن هارون بن شعيب الأنصاري الدمشقي في كتابه "صفة النبي صلى الله عليه وسلم": حدثني محمد بن عثمان بن جبلة الأنصاري وأحمد بن محمد التميمي البيساني، حدثنا عبد الوارث بن الحسن بن عمرو القرشي البيساني، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل قوم من اليهود إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقالوا له: يا أبا بكر، صف لنا صاحبك. فقال: معاشر يهود، لقد كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار كأصبعي هاتين، ولقد صعدت معه جبل "حراء" وإن خنصري لفي خنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم شديد، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فأتوا عليا فقالوا: يا أبا الحسن، صف لنا ابن عمك.
فقال علي رضي الله عنه: لم يكن حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم بالطويل الذاهب طولا ولا بالقصير المتردد. وذكر الحديث بطوله في صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: بين كتفيه كدارة القمر ليلة البدر، مكتوب بالنور سطران: السطر
#329#
الأعلى: لا إله إلا الله، وفي السطر الأسفل: محمد رسول الله. وذكر الحديث، وفيه: وإذا التفت التفت بمجاميع بدنه، وإذا قام غمر الناس، وإذا قعد علا على الناس، وإذا تكلم أنصت له الناس.
وهو حديث طويل موضوع من نمط الحديث الذي قبله، وأنا أتهم به "عبد الوارث البيساني"، مع أن "أبا علي محمد بن هارون" كان يتهم فيما قاله الحافظ عبد العزيز الكناني، لكنه فيما يغلب على ظني ويقوى أنه بريء منه، وإنما الآفة -والله أعلم- "البيساني" هذا، وإنما ذكرت هذا للمعرفة، ولهتك حاله.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل التينة الصغيرة]:$
وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أن الخاتم كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة. وكان مما يلي الفقار، قالت: فلمسته حين توفي صلى الله عليه وسلم فوجدته قد رفع.
#330#
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل البضعة الناشزة]:$
وخرج الترمذي في "الشمائل" من حديث أبي عقيل الدورقي، عن أبي نضرة: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن خاتم النبوة، فقال: كان في ظهره صلى الله عليه وسلم بضعة ناشزة.
وقال أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا سريج، حدثنا أبو ليلى -قال أحمد: سماه سريج: "عبد الله بن ميسرة الخراساني"- عن غياث البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة، فسألته عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان بين كتفيه، فقال بإصبعه السبابة هكذا: لحم ناشز بين كتفيه صلى الله عليه وسلم.
وحدث به يونس بن بكير في "المغازي" عن أبي ليلى، حدثنا عتاب البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري، فيبسط له على بابه بساط، ثم يجعل له عليه وسادة، فيجلس على البساط، ويتكئ على الوسادة، ونحن حوله نحدق به، فسألته عن الخاتم الذي كان بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
#331#
ما كان؟ قال: وأشار أبو سعيد بالسبابة ووضع الإبهام على أول مفصل أسفل من ذلك قال يونس: أخرج المفصل -كله- قال: كانت بضعة ناشزة بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذا قال يونس: "ابن عتاب".
وهكذا ذكره البخاري في "التاريخ" في: باب عتاب، ونسبه عن يونس.
ووقع في رواية أحمد السابقة: "غياث"، وقد ذكر فيه الأمير أبو نصر ابن ماكولا الوجهين.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن ميسرة، حدثنا غياث، سمعت أبا سعيد رضي الله عنه يقول: الختم الذي بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم لحمة ناتئة.
وخرج البيهقي في "الدلائل" من طريق يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا قرة بن خالد، حدثنا معاوية بن قرة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرني الخاتم. فقال: "أدخل يدك"، فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس، أنظر إلى الخاتم، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي، وإن يدي لفي جربانه.
#332#
تابعه يحيى بن أبي طالب عن أبي داود الطيالسي بنحوه، وقال: "مثل السلعة" ولم يقل: البيضة.
وعلقه قاسم بن ثابت في "الدلائل" فقال: ويروى عن وهب، عن قرة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن أدخل يدي فأمس الخاتم، فأدخلت يدي في جربانه، وإنه ليدعو لي، فما منعه وأنا أمسه أن دعا لي، فوجدت على نغض كتفه مثل السلعة خاتم النبوة.
الجربان -بضمتين وشد الموحدة، ويقال بتخفيفها مع سكونها-: وعاء من أدم يكون فيه السيف بغمده، وهو ههنا: الجيب.
قال قاسم بن ثابت: قال الفراء: "الجربان": حد السيف، وعلى لفظه "جربان القميص" بالضم.
وقال شمر: هو "الجربان" بالضم والتخفيف، وأنشد:
وعن الشمائل أن يهاج بنا ... جربان كل مهند عضب
انتهى.
#333#
و"السلعة" في أحد معانيها: غدة في العنق تموج إذا حركتها.
قاله الزبيدي في "مختصر العين".
وذكر السهيلي صفة الخاتم الشريف كأثر المحجمة القابضة على اللحم، حتى يكون ناتئا.
وقد تقدم فيما ذكره ابن إسحاق من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها حديث اليهودي الذي سكن مكة يتجر بها، وأخبرني في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ولد نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس.
وروى ابن أبي خيثمة نحوه، وتقدم.
$[ما روي في أن خاتم النبوة مثل ركبة العنز]:$
وقال بشر بن آدم: حدثنا الضحاك بن مخلد، حدثنا بشر بن صحار الأعرجي، أخبرني المعارك بن بشر بن عياذ وغير واحد من أعمامي،
#334#
عن عياذ بن عمرو وكان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فخاطبه يهودي فسقط رداؤه عن منكبه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يرى الخاتم، فسويته عليه، فقال: "من فعل هذا؟"، قلت: أنا. قال: "تحول إلي"، فجلست بين يديه، فوضع يده على رأسي فأمرها على وجهي وصدري وقال: "إذا أتانا سبي فائتني"، فأتيته، فأمر لي بجذعة، وكان الخاتم على طرف كتفه الأيسر، كأنها ركبة عنز.
حدث به الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن بشر.
تابعه الحسن بن سفيان عن بشر.
ورواه البخاري في "تاريخه الكبير" بلفظ غير هذا، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
$[ما روي في أن خاتم النبوة كان نورا]:$
وذكر أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ: أن الخاتم كان نورا يتلألأ.
وقد روي: أن النور كان يجري فيه.
وجاء عن جابر رضي الله عنه قال: أردفني النبي صلى الله عليه وسلم، فالتقمت خاتم النبوة
#335#
بفمي، فكان يثج علي مسكا.
وهذا الخاتم أحد خصائصه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بجسمه الشريف:
قال أبو خالد زيد بن محمد بن رفاعة اللخمي قال: قرأت على الفقيه الحاج أبي عبد الله محمد بن علي الرعيني، سمعت الفقيه المتكلم أبا بكر محمد بن سابق الصقلي يقول: المعجزات المختصة بجسم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة:
الأولى: كانت تنام عينه ولا ينام قلبه.
#336#
والثانية: خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه.
والثالثة: أنه كان يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه.
والرابعة: نبع الماء من بين أصابعه.
والخامسة: أنه كان عرقه أفوح من ريح المسك.
والسادسة: أنه كان إذا مشى لا ظل له.
والثامنة: أنه ما واكبه أحد إلا علاه صلى الله عليه وسلم.
والتاسعة: أنه ولد مختونا مقطوع السرة.
والعاشرة: أنه كان لا يرى له نجو؛ لأن الأرض كانت تبتلعه.
قلت: قصر في هذا الحصر: ابن سابق، وكل من سلك سبيله غير مدرك ولا لاحق، فمعجزات ذلك البدن الشريف، وخصائص ذاك الجسم المعظم اللطيف، تكون فيما يحد أو تحصر بعشرة تعد، كلا والله بل هي تنيف على الألوف، فمنها ما عرفنا ومنها غير معروف، لا يحيط بعلمه إلا من منحه إياه وفضله به لا إله سواه.
ومما عرفناه واتصل إلينا مما رويناه -غير ما ذكره ابن سابق في مقالته- وإن كان مفرقا في هذا الكتاب بدلالته.
ما أعطي نبينا صلى الله عليه وسلم من قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح على التمام.
ومنها: سبقه أصحابه إذا مشوا في صحبته، فيجهدون أنفسهم وهو غير مكترث في مشيته، حتى قال من سبر حاله: كأنما الأرض تطوى له.
ومنها: أنه لم يحتلم قط في المنام، ويروى أن الأنبياء كذلك -عليهم الصلاة والسلام، وذلك فيما رواه إبراهيم بن أبي حبيبة- وهو متروك -،
#337#
عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما احتلم نبي قط، وإنما الاحتلام تعقب من الشيطان.
ومن خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المذكورة: أنه كان إذا مسك جمادا بيده وثناه لان وانقاد معه لهواه.
ومنها: تكثير القليل بمسه، وبروء العاهات بلمسه.
ومنها: أنه كان أفصح الناس لسانا وأبلغهم منطقا وبيانا.
ومنها: الجلالة التي حصلت لديه، والمهابة التي ألقيت عليه. قالت زينب بنت عبد الله الثقفية زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة.
ومنها: أنه كان من بعيد أجمل الناس وأبهاه، ومن قريب أحسن الناس وأحلاه.
ومنها: أنه كان إذا نطق ففتح فاه رؤي كالنور يخرج من بين ثناياه.
ومنها: كان إذا ضحك يتلألأ في الجدر ضياؤه وسناه.
ومنها: أن أسارير وجهه كانت تبرق حين السرور، ويجري لذلك في أسرة جبهته النور.
ومنها: أن وجهه كان يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر، ومثله جابر بن سمرة بالشمس والقمر، وهو أعظم منها في القدر.
ومنها: أنه كان فرد المخلوقات وأحسن الموجودات، كما قال علي رضي الله عنه في آخر وصفه له، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله.
ومنها: أن صدره شرح وملئ بالحكمة والإيمان ثم أعيد من غير ألم
#338#
كما كان.
وقد تكلم بعضهم بمعنى -وسبق إليه- في وجه المناسبة بين شرح صدره ووضع الخاتم بين كتفيه، فأخذ ابن دحية كلاما لشيخه السهيلي وزاد عليه، فقال: والحكمة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم لما ملئ قلبه حكمة وإيمانا كما ثبت في الصحيح ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، فجمع الله عز وجل أجزاء النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم وتممه وختم عليه بختمه، فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا من أجل ذلك الختم، لأن الشيء المختوم محروس، وكذلك تدبير الله تعالى لنا في هذه الدنيا إذا وجد الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين، الآدميين، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما تطامن له القلب، وبقي النور فيه، ونفذت فيه قوة القلب إلى الصلب، فظهرت بين الكتفين كالبيضة.
وكونه عند نغض كتفه: فلأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم.
روى ميمون بن مهران، عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه عز وجل أن يريه موضع الشيطان منه، فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حذاء قلبه، له خرطوم كخرطوم البعوضة، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله العبد خنس.
#339#
ذكره النمري.
و"ممهى": أي: صفاء أشبه "المها"، وهو البلور، وهو مقلوب، من "مموه". انتهى.
والذي ذكره أبو عبيد الهروي في تفسير هذه اللفظة في حديث عمر بن عبد العزيز: أنه رأى فيما يرى النائم جسد رجل ممهى يرى داخله من خارجه، كل شيء صفي فأشبه المها، فهو ممهى، و"المها": الحجارة البيض التي تبرق، وهي البلور، ويقال للثغر إذا ابيض وكثر ماؤه: "مها". قال الشاعر:
ومها ترف عزوبة ... تشفي المتيم ذا الحرارة
وفي "مختصر العين" للزبيدي: و"المها": البلور، ويقال: الدر.
قلت: وجاء مصرحا بالبلور في الحديث فيما رواه أبو بكر ابن أبي الدنيا في كتابه "مكائد الشيطان" فقال: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا أبو حفص الحبطي، حدثنا الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه عز وجل أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فلما كان في الحول رأى فيما يرى النائم
#340#
جسد رجل يشبه البلور، يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع قاعد عند منكبه الأيسر، بين منكبه وأذنه له خرطوم طويل دقيق، قد أدخله من منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله عز وجل خنسه.
وقال أيضا في الكتاب المذكور: حدثنا إسحاق بن إسماعيل، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من إنسان إلا وشيطان متبطن فقار ظهره، لاو عنقه على عاتقه فاغرا فاه على قلبه.
وقال أيضا في الكتاب: حدثني الحسين بن السكن القرشي، حدثنا المعلى بن أبي الأسد، حدثنا عدي بن أبي عمارة، حدثنا زياد النميري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان واضع خطمه في قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي الله التقم قلبه".
تابعه الحماني ومحمد بن أبي بكر المقدمي، عن عدي بن أبي عمارة بنحوه.
وهو في "مسند أبي يعلى الموصلي"، وخرجه ابن عدي في "الكامل" وضعفه.
#341#
وجاء عن عبد الله شقيق قال: ما من آدمي إلا لقلبه بيتان، في أحدهما الملك، وفي الآخر الشيطان، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره في قلبه ووسوس له.
خرجه أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه "فضائل الكتاب" بسند جيد إلى عبد الله بن شقيق.
وجاء عن فرج بن فضالة عن عروة، قال: إن عيسى عليه السلام دعا ربه عز وجل قال: يا رب، أرني موضع الشيطان من ابن آدم. فجلى له ذلك، فإذا له رأس كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب، فإن ذكر الله خنس، وإن ترك الذكر مناه وحدثه، فذلك قوله تعالى: {من شر الوسواس الخناس}.
وقال بعضهم في كون الخاتم الشريف جعل في ظهر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل في صدره ولا في مكان غير ظهره:
قال: فيه دليل على أنه ليس بعده نبي يأتي من ورائه لأنه ختم في ظهره خاتم النبوة، فلم يبق من ورائه نبي يأتي. انتهى.
#342#
$[عود إلى ما روي في شرح صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم]$
وشرح صدر المصطفى صلى الله عليه وسلم كان مرتين:
مرة عند ظئره حليمة، سنة ثلاث من مولده صلى الله عليه وسلم وقيل: سنة أربع.
والمرة الثانية: ليلة الإسراء، كما ثبت في "الصحيحين" وكتب الإسلام.
وقد جاء: أنه شرح صدره صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة من مولده، كما ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وتقدم في بعض طرقه: أن الملك عليه السلام لما شق قلبه -عليه أفضل الصلاة والسلام- قال: قلب وكيع، فيه عيناه بصيرتان، وأذناه سميعتان.
وروي: "قلب وكيع واع".
#343#
و"وكيع": معناه: متين، فسره بذلك أبو عبيد الهروي، قال: ومنه يقال: "سقاء وكيع" أي: محكم الخرز.
وفي "مختصر العين" للزبيدي: "واستوكع السقاء": إذا متن، و"سقاء وكيع" وفيه أيضا: و"فرس وكيع": أي: صلب.
وقوله: "عيناه بصيرتان": جاء في "تفسير سفيان بن عيينة"، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من رجل إلا وله أربعة أعين. يعني: عينين في وجهه يبصر بهما أمر دنياه، وعينين في قلبه يبصر بهما ما وعد الله بالغيب، وهما غيب، فآمن الغيب بالغيب، وإذا أراد الله بعبد سوى ذلك ترك قلبه على ما فيه، وقرأ: {أم على قلوب أقفالها}.
وجاء هذا عن سفيان الثوري أيضا فيما رواه عباس الترقفي، حدثنا الفريابي، عن الثوري، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: ما من عبد إلا وله عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عينيه اللتين في قلبه، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب، فأبصر المغيب بالغيب، وإذا أراد غير ذلك تركه على ما فيه، ثم قرأ: {أم على قلوب أقفالها}.
حدث به الخرائطي في كتابه "اعتلال القلوب".
#344#
ورواه أحمد بن يوسف بن خلاد النصيبي، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا حسين بن حفص، حدثنا سفيان، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ما من آدمي إلا وله أربعة أعين، الحديث، وفي آخره بعد قوله: {أم على قلوب أقفالها} قال: وما من بني آدم أحد إلا والشيطان متقبل فقارة ظهره.
وقد تقدم نحوه مختصرا.
وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا بنحوه، وفي إسناده الحسين بن أحمد بن محمد أبو عبد الله الهروي الشماخي الصفار الحافظ، والآفة منه، والله أعلم.
#345#
$[ما روي في وزن النبي صلى الله عليه وسلم بأمته جميعا]$
وفي بعض الأحاديث المتقدمة في شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم: "لو وزن بأمته كلها لوزنهم":
قد ورد أنه صلى الله عليه وسلم وزن بأمته فوزنهم، وهو: ما خرجه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا أبو داود عمر بن سعد، حدثنا بدر بن عثمان، عن عبيد الله بن مروان، عن أبي عائشة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين، فأما المقاليد فهذه المفاتيح، وأما الموازين فهذه التي يوزن بها، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة، فرجحت، ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فوزن، ثم جيء بعمر فوزن فوزن، ثم جيء بعثمان فوزن فوزن بهم، ثم رفعت".
وخرجه أبو بكر ابن أبي عاصم في كتابه "السنة" بنحوه، وفيه بعد قوله: "ثم رفعت": فقال له رجل: فأين نحن؟ قال: "أنتم حيث جعلتم أنفسكم".
ورواه الحسن بن سفيان في "الصحابة" عن إسحاق بن بهلول بن حسان، حدثنا أبو داود الحفري، حدثنا بدر بن عثمان، عن عبيد الله بن
#346#
مروان، حدثني أبو عائشة -وكان رجل صدق- قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وساق الحديث بنحوه.
ورواه أبو بكر يحيى بن أبي طالب، فقال: أخبرنا إبراهيم -يعني: ابن بكر، حدثنا صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وضع الخلق في كفة، ووضعت في كفة، فرجحت بهم، ووضع أبو بكر في كفة فرجح الميزان بأبي بكر، ثم وضع عمر في كفة والخلق كلهم في كفة، فرجح بهم، ثم رفع الميزان".
وروى هشام بن عمار، حدثنا عمرو بن واقد، حدثني يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن معاذ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت أني وضعت في كفة، فعدلتها، ثم وضع أبو بكر رضي الله عنه فعدل بأمتي، ثم عمر رضي الله عنه فعدلها، ثم عثمان رضي الله عنه فعدلها، ثم رفع الميزان".
#347#
لا يعرف هذا إلا من رواية عمرو بن واقد الدمشقي وهو: منكر الحديث واتهم بالكذب.
وقال يحيى [بن] عبد الحميد الحماني، حدثنا شريك، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن سويد بن هلال، حدثنا شيخ لنا أعرابي من محارب -وكان صدوقا-: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت ميزانا دلي من السماء، فوضعت في كفة ووضعت أمتي في كفة، ثم رجحت بهم، ثم جيء بأبي بكر رضي الله عنه فوضع في كفة، وجيء بأمتي فوضعت في كفة، فرجح بهم".
وخرج أبو يوسف يعقوب بن شيبة في "مسنده" من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: وفدنا إلى "معاوية" رضي الله عنه مع "زياد" وفينا "أبو بكرة" رضي الله عنه، فلم يعجب بوفد ما عجب بنا. قال: فدخلنا عليه فقال: يا أبا بكرة، حدثنا بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ويسأل عنها، فقال يوما: "من رأى منكم رؤيا" فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزانا دلي فوضعت في كفة ووضع أبو بكر رضي الله عنه ووضع عمر وعثمان
#348#
رضي الله عنهما فرجح بعثمان، ثم رفع الميزان" قال: فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء".
وخرجه أبو بكر محمد بن هارون الروياني في "مسنده" فقال: حدثنا ابن إسحاق، حدثنا عارم، حدثنا حماد بن سلمة، فذكره مختصرا دون قصة الوفد.
وقال فيه أيضا: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟" فقال رجل: أنا، رأيت كأن ميزانا دلي من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر بعمر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الترمذي عن ابن بشار كذلك، وحسنه.
وحدث به أبو داود في "سننه" عن ابن مثنى، عن الأنصاري محمد بن عبد الله.
وفي الباب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، خرجه أحمد في "مسنده".
#349#
$رد "حليمة" لرسول الله صلى الله عليه وسلم$
وحين ردت حليمة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمه كان ابن خمس سنين وشهر.
وذكر أبو عبد الله القضاعي في "تاريخه": أنه قام معها خمس سنين. انتهى.
وقيل: كان عمره لما ردته خمس سنين.
قاله ابن قتيبة.
وقيل: ابن خمس سنين ويومين.
وقيل: كان ابن أربع سنين.
وقيل: ابن سنتين وشهر.
وقيل: سنة. وهو ضعيف، والمرجح الأول، والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق: أن حليمة لما ردت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى، فقاموا إليه -عليه الصلاة والسلام- وقالوا: سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا؛ فإنه كائن له شأن، فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد.
#350#
وروي عن عبيد الله بن أسلم، عن أبيه قال: لما قامت سوق عكاظ انطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عراف من هذيل يريه الناس صبيانهم، فلما نظر إليه صاح: يا معشر هذيل، يا معشر العرب، فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم. فقال: اقتلوا هذا الصبي. فانسلت به حليمة، فجعل الناس يقولون: أي صبي؟ فيقول: هذا الصبي. فلا يرون شيئا، قد انطلقت به أمه، فقالوا له: ما هو؟ قال: رأيت غلاما، وآلهته، ليقتلن أهل دينكم وليكسرن آلهتكم، وليظهرن أمره عليكم. فطلب بعكاظ فلم يوجد.
ورواه عبد الرزاق بن همام في كتابه "المغازي" عن معمر، عن الزهري قال: ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان في حجر جده عبد المطلب، فاسترضعه امرأة من بني سعد بن بكر، فنزلت به أمه التي ترضعه سوق عكاظ، فرآه كاهن من الكهان فقال: يا أهل عكاظ، اقتلوا هذا الغلام؛ فإن له ملكا، فزاغت به أمه التي ترضعه، فأنجاه الله.
وقال هشام بن عمار في كتابه "المبعث": حدثنا الخليل بن موسى الباهلي، عن عبد الله بن عون، عن عبد الملك بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسترضعا في بني سعد بن بكر، فقالت أمه لحاضنته: إني رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب أضاءت له الأرض كلها، فاسألي عن ابني.
#351#
فانطلقت حتى مرت بـ"المجاز" فإذا هي بكاهن سأله الناس، فأتته به، فلما أبصره أخذ بذراعيه وقال: يا قوم، اقتلوه. فلما سمع ذلك أصحابها سعوا، فانتزعوه منه.
ورواه أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ فقال: حدثنا عمر بن محمد بن جعفر، حدثنا إبراهيم بن السندي، حدثنا النضر بن سلمة، حدثنا أبو غزية بن محمد بن موسى، عن فليح بن سليمان، عن بعض الكوفيين -يقال له: رجل صدق-، عن ابن بريدة عن أبيه.
قال أبو غزية: وحدثني أبو عثمان سعيد بن زيد الأنصاري، عن ابن بريدة، عن أبيه بريدة قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضعا في بني سعد بن بكر، فقالت أمه آمنة لمرضعته: انظري ابني هذا فاسألي عنه، فإني رأيت كأنه خرج من فرجي شهاب أضاءت له الأرض كلها، حتى رأيت قصور الشام، وذكر الحديث.
وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر في كتابه "أنباء نجباء الأبناء": أن حليمة بنت أبي ذؤيب قالت: قدم علينا قائف -يعني: رجلا متفرسا
#352#
لا تخطئ فراسته-، فانطلق الناس بأولادهم إلى ذلك القائف يقفون لهم، وانطلق الحارث بن عبد العزي -يعني: زوجها- برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك القائف.
فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذه فقبله، ثم قال: ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون من بني سعد بن بكر.
فقال له الحارث: صدقت، وهو مسترضع فيها، وهو ابني من الرضاعة.
فقال له القائف: اردده على أهله فإن له شأنا عظيما، وستفترق فيه العرب ثم تجتمع عليه.
وقال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله: أن أم النبي صلى الله عليه وسلم لما دفعته إلى السعدية التي أرضعته، قالت لها: احفظي ابني وأخبرتها بما رأت، فمر بها اليهود، فقالت: ألا تحدثوني عن ابني هذا؛ فإني حملته كذا، ورأيت كذا، كما وصفت أمه، فقال بعضهم لبعض: اقتلوه. فقالوا: أيتيم هو؟ فقالت: لا، هذا أبوه وأنا أمه. فقالوا: لو كان يتيما لقتلناه، قال: فذهبت به حليمة وقالت: كدت أخرب أمانتي.
ويروى عن أبي بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو الأنصاري، عن أبيه، عن كعب قال: قالت حليمة: ركبت أتاني، وحملت محمدا
#353#
صلى الله عليه وسلم بين يدي أسير به، حتى أتيت إلى الباب الأعظم من أبواب مكة، وعليه جماعة مجتمعة، فوضعته لأقضي حاجتي وأصلح شأني، فسمعت هدة عظيمة، فالتفت فلم أره، فقلت: معاشر الناس، أين الصبي؟
فقالوا: أي الصبيان؟
قلت: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي نضر الله به وجهي وأشبع جوعي، ربيته، حتى إذا أدركت به سروري أتيت به لأرده وأخرج من أمانتي، اختلس من بين يدي، واللات والعزى لئن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق هذا الجبل.
قالوا: ما رأينا شيئا.
فوضعت يدي على رأسي وقلت: وامحمداه واولداه. فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي.
فأتيت عبد المطلب فأخبرته، فسل سيفه ونادى: يا لغالب -وكانت دعوتهم في الجاهلية- فأجابته قريش، فقال: ابني محمد!
فقالت قريش: اركب نركب معك، ولو خضت بحرا خضناه معك.
فركب وركبوا، فأخذ أعلى مكة وانحدر إلى أسفلها، فلم ير شيئا، فترك الناس وأقبل إلى البيت الحرام فطاف أسبوعا، ثم أنشأ يقول:
يا رب رد راكبي محمدا ... أده إلي واتخذ عندي يدا
#354#
فسمعوا مناديا في الهواء يقول: معاشر الناس، لا تضجوا، إن لمحمد صلى الله عليه وسلم ربا لا يضيعه.
قال عبد المطلب: أيها الهاتف، ومن أين لنا به؟ وأين هو؟
قال: هو بوادي تهامة.
فمضى عبد المطلب، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يجذب الأغصان، ويعبث بالورق فحمله إلى مكة، وجهز حليمة أحسن الجهاز.
وقد تقدمت هذه القصة مطولة بنحوها من طريق محمد بن زكريا الغلابي بإسناده عن ابن عباس.
وروى أبو محمد دعلج بن أحمد في كتابه "مسند المقلين" فقال: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبي هند، عن عباس بن عبد الرحمن الهاشمي، عن كندير بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول:
#355#
رب أد إلي راكبي محمدا ... رده إلي واصطنع عندي يدا
قال: قلت: من هذا؟
قالوا: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت إبل له، فأرسل ابن ابنه في طلبها، وقد احتبس عليه.
وقال دعلج عقيب الحديث المذكور: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا به محمد بن خالد، حدثنا أبي.
ثم ذكر الحديث بإسناده فيه، وقال فيه: فأرسل ابن ابنه، فقد احتبس عليه ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها.
قال: فما برحت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالإبل، فقال: يا بني؛ لقد حزنت عليك هذه المرة حزنا لا يفارقني أبدا.
تابعهما أبو الحسن مهدي بن عيسى، أخبرنا خالد بن عبد الله الواسطي، فذكره.
وحدث به أبو زرعة الدمشقي وابن أبي خيثمة في "تاريخهما"
#356#
عن سعيد بن سليمان، عن خالد بن عبد الله.
تابعهم أبو بشر إسحاق بن شاهين عن خالد به.
وهو في "تاريخ البخاري الكبير": قال عمرو بن عون، قال: حدثنا خالد، عن داود، عن العباس بن عبد الرحمن الهاشمي، عن كندير بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية، فبينما أطوف بالبيت إذا راكب يقول:
رب رد إلي راكبي محمدا ... رده إلي واصطنع عندي يدا
قيل: من هو؟ قيل: عبد المطلب بن هاشم، بعث ابن ابنه محمدا بإبله فلم يجئه، فبينما هو كذلك إذ جاءه فقال: يا بني، لقد حزنت عليك حزنا؛ لا تفارقني بعده أبدا.
قال البخاري: ويقال: هو "سعيد بن حيدة".
و"سعيد بن حيدة القشيري أبو كندير": صحابي رضي الله عنه.
وجاء عن خارجة بن مصعب، عن بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه، عن جده: أن "حيدة بن معاوية" اعتمر في الجاهلية، فذكر نحو حديث سعيد بن حيدة.
و"حيدة بن معاوية" والد "معاوية القشيري"، قيل: له صحبة، قال
#357#
الذهبي: ولم يصح.
قال شيخنا الإمام أبو الفتح محمد بن إبراهيم بن أبي الكرم محمد بن الشهيد في معنى حديث إرسال عبد المطلب النبي صلى الله عليه وسلم في إبله، قال: وما يخرج وراء الإبل إلا وهو مراهق، فتكون وفاة "عبد المطلب" بعد أن عدى العاشرة، وهذا أقوى ما حكوه. انتهى.
وهذا الحصر فيه نظر مع [ما] جاءت به الرواية فيما قدمناه من قول حليمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، وفي الشهر شباب الصبي في سنة، فلا يبعد على هذا أن يخرج في الإبل وعمره دون العشرة، والله أعلم.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الخلاف في سنن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات جده قول: "إنه كان ابن عشر سنين"، والله أعلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- يخرج وهو طفل، فينظر إلى الصبيان وهم يلعبون، فيعرض عنهم.
وقد تقدم معنى ذلك في رواية محمد الغلابي.
وقال معمر بن راشد: كان النبي صلى الله عليه وسلم ابن سنتين، أو: ثلاث، فقال له
#358#
الصبيان: لم لا تلعب؟ فقال: أللعب خلقت؟!
وقيل: كانت هذه القصة لغيره صلى الله عليه وسلم.
#359#
$إخوته صلى الله عليه وسلم$
وإخوته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة من "ثويبة" و"حليمة":
فمن "ثويبة":
ابنها "مسروح"، كما تقدم من طريق الواقدي في "طبقات ابن سعد".
وأسد الله "حمزة بن عبد المطلب بن هاشم".
و"أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم".
وفيما ذكره الشريف النسابة محمد بن أسعد الجواني:
"أم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم".
وذكر ابن منده وغير أنها "أم حكيم"، قال ابن منده: وقيل: "أم الحكم، أخت ضباعة بنت الزبير"، وقال عبد الله بن أبي داود: هي بنت عبد المطلب بن هاشم"، ذكرها ابن منده وغيره في الصحابة.
#360#
و"حمزة" رضي الله عنه رضيع النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين:
قال الواقدي: حدثني عمر بن سعيد بن أبي حسين عن أبي مليكة قال: كان "حمزة بن عبد المطلب" رضي الله عنه رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرضعتهما امرأة من العرب، كان "حمزة" مسترضعا له عند قوم في بني سعد بن بكر، وكانت أم حمزة قد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند أمه حليمة.
فبهذا صار حمزة رضي الله عنه رضيعه من وجهين: من "ثويبة" و"السعدية"، وعلى هذا تكون مراضع النبي صلى الله عليه وسلم سوى أمه آمنة ثلاثا: "ثويبة" و"حليمة السعدية" و"السعدية ظئر حمزة".
وقد جاء أن نسوة أبكارا من بني سليم مررن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجن ثديهن فوضعنها في في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فدرت، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن العواتك من سليم". وتقدم الحديث معللا.
وذكر بعضهم من مراضعه صلى الله عليه وسلم: "أم أيمن بركة" وهو بعيد.
وأبعد منه ما ذكره أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري في الصحابيات، فقال: "أم فروة" ظئر النبي صلى الله عليه وسلم.
#361#
وقال: أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو علي إسماعيل بن عباد -هو: أخو القاسم بن عباد البصري، حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أم فروة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت إلى فراشك فاقرئي: {قل يأيها الكافرون} فإنها براءة من الشرك".
شبه على جماعة بهذا الحديث ونحوه، فعدوا "أم فروة" في مراضع النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه اضطراب، فقيل، في رواية أيضا: "فروة"، وقيل: "نوفل"، وقيل: "عن فروة بن نوفل، عن جبلة بن حارثة" رواه شريك، عن أبي إسحاق، عن فروة كذلك.
ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن فروة بن نوفل أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني شيئا أقوله إذا أويت إلى فراشي. قال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون} الحديث .
#362#
ورواه يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل، عن أبيه: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره نحوه بمعناه.
خرجهما من طريق شعبة ويحيى بن آدم: الترمذي في "جامعه" قال: وروى "زهير" هذا الحديث، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وهذا أشبه وأصح من حديث شعبة. انتهى.
ورواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" فقال: حدثنا عبد الواحد بن غياث أبو بحر، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل قال: أتيت المدينة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك؟" قال: قلت: جئت لتعلمني كلمات إذا أخذت مضجعي. قال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون}؛ فإنها براءة من الشرك".
تابعه شبابة، عن عبد العزيز مثله.
ورواه الثوري عن أبي إسحاق كذلك.
والمشهور ما صححه الترمذي عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن أبيه مرفوعا به.
وإنما وقعت -والله أعلم- شبهة من عد "أم فروة" في مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم مع ما تقدم في رواية المستغفري عن زاهر: ما جاء من رواية أبي أحمد
#363#
الزبيري محمد بن عبد الله قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه كان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه ابنة أم سلمة فقال: "إنما كانت ظئري"، ثم ذهب فمكث، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما فعلت الجارية -أو: الجويرية-؟" قال: في عافية. قال: "ففيم جئت؟" قال: جئت تعلمني شيئا أقرأه عند المنام. فقال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون} عند منامك؛ فإنها براءة من الشرك".
وخرجه أبو سعيد أحمد بن محمد بن الأعرابي في "معجمه" فقال: حدثنا إسحاق بن أبي إسحاق الصفار، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفل الأشجعي، عن أبيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم دفع إليه بنت أم سلمة فقال له: "أنت ظئري".
قال: ثم ذهب، فلبث ما شاء الله، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "ما فعلت الجارية -أو: الجويرية- ؟" فقال: عند أمها، قال: "فمجيء ما جئت؟" قال: جئت تعلمني شيئا أقوله عند المنام. قال: "اقرأ: {قل يأيها الكافرون} عند منامك؛ فإنها براءة من الشرك".
ففي هذا: أن أبا فروة ظئر ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أم سلمة، سماه ظئره بهذا، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم الطليطلي القرطبي ابن الأمين في استدراكه على أبي عمر بن عبد البر: "خولة بنت المنذر بن زيد بن أسد بن خراش" التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، ذكرها العدوي.
#364#
وهذا فيه نظر من غير وجه، فأبو عمر ابن عبد البر قد ذكرها في "الكنى" كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فلا فائدة للاستدراك غير تسميتها بـ "خولة"، فإن أبا عمر لم يسمها.
وقوله: "أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم" فليس كذلك، والله أعلم، فإنها أرضعت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره غير واحد، وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد ولده "إبراهيم" قريب من ستين سنة، فيبعد -والله أعلم- وقوع رضاعها النبي صلى الله عليه وسلم ورضاع ولده "إبراهيم" وبينهما نحو من ستين سنة، ولعل الوهم حصل حين روي عن خولة: أنها أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر "إبراهيم" في الرواية، فتصحفت اللام التي في قوله "للنبي" بهمزة، فقيل: أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة قال: لما ولد "إبراهيم" تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه؟ فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، فكانت ترضعه؟ فكانت يكون عند أبويه في بني النجار، ويأتي رسول الله أم بردة فيقيل عندها ويؤتى بـ "إبراهيم" عليه السلام.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الكنى" الذي وصل به "الاستيعاب": "أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد بن خداش بن
#365#
عامر بن غنم بن عدي بن النجار" هي التي أرضعت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليهما وسلم دفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها ساعة وضعته أمته "مارية"، فلم تزل ترضعه حتى مات عندها، وهي: زوج "البراء بن أوس".
.. [7] ..
وجاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم أمه في ألف مقنع، فبكى بكاء شديدا، وبكى المسلمون، فلم أر مثل ذلك اليوم.
قال ابن القيم -رحمه الله وإيانا-: وكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم من جنس ضحكه، لم يكن برفع صوت ولا شهيق، ولكن تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل، وكان بكاؤه صلى الله عليه وسلم تارة رحمة للميت، وتارة خوفا وشفقة على أمته، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال مصاحب للخوف والخشية.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: [قال] رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي؟" فنزلت: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل.
#366#
وجاء نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما، حكاه عنه أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في كتابه "أسباب النزول"، وقال عقيبه: وهذا على قراءة من قرأ: {ولا تسئل عن أصحاب الجحيم} جزما.
وكذلك حكاه عن ابن عباس أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي في "تفسيره"، وقال: وهذا كما يقال: ولا تسأل عن فلان، أي: قد بلغ فوق ما تحسب.
قال القرطبي: وقد ذكرنا في "التذكرة": أن الله عز وجل أحيا له أبويه حتى آمنا به، وأجبنا عن قوله: "إن أبي وأباك في النار".
وما ذكره القرطبي في "التذكرة" في هذا المعنى أنه قال: جاء في هذا الباب حديث يعارض حديث هذا الباب، وهو ما خرجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب "السابق واللاحق" وأبو حفص عمر بن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" -له في الحديث- بإسناديهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فمر بنا
#367#
على "عقبة الحجون" وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه طفر، فنزل، فقال: "يا حميراء، استمسكي"، فاستندت إلى جنب البعير، فمكث عني طويلا، ثم إنه عاد إلي وهو فرح متبسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك يا رسول الله، ثم إنك عدت إلي وأنت فرح متبسم، فعم ماذا يا رسول الله؟ فقال: "ذهبت لقبر أمي آمنة، فسألت الله ربي أن يحييها لي، فأحياها وآمنت بي -أو قال: فآمنت- وردها الله عز وجل".
لفظ الخطيب، قاله القرطبي.
قلت: وإسناده هو ما قال الخطيب: أخبرنا القاضي أبو العلاء الواسطي، حدثنا الحسين بن علي بن محمد الحلبي، حدثنا أبو طالب عمر بن الربيع الزاهد، حدثنا علي بن أيوب
#368#
الكعبي، حدثني محمد بن يحيى الزهري أبو غزية، حدثني عبد الوهاب بن موسى، حدثني مالك بن أنس، عن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فذكره.
#369#
قال القرطبي: قلت: وقد ذكر السهيلي في "الروض الأنف" -له- بإسناد فيه مجهولون: "أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به". انتهى.
قال السهيلي: وروي حديث غريب، لعله أن يصح، وجدته بخط جدي أبي عمر أحمد بن أبي الحسن القاضي -رحمه الله تعالى- بسند فيه مجهولون، ذكر أنه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد، يرفعه إلى أبي الزناد، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها
#370#
أخبرت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يحيي له أبويه، فأحياهما له وآمنا به، ثم أماتهما، والله تعالى قادر على كل شيء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شيء، ونبيه صلى الله عليه وسلم أهل أن يخصه الله تعالى بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
#371#
قلت: وحكى الحافظ محمد بن عبد الله بن سنجر الجرجاني في "مسنده": أن النبي صلى الله عليه وسلم أحيا أبويه الله، فأسلما على يديه، وماتا.
قال القرطبي: ولا تعارض والحمد لله؛ لأن إحياءهما متأخر عن النهي بالاستغفار لهما، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: أن ذلك كان في حجة الوداع؛ ولذلك جعله ابن شاهين ناسخا لما ذكر من الأخبار.
[وقد قيل: إن الحديث في إيمان أمه وأبيه موضوع يرده القرآن العظيم والإجماع].
قال: ذكره الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية، وفيه نظر، [وذلك] أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتابع إلى حين مماته، فيكون هذا مما فضله الله تعالى وأكرمه به، وليس
#372#
إحياؤهما وإيمانهما به صلى الله عليه وسلم ممتنعا عقلا وشرعا، فقد ورد في الكتاب إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله، وكان عيسى عليه السلام يحيي الموتى، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله على يديه جماعة من الموتى، وإذا ثبت [هذا] فما يمنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته صلى الله عليه وسلم، مع ما ورد من الخبر في ذلك، ويكون ذلك خصوصا فيمن مات كافرا".
يعني لما قد قيل: إن الحديث في إيمان أبيه وأمه موضوع يرده القرآن العظيم والإجماع، قال الله تعالى: {ولا الذين يموتون وهم كفار} فمن مات كافرا لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، فكيف بعد الإعادة؟!
ذكر القرطبي لفظ رواية الخطيب في كتابه "السابق واللاحق"، ولم يذكر لفظ رواية ابن شاهين، وهي ما خرجها في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه"، فقال في أواخر الكتاب: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد مولى الأنصار، حدثنا أحمد بن يحيى الحضرمي بمكة، حدثنا أبو غزية
#373#
محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل إلى "الحجون" كئيبا حزينا، فأقام به ما شاء ربه عز وجل، ثم رجع مسرورا، فقلت: يا رسول الله، نزلت إلى "الحجون" كئيبا حزينا، فأقمت به ما شاء الله، ثم رجعت مسرورا؟
فقال: "سألت ربي عز وجل، فأحيا لي أمي، فآمنت بي، ثم ردها".
تابعه القاضي أبو بكر محمد بن عمر بن محمد الأخضر، حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، فذكره.
و "أبو غزية" هذا رماه الدارقطني والبرقاني بالوضع.
وشيخه قال فيه الذهبي في "الميزان": لا يدرى من ذا الحيوان الكذاب. انتهى.
#374#
وقد روي أيضا أن الله عز وجل أحيا له جده عبد المطلب وآمن به.
ولا يثبت أيضا.
وقال الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن أبي إسحاق إبراهيم بن يعقوب البخاري الكلاباذي في كتابه "معاني الأخبار":
حدثنا محمد بن إسحاق الخزاعي، حدثنا سعيد بن مسعود المروزي، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي وعبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة -إن شاء الله- قال: قيل: يا رسول الله، فهل أنت شافع لأبويك؟ قال: "إني لشافع لهما، أعطيت أو منعت، وما أرجو لهما".
#375#
وقال إبراهيم بن عبد الله الكجي: حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، حدثنا الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم، عن عثمان بن عمير، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه: قال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أين أبواك؟
قال: "ما شاء ربي فيهما شاء، وإني لقائم المقام المحمود".
وخرجه الطبراني مطولا في "معجمه الأوسط" فقال: حدثنا أبو مسلم، حدثنا عارم أبو النعمان، فذكره، ولفظه: قال: [جاء] ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تحفظ على البعل، وتكرم الضيف، وقد وأدت في الجاهلية، فأين أمنا؟ قال: "أمكما في النار"، فقاما، وقد شق ذلك عليهما، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعا إليه، فقال: "أمي مع أمكما"، فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمه شيئا، ونحن نطأ عقبيه.
#376#
فقال رجل من الأنصار شاب -لم أر رجلا أكثر سؤالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه-: يا رسول الله، أين أبواك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سألت ربي عز وجل فيهما، وإني لقائم المقام المحمود".
لم يرو هذا الحديث عن أبي وائل إلا عثمان بن عمير، تفرد به الصعق بن حزن.
قاله الطبراني.
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده": حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا علي بن الحكم البناني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابنا مليكة، فذكر الحديث بنحوه.
وحدث به أبو نعيم في "الحلية": عن سليمان بن أحمد -هو: الطبراني- حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عارم أبو النعمان، فذكره، ولفظه: جاء ابنا مليكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تكرم الزوج، وتعطف على الولد، وتكرم الضيف، غير أنها كانت وأدت في الجاهلية؟ قال: "أمكما في النار"، فأدبرا والشر يرى في وجوههما، فأمر بهما فردوا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن يكون حدث شيء، قال: "أمي مع أمكما". فقال رجل من المنافقين:
#377#
وما يغني هذا عن أمه ونحن نطأ عقبه؟ فقال رجل من الأنصار ولم أر رجلا قط كان أكثر سؤالا منه: يا رسول الله، هل وعدك ربك فيها أو فيهما؟ قال: "ما سألت ربي، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة" وذكر الحديث بطوله.
تابعهم المقدمي عن عارم.
وخرجه أبو حفص ابن شاهين في كتابه "ناسخ الحديث ومنسوخه" فقال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا إبراهيم بن سعيد وزهير بن محمد -وله اللفظ-، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم، عن عثمان بن عمير، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء ابنا مليكة فقالا: يا رسول الله، إن أمنا كانت تكرم الضيف، وقد وأدت في الجاهلية، فأين أمنا؟ قال: "أمكما في النار"، فقاما وقد شق ذلك عليهما، فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن أمكما مع أمي"، فقال منافق من الناس: أو ما يغني هذا عن أمه إلا ما يغني ابنا مليكة عن أمهما؟ فقال شاب من الأنصار: يا رسول الله، لو أن أبويك؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما سألت ربي فيعطيني فيهما".
#378#
وقد جاء الإفصاح بالشفاعة لهما فيما رواه أبو الحارث أحمد بن محمد بن عمارة بن أبي الخطاب الليثي ومحمد بن هارون بن شعيب بن عبد الله، قالا: حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي، حدثنا أبو سليمان أيوب المكتب، حدثنا الوليد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب وأخ لي كان في الجاهلية".
حديث منكر من قبل الوليد بن سلمة، هذا وهو: أبو العباس قاضي الأردن، وقال ابن عدي: قاضي طبرية. انتهى.
يروي عن عبيد الله بن عمر، وعمر بن صهبان، وعمر بن محمد بن زيد العمري، وابن أبي ذئب، وعنه أيضا: أحمد بن نصر بن زياد النيسابوري، وعباس بن محمد الدوري، وابنه: إبراهيم بن الوليد.
سئل أبو زرعة عنه فقال: آه آه، أتينا ابنه - يعني: إبراهيم- وكان صدوقا، وكان يحدثنا بأحاديث مستقيمة، فكلما أخذ في أحاديث أبيه جاء - يعني: بالأوابد.
وقال أبو عبد الله الحاكم: روى عن عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب أحاديث موضوعة. وقال عنه مرة: كذاب يضع الحديث.
وكذبه دحيم وغيره.
#379#
وقال محمد بن المثنى: حدثنا عبيد الله بن محمد القرشي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أترجو لأبي طالب؟ قال: "كل الخير أرجو من ربي عز وجل".
#380#
$كفالة عبد المطلب له صلى الله عليه وسلم$
ولما ماتت أم النبي صلى الله عليه وسلم قبضه جده عبد المطلب، وضمه إليه.
قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري. ح.
وحدثني عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله. ح.
وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي، عن المنذر بن جهم. ح.
وحدثنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ح.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن أبي الحويرث. ح.
وحدثنا ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير.
دخل حديث بعضهم في حديث بعض، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب، وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني، إنه ليؤنس ملكا.
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه.
فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. فكان أبو طالب يحتفظ به.
#381#
وقال عبد المطلب لأم أيمن - وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم-: يا بركة، لا تغفلي عن ابني، فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا قال: علي بابني. فيؤتى به إليه.
وفي سنة سبع من مولده صلى الله عليه وسلم استسقى عبد المطلب ومعه النبي صلى الله عليه وسلم فسقوا.
وفيها: بشر سيف بن ذي يزن عبد المطلب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم ذلك.
وفي هذه السنة: حصل له -فيما يروى- رمد شديد، فعولج بمكة فلم يغن عنه، فقيل لعبد المطلب: إن في ناحية "عكاظ" راهبا يعالج الأعين. فركب إليه، فناداه -وديره مغلق- فلم يجبه، فنزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه، فخرج مبادرا فقال: يا عبد المطلب، هذا الغلام نبي هذه الأمة، ولو لم أخرج إليك لخر علي ديري، فارجع به واحفظه لا يغتاله بعض أهل الكتاب. ثم عالجه وأعطاه ما يعالج به، وألقى الله المحبة في قلوب قومه وكل من يراه.
#382#
وقال أبو الحسن الماوردي في كتابه "أعلام النبوة": ومثله: أن جماعة من النصارى قدموا من الشام تجارا إلى مكة، فنزلوا بين الصفا والمروة، فرأوه -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- وهو ابن سبع سنين فعرفه بعضهم بصفته في الكتب كتبهم وسمته في فراستهم، فقال له: من أنت؟ وابن من أنت؟
فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب".
فقال له: من رب هذه وأشار إلى الجبال؟
فقال: "الله ربها، لا شريك له".
فقال له: من رب هذه وأشار إلى الأرض؟
فقال: "الله ربها، لا شريك له".
فقال: من رب هذه وأشار إلى السماء؟
فقال: "الله ربها، لا شريك له".
فقال له النصراني: فهل له رب غيره؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تشككني في الله، ما له شريك ولا ضد".
قال: فقام بالتوحيد في صغره، وأفصح النصراني بخبره، وأنذر بنبوته.
وذكر الواقدي: أن عبد المطلب كان يفرش له فراش إلى جدار الكعبة، فيجلس عليه في ظلها، ويحدق به بنوه وسادات قريش، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين، فلا يثنيه عن الفراش شيء حتى يجلس عليه فيزيله عنه أعمامه، فيبكي حتى يردوه إليه، فطلع يوما عبد المطلب
#383#
فرآهم قد زالوه عن الفراش فقال لهم: ردوا ابني إلى مجلسي، فإنه سيكون له شأن، فكان بعد ذلك لا يردونه عنه؛ حضر عبد المطلب أو غاب.
وحدث بنحوه يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله.
وقال أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي: حدثنا سعيد بن سالم، حدثني ابن جريج قال: كنا جلوسا مع عطاء بن رباح في المسجد الحرام، فتذاكرنا ابن عباس وفضله، وذكر الحديث، وفيه: قال: فسمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة، وأحسن الناس وجها، ما رآه أحد قط إلا أحبه، وكان له مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره ولا يجلس عليه أحد، وكان الندب الندب من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ، فجلس على المفرش، فجبذه رجل، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد المطلب -وذلك بعدما كف بصره-: ما لابني يبكي؟ قالوا له: إنه أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه. فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحس من نفسه بشرف، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغ عربي قبله ولا بعده.
#384#
$موت عبد المطلب وكفالة أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم$
ومات عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي، حتى دفن بـ "الحجون".
رواه هكذا القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، عن عبد الله بن شبيب، عن الأزرقي به.
وحدث بنحوه أبو الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الأزرقي في كتابه "أخبار مكة": عن جده.
وقالت أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي خلف سرير عبد المطلب.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: ومات عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم ابن ثمان سنين، فلم يبك أحد كان قبله بكاءه.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال:
#385#
"نعم، أنا يومئذ ابن ثمان سنين".
هذا هو المشهور في سن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي جده.
وذكر أبو الحسين بن فارس اللغوي: أن عمره كان حينئذ ثمان سنين وشهرين وعشرة أيام.
وقيل لما توفي عبد المطلب كان للنبي صلى الله عليه وسلم ست سنين.
وقيل: عشر سنين.
وقيل: ثلاث سنين، فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر، وهو بعيد جدا.
والمشهور الأول: أن عبد المطلب توفي في السنة الثامنة من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومات في تلك السنة "حاتم الطائي" المشهور بالكرم، و "كسرى نوشروان" المشهور بالعدل.
ثم انتقل النبي صلى الله عليه وسلم بعد جده إلى عمه أبي طالب؛ لأن "أبا طالب" و"عبد الله" كانا شقيقين كما ذكره غير واحد، منهم: عبد الرزاق في "مغازيه" عن معمر عن الزهري.
#386#
وأيضا كان أخوهما "الزبير" شقيقهما، وكان حينئذ موجودا.
فاختلف العلماء في سبب تقديم أبي طالب في كفالة النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير، فاختار أبا طالب.
والثاني: أن "أبا طالب" و"الزبير" اقترعا، فخرجت القرعة لأبي طالب.
والثالث: أن عبد المطلب أوصى إلى أبي طالب بذلك. وقد روي: أنه قال لأبي طالب حين حضره الموت:
أوصيك يا عبد مناف بعدي
بموتم بعد أبيه فرد
فارقه وهو ضجيع المهد
فكنت كالأم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد
#387#
حتى إذا خفت نفاد الوعد
أوصيك أرجى أهلنا للرفد
بابن الذي غيبته في اللحد
بالكره مني لم يكن بالعمد
فقال لي والقول ذي مرد
ما ابن أخي إن عشت في معد
إلا بأدنى ولدي في الود
عندي أرى ذلك باب الرشد
بل أحمد أرجو به للرشد
في كل أمر في الأمور ود
قد علمت علام أهل العهد
أن الفتى سيد أهل نجد
يعلو على ذي البدن الأشد
وبلغنا أيضا أنه قال :
أوصيت من كنيته بطالب
عبد مناف وهو ذو تجارب
يا بن الذي قد غاب غير آيب
فلست بالآنس غير الرايب
بأن يحق الله قول الراهب
فيه وأن يفضل آل غالب
#388#
إني سمعت أعجب العجائب
من كل حبر عالم وكاتب
هذا الذي يقتاد بالجنائب
من حل بالأبطح والأخاشب
أيضا ومن ثاب إلى المثاوب
من ساكن الحرم أو مجاوب
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن واقد، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. ح.
وحدثنا معاذ بن محمد الأنصاري، عن عطاء، عن ابن عباس. ح.
وحدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة -دخل حديث بعضهم في حديث بعض- قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حبا شديدا، لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه، وصب صبابة لم يصب مثلها شيء قط، وقد كان يخصه بالطعام، وإذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغديهم قال: كما أنتم حتى يحضر ابني. فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإذا لم يكن معهم لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك، وكان الصبيان
#389#
يصبحون رمصا شعثا، ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم كحيلا دهينا.
وقال ابن سعد أيضا: أخبرنا علي بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن محمد بن عمر الشامي، عن أشياخه قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجر أبي طالب، وكان أبو طالب قليل المال، كانت له قطعة من إبل، فكان يؤتى بلبنها، فإذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يطعمهم قال: أربعوا حتى يحضر ابني. فيأكل معهم فتفضل من طعامهم، وإن كان لبن شرب أولهم، ثم يناولهم فيشربون فيروون من آخرهم، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. وكان يصبح الصبيان رمصا ويصبح النبي صلى الله عليه وسلم مدهونا مكحولا.
قالت أم أيمن: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شكى صغيرا ولا كبيرا جوعا ولا عطشا، كان يغدو فيشرب من "زمزم"، فأعرض عليه الغداء فيقول: "لا أريده، أنا شبعان" صلى الله عليه وسلم.
وقال الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي: حدثنا علي بن ثابت، عن طلحة بن عمرو، سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان بنو أبي طالب يصبحون غمصا رمصا،
#390#
ويصبح محمد صلى الله عليه وسلم صقيلا دهينا.
وبالإسناد: قال عطاء: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كان أبو طالب يقرب إلى الصبيان بصبحتهم أول البكرة، فيجلسون وينتهبون، ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده لا ينتهب معهم، فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.
وروى عبد الله بن عون، عن عمرو بن سعيد الثقفي مولاهم البصري: أن أبا طالب قال: كنت بـ "ذي المجاز" ومعي ابن أخي -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم-، فأدركني العطش، فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخي، قد عطشت، وما قلت له وأنا أرى أن عنده شيئا إلا الجزع. قال: فثنى وركه، ثم نزل فقال: "يا عم، أعطشت؟" قلت: نعم. فأهوى بعقبه إلى الأرض، فإذا بالماء، فقال: "اشرب يا عم"، فشربت.
$[مطلب في وفاة والدة علي بن أبي طالب رضي الله عنه][8]$
وقال أبو نعيم في "الحلية": حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن حماد بن زغبة، حدثنا روح بن صلاح، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أنس رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: "رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسوني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة"، ثم أمر أن تغسل ثلاثا، فلما
#391#
بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه، وألبسها إياه وكفنها فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم "أسامة بن زيد" و"أبا أيوب الأنصاري" و"عمر بن الخطاب" وغلاما أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال: "الحمد لله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين"، وكبر عليها أربعا وأدخلها اللحد هو و"العباس" و"أبو بكر الصديق" رضي الله عنهما.
غريب من حديث عاصم والثوري، لم نكتبه إلا من حديث روح بن صلاح، تفرد به.
قاله أبو نعيم.
وشيخه: "سليمان بن أحمد" هو: الطبراني، وقد خرج هذا الحديث في "معجمه الأوسط" كذلك، ثم قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن عاصم الأحول إلا سفيان الثوري، تفرد به روح بن صلاح.
$[مطلب في سفر أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم] [9]$
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة خرج في سفر - فيما روي- مع عمه: الزبير بن عبد المطلب، فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز، فأرادوا الانحراف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكفيكموه"، فدخل أمام الركب، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله، فنزل
#392#
عن بعيره، فركبه، فسار حتى جاوز الوادي، ثم خلى عنه، فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق، فوقفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتبعوني"، ثم اقتحمه واتبعوه، فأيبس الله عز وجل الماء، فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك، فقال الناس: إن لهذا الغلام شأنا.
ذكره ابن الجوزي في حوادث المولد في كتاب "الوفا".
#393#
$سفر أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر "بحيرا الراهب" وغيره$
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة فيما رواه ابن سعد من قول داود بن الحصين: ارتحل به أبو طالب تاجرا قبل الشام، وقيل: كان ذلك وللنبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين.
#394#
قاله: أبو عبد الله الواقدي، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وأبو الحسن الماوردي.
وقيل: خرج به أبو طالب لعشر خلون من "ربيع الأول" سنة ثلاثة عشر من "الفيل".
وذكر عبد الرزاق في "المغازي" عن معمر عن الزهري قال: فلما ناهز الحلم -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ارتحل به أبو طالب تاجرا قبل الشام، فلما نزل "تيماء" رآه حبر من يهود "تيماء"، فقال لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: هو ابن أخي. قال له: أشفيق أنت عليه؟ قال: نعم.
#395#
قال: فوالله لئن قدمت به الشام لا تصل به إلى أهلك أبدا، ليقتلونه، إن هذا الغلام عدوهم.
تابعه يونس عن الزهري نحوه مطولا.
وقيل: كانت هذه القصة وعمر النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة سنة وشهرين.
وقيل: وشهرا وعشرة أيام.
وقد رويت هذه القصة من طرق، منها: ما قال محمد بن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا أبو المليح، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل قال: أراد أبو طالب المسير إلى الشام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عم، إلى من تخلفني ههنا؟ ما لي أم تكفلني، ولا أحد يؤويني".
قال: فرق له، ثم أردفه خلفه، فخرج به، فنزلوا على صاحب دير.
فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك؟
قال: ابني.
قال: ما هو بابنك، ولا ينبغي أن يكون له أب حي.
قال: ولم؟
قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي.
قال: وما النبي ؟
#396#
قال: الذي يوحى إليه بالأمر من السماء ينبئ به أهل الأرض.
قال: الله أجل مما تقول.
قال: فاتق عليه اليهود.
قال: ثم خرج حتى نزل براهب صاحب دير فقال: ما هذا الغلام؟
قال: ابني.
قال: ما هو بابنك، ولا ينبغي أن يكون له أب حي.
قال: ولم ذاك؟
قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي.
قال: سبحان الله، الله أجل مما تقول.
قال: يا ابن أخي، ألا تسمع إلى ما يقولون؟
قال: "أي عم، لا تنكر لله عز وجل قدره".
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا محمد بن صالح بن دينار وعبد الله بن جعفر الزهري قال: -يعني محمد بن عمر-: وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قالوا: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن ثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركب "بصرى" -من الشام- وبها راهب -يقال له: "بحيرا"- في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه، فلما نزلوا بـ "بحيرا" وكانوا كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من صومعته، قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا، فصنع لهم طعاما، ثم دعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من
#397#
بين القوم، حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة، وأخضلت أغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها، فلما رأى "بحيرا" ذلك نزل من صومعته، وأمر بذلك الطعام، فأتي به، وأرسل إليهم.
فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا، حرا ولا عبدا؛ فإن هذا شيء تكرمون به.
فقال رجل: إن لك لشأنا يا "بحيرا"، ما كنت تصنع بنا هذا، فما شأنك اليوم؟
قال: فإني أحببت أن أكرمكم، فلكم حق.
فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه، ليس في القوم أصغر منه في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر "بحيرا" إلى القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم، ورآها متخلفة على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال "بحيرا": يا معشر قريش، لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي.
قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم.
فقال: ادعوه فليحضر طعامي، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد منكم! مع أني أراه من أنفسكم.
فقال القوم: هو والله أوسطنا نسبا، وهو ابن أخ هذا الرجل -يعنون: أبا طالب-، وهو من ولد عبد المطلب.
فقال الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف: والله، إن كان بنا للؤم أن نخلف ابن عبد المطلب من بيننا. ثم قام إليه فاحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجعل "بحيرا"
#398#
يلحظه لحظا شديدا، وينظر على أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته، فلما تفرقوا عن طعامه قام إليه الراهب.
فقال: يا غلام، أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما".
قال: فبالله، إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
قال: "سلني عما بدا لك".
فجعل يسأله عن أشياء من حاله حتى نومه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره، فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على الصفة التي عنده، فقبل موضع الخاتم، وقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا. وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه، فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك.
قال أبو طالب: ابني.
قال: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون لهذا الغلام أب حي.
قال: فابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: هلك وأمه حبلى به.
قال: فما فعلت أمه؟
قال: توفيت قريبا.
قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه عرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنتا؛ فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا، واعلم أني قد أديت إليك
#399#
النصيحة.
فلما فرغوا من تجاراتهم خرج به سريعا، وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى "بحيرا" فذكروه أمره، فنهاهم أشد النهي وقال لهم: أتجدون صفته؟
قالوا: نعم.
قال: فما لكم إليه سبيل.
فصدقوه، وتركوه، ورجع به أبو طالب، فما خرج به سفرا بعد ذلك تخوفا عليه.
وقال أبو عبد الله محمد بن عائذ القرشي في "المغازي": حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرنا أبو داود سليمان بن موسى: أن أبا طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج به إلى الشام، فلما قدموا الشام مروا بقرية يقال لها: "ميفعة" من أرض "البلقاء"، وفيها راهب يقال له: "بحيرا"، فخرج إليهم "بحيرا" وكان قبل ذلك يقدمون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، فجعل يتخللهم، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال شيوخ من قدم معه من قريش: وما علمك؟
قال: علمي: أنكم لما أشرفتم من "العقبة" لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجد إلا لنبي، وأعرفه بالصفة وبخاتم النبوة مثل التفاحة، أسفل من غضروف كتفه، ثم انطلق "بحيرا" فأتاهم بطعام.
وذكر بقية الحديث، وهو حديث معضل.
#400#
وكذلك: ما رواه معتمر بن سليمان فقال: حدثني أبي، عن أبي مجلز: أن أبا طالب سافر إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم، فنزل منزلا، فأتاه راهب فقال: فيكم رجل صالح، ثم قال: أين أبو هذا الغلام؟ قال أبو طالب: ها أنا ذا وليه. قال: احتفظ به ولا تذهب به إلى الشام، إن اليهود قوم حسد، وإني أخشاهم عليه. وذكر بقيته.
وقال عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح: أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فخلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت.
قال: فهم يحلون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهب، حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ قريش: ما علمك؟
فقال: إنكم حين أشرفتم من "العقبة" لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدان إلا لنبي، وأنا أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاما.
فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فقال: انظروا إليه، عليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.
فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم أن لا تذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه. فالتفت فإذا هو بسبعة قد أقبلوا عليهم
#401#
من الروم، فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: جئنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا.
فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟
قالوا: إنما اخترنا خيرة لطريقك هذا.
قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟
قالوا: لا.
قال: فبايعوه وأقاموا معه.
قال: فأتاهم فقال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوده الراهب من الكعك والزيت.
رواه العباس بن محمد الدوري فقال: حدثنا أبو نوح، أخبرنا يونس ابن أبي إسحاق، فذكره.
وخرجه الترمذي فقال: حدثنا الفضل بن سهل أبو العباس البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن غزوان، فذكره.
وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وحدث به الطبراني في "معجمه" عن عبيد بن غنام، حدثنا
#402#
أبو بكر ابن أبي شيبة. وعن الحسين بن إسحاق، حدثنا عثمان بن أبي شيبة. قالا: حدثنا قراد أبو نوح، فذكره.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" وصححه.
وخرجه أبو بكر الخرائطي في "هواتف الجنان".
وخرجه البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" من حديث أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم قال: حدثنا العباس بن محمد، حدثنا قراد أبو نوح فذكره، وفي آخره: قال أبو العباس: سمعت العباس [يقول]: ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير "قراد"، وسمعه أحمد ويحيى بن معين من قراد.
قال البيهقي: وإنما أراد أنه بإسناده هذا موصولا، فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة. انتهى.
وليس في إسناد هذا الحديث إلا من خرج له في "الصحيح"، و"عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح" لقبه: "قراد"، انفرد به البخاري، و"يونس بن أبي إسحاق": انفرد به مسلم، ومع ذلك ففي متنه نكارة
#403#
وهي: إرسال أبي بكر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم بلالا، وكيف وأبو بكر يومئذ لم يبلغ العشر سنين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر رضي الله عنه بأزيد من عامين، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم تسعة أعوام. على ما قاله أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره، أو اثنا عشر عاما على ما قاله آخرون.
وأيضا: فإن بلالا لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما؛ فإنه كان لبني الجمحيين، وعندما عذب في الله تعالى على الإسلام اشتراه أبو بكر رضي الله عنهما رحمة له واستنقاذا من أيديهم، وخبره بذلك مشهور.
قاله أبو الفتح ابن سيد الناس في كتابه "عيون الأثر".
وخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار هذا الحديث في "مسنده"، وقال فيه: وأرسل معه أبو بكر رجلا ولم يقل: "بلالا".
وذكر مغلطاي فيما أنبأونا عنه في كتابه "الإشارة" أن فيه وهما ثانيا في قوله: فبايعوه، قال: بايعوه على أي شيء؟
وكذلك عده الدمياطي وهما مع الذي قبله، فكأنهما ذهبا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان المبايع، وكان حينئذ طفلا، ولم يكن بعث، فكيف يبايع؟
وليس كما ذهبا إليه، والله أعلم.
#404#
وهذا الحديث عد أبو نعيم وابن منده "بحيرا" من الصحابة، كأنهما ذهبا -والله أعلم- إلى رؤيته النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول الراوي في الحديث: "فبايعوه" صحيح، أي: بايعوا "بحيرا" أنهم لا يقتلون النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤذنوه، أو نحو ذلك، فالضمير عائد على "بحيرا" لا على النبي صلى الله عليه وسلم، ويعضد هذا قوله: وأقاموا معه أنهم كانوا على دينه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير -رحمه الله وإيانا- في "السيرة" التي جمعها حين ذكر حديث عبد الرحمن بن غزوان هذا، قال: وفيه ذكر الغمامة، ولم أر لها ذكرا في حديث ثابت أعلمه سواه.
#405#
وقال في "تاريخه" نحوه، قال: إن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا الثالث. يعني: حديث ابن غزوان.
وهذا عجيب منه، كيف غفل عن تلك القصة المشهورة الصحيحة المجمع عليها التي ثبتت من حديث عروة بن الزبير: أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ: قرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني"، وذكر الحديث.
خرجه البخاري: عن عبد الله بن يوسف، ومسلم: عن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، وحرملة بن يحيى، وعمرو بن سواد العامري، أربعتهم: عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، به.
وقصة "بحيرا" مع النبي صلى الله عليه وسلم رويت من عدة طرق:
منها: ما حدث به أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، عن أبي الحسين رضوان بن أحمد الصيدلاني، حدثنا أبو عمر أحمد بن
#406#
عبد الجبار بن محمد، حدثنا يونس بن بكير الشيباني في كتابه "المغازي": عن محمد بن إسحاق قال: وكان أبو طالب هو الذي إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده، وكان إليه ومعه، ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام، فلما تهيأ للرحيل صب له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بزمام ناقته وقال: "يا عم، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم".
فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا. أو كما قال.
قال: فخرج به معه، فلما نزل الركب "بصرى" -من أرض الشام- وبها راهب يقال له: "بحيرا" في صومعة له، وكان أعلم أهل النصرانية.. وذكر القصة بطولها.
وفي آخرها: فقال أبو طالب في ذلك من الشعر يذكر مسيره برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أراد منه أولئك النفر وما قال لهم فيه بحيرا:
إن ابن آمنة النبي محمدا ... عندي كمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته ... والعيس قد قلصن بالأزواد
#407#
فارفض من عيني دمع ذارف ... مثل الجمان مفرق الأفراد
راعيت فيه قرابة موصولة ... وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومة ... بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة ... فلقد تباعد طية المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد
حبرا، فأخبرهم حديثا صادقا ... عنه، ورد معاشر الحساد
قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى ... ظل الغمام وعز ذي الأكباد
ساروا لقتل محمد فنهاهم ... عنه وأجهد أحسن الإجهاد
#408#
فثنى بحيراء ذريرا فانثنى ... في القوم بعد تجاول وتعاد
ونهى دريسا فانثنى عن قوله ... حبر يوافق أمره برشاد
وذكر له ابن إسحاق في "المعنى" قصيدتين:
أحدهما أولها:
ألم ترني من بعد هم هممته ... بفرقة حر الوالدين كرام
بأحمد لما أن شددت مطيتي ... رحلي وقد ودعته بسلام
والأخرى أولها:
بكى طربا لما رآنا محمد ... كأن لا يرانا راجعا لمعاد
فبت يجافيني تهلل دمعه ... وقربته من مضجعي ووسادي
#409#
فقلت له قرب قعودك وارتحل ... لا تخش مني جفوة ببلادي
وخل زمام العيس وارتحلن بنا ... على عزمة من أمرنا ورشادي
ومنها:
فقال لهم قولا بحيرا وأيقنوا ... له بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للرهط الذين تهودوا ... وجاهدهم في الله حق جهاد
فقال ولم يملك له النصح رده ... فإن له إرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه ... أخو الكتب مكتوب بكل مداد
و "بحيرا" المذكور قيل: إنه من "عبد القيس"، واسمه:
#410#
"جرجس"، وكان يسكن قرية يقال لها: "الكفر"، بينها وبين "بصرى" - التي هي قصبة حوران من أعمال "دمشق"- ستة أميال. وقيل: كان يسكن "البلقاء" بقرية يقال لها: "ميفعة" وراء زيرا.
خرج أبو أحمد ابن عدي فقال: وحدثنا السعدي -يعني: أحمد بن حفص-، حدثنا أبو الفتح -يعني: سعيد بن عقبة-، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن بحيرا الراهب: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا شرب الرجل كأسا من خمر"، الحديث.
وهذا باطل بيقين؛ لأن "بحيرا" لم يدرك المبعث.
و"سعيد بن عقبة": هذا غير ثقة، و"أحمد بن حفص" السعدي: شيخ ابن عدي: صاحب مناكير، وهذا منها، وإنما ذكرت هذا الحديث الباطل لهتك حاله ولئلا يغتر به، والله المستعان.
#411#
$حرب الفجار$
وفي سنة أربع عشرة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم: حضر مع أعمامه حرب الفجار الأخير الذي يقال له: فجار البراض، وهو: "البراض بن قيس" أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة، الذي قتل "عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب" المجير لطيمة "النعمان بن المنذر" إلى سوق عكاظ.
وبسبب ذلك كانت الحرب، تواعدوا لها سنة، والذي ضرب لهم المدة رجل من بني عامر يقال له: "الأدرم بن شعيب"، كان مع "قيس" فتهيأ الفريقان: "قريش" و"قيس عيلان" للحرب سنة، ثم التقوا.
وفي رؤساء قريش: "عبد الله بن جدعان" وإليه أمرهم، وفي قيس عيلان: "أبو براء عامر بن مالك بن جعفر" وإليه أمرهم، وكانت الراية بيده، وهو سوى صفوفهم، فالتقوا بسوق عكاظ.
#412#
فكانت الدبرة أول النهار لـ "قيس" على "قريش"، ثم صارت الدبرة آخر النهار لـ "قريش" على "قيس"، فقتلوهم قتلا ذريعا، حتى نادى "عتبة بن ربيعة" يومئذ وهو شاب ما كملت له ثلاثون سنة إلى الصلح، فاصطلحوا على أن عدوا القتلى ، وودت "قريش" لـ"قيس" ما قتلت، فضلا عن قتلاهم، وعلى هذا القول جماعة منهم: الواقدي.
وقيل: سبب هذه الحرب أن "حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو الفزاري"، قاد "أسدا"، و "غطفان" كلها، وأتى ابنه عيينة سوق عكاظ والناس يتبايعون، فقال: أرى هؤلاء مجتمعين بلا عهد ولا عقد، ولئن بقيت إلى قابل ليعلمن. فغزاهم من قابل، وأغار عليهم، وكانت الحرب فيه بين "كنانة" و"قيس"، والدبرة على "قيس عيلان".
ذكره ابن قتيبة بنحوه.
وسمي "الفجار" لفجورهم في الشهر الحرام بالقتال فيه.
وقال ابن الجوزي: إنما سمي الفجار؛ لأن "بني كنانة" و"هوازن" استحلوا الحرم، ففجروا. انتهى.
وأيام الفجار للعرب ستة على ما قيل، وذكر السهيلي عن
#413#
المسعودي: أنها أربع فجارات، قال آخرها "فجار البراض" المذكور في السيرة، وكان لـ "كنانة" و"قيس" فيه أربعة أيام مذكورة: "يوم شمظة" [و"يوم العبلاء" وهما عند عكاظ]، و"يوم الشرب" وهو أعظمها يوما، و"يوم الحريرة" عند نخلة.
و"يوم الشرب" انهزمت "قيس" إلا "بني نصر" منهم؛ فإنهم ثبتوا. انتهى.
وقيل: كان حرب الفجار في سنة عشرين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وجزم به الواقدي وغيره، قال الواقدي: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الفجار فقال: "قد حضرته مع عمومتي، ورميت فيهم بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت"، وكان يوم حضر ابن عشرين سنة، وكان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة. انتهى.
وروى الفضل بن الحباب، عن محمد بن سلام، أخبرني عمر بن معاذ
#414#
التيمي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رميت يوم الفجار بضعة عشر سهما من قصي". قال ابن سلام: يعني: من صنعته، أي: عمله.
ويروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت أنبل على أعمامي يوم الفجار" أي: أناولهم النبل.
قاله أبو عبيد الهروي.
وقال الواقدي: فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن عروة، عن حكيم بن حزام قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفجار قد حضره.
#415#
$أمر دار الندوة$
وقبل العشرين من عمر النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع سادة من قريش في "دار الندوة" يتشاورون في مهم، وحضرهم قيل من أقيال اليمن، وهو ملك دون الملك الأعلى من "حمير"، وكان ذلك القيل نافر إليهم ابن عمه - أي: حاكمه في الرياسة.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم "دار الندوة" وهو غلام يدعو عمه أبا طالب، فأشار إليه فأتاه فناجاه، ثم خرجا جميعا.
فقال ذلك القيل: يا معشر قريش، من هذا الغلام الذي يمشي تكفؤا، ولا يلتفت، وينظر مرة بعيني لبؤة مجرية ومرة بعيني عذراء خفرة؟
قالوا: يتيم أبي طالب وابن أخيه، ثم قالوا له -أو: من قال منهم-: إن وصفك له لينبئ عن عظمه في صدرك؟
فقال: أما و"نسر" - يعني: صنما كانت "حمير" تعبده- لئن بلغ هذا الغلام أشده ليميتن قريشا، ثم ليحيينها، ولقد نظر إليكم نظرة لو كانت
#416#
سهما لانتظم أفئدتكم فؤادا فؤادا، ثم نظر إليكم نظرة أخرى، لو كانت نسيما لأنشرت الموتى.
فقال له -أو من قال منهم-: يا قيل، حسبك، فإن الأمر غير ما تظن.
فقال: سترون.
ذكره أبو هاشم بن ظفر -من بلاغاته- في كتابه "أنباء نجباء الأبناء".
#417#
$أمر "أكثم بن صيفي"$
قال: ونحو ذلك ما بلغني: أن "أكثم بن صيفي" حكيم العرب حج فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في سن الحلم يتبع أبا طالب، فقال أكثم لأبي طالب: ما أسرع ما شب أخوك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- .
فقال له أبو طالب: إنه ليس بأخي، ولكنه ابن أخي عبد الله.
قال: ابن الذبيح؟
قال: نعم.
قال أكثم: إني كنت رأيته وهو في حجر عبد المطلب يوم أرسل السحاب إلى بلاد "مضر"، فظننته ابنه. ثم جعل أكثم يتأمل النبي صلى الله عليه وسلم ويتفرس فيه، ثم قال: يا ابن عبد المطلب، ما تظنون بهذا الفتى؟
فقال أبو طالب: إنا لنحسن به الظن، وإنه لحيي جري وفي سخي.
فقال أكثم: هل غير ما تقول يا ابن عبد المطلب؟
قال: نعم، إنه لذو شدة ولين ومجلس ركين ومفصل مبين.
#418#
فقال أكثم: هل غير ما تقول يا ابن عبد المطلب .
قال: نعم، إنا لنتيمن بمشهده، ونتعرف البركة فيما لمسه بيده.
فقال أكثم: هل غير ما تقول يا ابن عبد المطلب؟
فقال أبو طالب: إنه لغلام بعد وحرية أن يسود، ويتخرق بالجود، ويعلو جده الجدود.
فقال أكثم: لكني أقول غير هذا.
فقال أبو طالب: قل؛ فإنك نقاب غيب وجلاء ريب.
فقال أكثم: أخلق بابن أخيك أن يضرب العرب قامطة بيد خابطة، ورجل لابطة، ثم ينعق بهم إلى مرتع مريع، وورد تشريع،
#419#
فمن اخروط إليه هداه، ومن احرورف عنه أرداه.
فقال أبو طالب: إن عندنا لذروا من ذلك. أي طرفا من العلم به.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن قريشا أتوا كاهنة فقالوا لها: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام. فقالت: إن أنتم جررتم كساء على هذه السهلة ثم مشيتم عليها أنبأتكم. فجروا ثم مشى الناس عليها، فأبصرت أثر محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا أقربكم شبها به، فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو قريبا من عشرين سنة أو ما شاء الله، ثم بعث صلى الله عليه وسلم.
وحدث به ابن ماجه عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل به.
#420#
$ابتداء مجيء الملائكة إليه صلى الله عليه وسلم$
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم عشرين سنة أرسل إليه الله تعالى ملائكة فيما ذكره عبيد بن عمير الليثي المكي قاص أهل مكة، وذلك فيما رواه أبو عمرو عثمان بن أحمد بن السماك، أخبرنا أبو الحسن بن البراء -يعني: محمد بن أحمد بن البراء العبدي- قال: سأل عبد الله بن الزبير عبيد بن عمير عن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أحدثك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شكى وهو يومئذ ابن عشرين سنة إلى عمه أبي طالب فقال: "يا عم، إني منذ ليال يأتيني آت معه صاحبان له، فينظرون إلي ويقولون، هو هو ولم يأن له، فإذا كان فإنك لرجل منهم ساكت". قال: "فقد هالني ذلك"، فقال: يا ابن أخي، ليس بشيء، حلمت.
ثم رجع إليه بعد ذلك فقال: "يا عم، سطا بي الرجل الذي ذكرت لك فأدخل يده في جوفي، حتى إني لأجد بردها".
قال: فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطبب بمكة، فحدثه حديثه، وقال: عالجه، فصوب به وصعد وكشف عن قدميه ونظر بين كتفيه فقال: يا ابن عبد مناف، ابنك هذا طيب طيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الذي به من الشيطان، ولكنه من النواميس الذين يتحسسون القلوب للنبوة.
#421#
فرجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما أحسست حسا ما شاء الله، حتى رأيت في منامي رجلا وضع يده على منكبي، ثم أدخل يده فأخرج قلبي ثم قال: قلب طيب في جسد طيب. ثم رده، فاستيقظت".
قال: "ثم رأيت وأنا نائم سقف البيت الذي أنا فيه نزعت منه خشبة وأدخل سلم فضة، ونزل إلي منه رجلان، فجلس أحدهما جانبا والآخر إلى جنبي، فنزع ضلعي جنبي، ثم استخرج قلبي فقال: نعم القلب قلبه، قلب رجل صالح ونبي مبلغ. ثم ردا قلبي مكانه وضلعي، ثم صعدا، فاستيقظت والسقف على حاله، فشكوت إلى خديجة فقالت: لا يصنع ا لله بك إلا خيرا"، وذكر الحديث.
#422#
$حلف الفضول$
وفي هذه السنة سنة عشرين من مولده صلى الله عليه وسلم حضر حلف الفضول.
قال ابن سعد في "الطبقات الكبرى": أخبرنا محمد بن عمر، حدثني الضحاك بن عثمان، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن أبيه: سمعت حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: كان حلف الفضول منصرف "قريش" من الفجار، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة.
قال محمد بن عمر: وأخبرني غير الضحاك قال: كان الفجار في "شوال"، وهذا الحلف في "ذي القعدة"، وكان أشرف حلف كان قط، وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا لنكونن مع المظلوم حتى نؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التأسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول".
وروى أحمد بن حنبل، عن بشر بن المفضل وابن علية فرقهما، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
#423#
"شهدت مع عمومتي حلف المطيبين وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه".
وهذا لفظ "بشر".
وقال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عبد الله بن محمد يقول: سمعت ابن زنجويه يقول: قدمت "مصر"، فأتيت أحمد بن صالح المصري فقال: من أين أنت؟
قلت: من أهل "بغداد".
فقال: أين منزل أحمد بن حنبل؟
قلت: أنا من أصحابه.
فقال: اكتب لي موضع منزلك؛ فإني أريد أن أدخل العراق حتى تجمع بيني وبين أحمد بن حنبل. فكتبت له، فوافى "أحمد بن صالح" سنة اثنتي عشرة "العراق" إلى "عفان"، فلقيني فقال: الوعد الذي بيني وبينك.
فذهبت به إلى أحمد بن حنبل فاستأذنت له عليه، فقلت له: أحمد بن صالح المصري بالباب.
قال: ابن الطبري؟
قلت: نعم.
فأذن له، فدخل فرحب به وقام إليه وقال: بلغني أنك جمعت حديث الزهري، فهات حتى نذكر ما روى الزهري عن الصحابة.
قال: فجعلا يتذاكران ولا يغرب أحدهما على الآخر، حتى فرغا، فما رأيت مذاكرة أحسن من مذاكرتهما.
#424#
فقال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: فتعال حتى نذكر ما روى الزهري عن أولاد الصحابة. فجعلا يتذاكران ولا يغرب أحدهما على الآخر، إلى أن قال أحمد بن حنبل لأحمد بن صالح: عند الزهري: عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يسرني أن لي حلف المطيبين وأن لي حمر النعم".
فقال أحمد بن صالح لأحمد بن حنبل: أنت الأستاذ وتذكر مثل هذا؟!
فجعل أحمد بن حنبل يتبسم ويقول: روى هذا الحديث عن الزهري رجل صالح أو مقبول: عبد الرحمن بن إسحاق.
فقال أحمد بن صالح: من رواه عنه؟
فقال أحمد بن حنبل: رجلان ثقتان: "إسماعيل ابن علية" و"بشر بن المفضل".
فقال أحمد بن صالح: سألتك بالله إلا أمليته علي.
فقال أحمد بن حنبل: من الكتاب، فقام ودخل البيت وأخرج الكتاب وأملاه عليه.
ثم قال أحمد بن صالح: لو لم أستفد بالعراق إلا هذا الحديث لكان كثيرا. ثم ودعه وخرج.
#425#
ورواه أبو يعلى أحمد بن علي الموصلي فقال: حدثنا العباس -يعني: ابن الوليد- النرسي، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت غلاما مع عمومتي حلف المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه".
وخرجه أبو حاتم محمد بن حبان في "صحيحه" أيضا فقال: حدثنا
#426#
الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا إسماعيل بن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف مرفوعا بنحوه.
تابعه أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي في "تاريخه" فقال: حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة، فذكره.
ورواه أيضا عن عبد الرحمن بن إسحاق جماعة منهم: "إبراهيم بن طهمان" و"خارجة بن مصعب".
ورواه خالد بن عبد الله الواسطي، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن محمد بن جبير، عن عبد الرحمن بن عوف به، فأسقط منه "جبيرا".
ورواه الواقدي، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز وابن أخي الزهري، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن عبد الرحمن بن أزهر، عن
#427#
عبد الرحمن بن عوف.
وحدث بن عبد العزيز الدراوردي، عن عمر بن عثمان بن موسى، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلف بني هاشم وزهرة، فما سرني أني نقضته، وأن لي حمر النعم".
قال الدارقطني في كتابه "العلل": ووهم فيه -يعني:الدراوردي-، وإنما هو: عثمان بن عمر بن موسى. انتهى.
وقال أبو الربيع خالد بن يوسف بن خالد السمتي: حدثنا أبو عوانة، حدثنا عمر، عن أبي سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شهدت من حلف إلا حلف قريش: حلف المطيبين"، قال: "وما أحب أن لي حمر النعم وأنكثه"، والمطيبون: "هاشم" و"أمية" و"الزهرة" و"مخزوم".
وهذا مرسل، و"عمر" هو: ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ليس بالقوي.
وأخرجه أبو حاتم ابن حبان في "صحيحه"، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا معلى بن مهدي، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شهدت من حلف قريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم، وأني كنت نقضته".
#428#
قال: والمطيبون: "هاشم"، و"أمية"، و"زهرة"، و"مخزوم".
قال أبو حاتم ابن حبان: أضمر في هذين الخبرين -يعني: خبر أبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما-: "من" يريد به "شهدت من حلف المطيبين"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشهد حلف المطيبين؛ لأن حلف المطيبين كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول، وهم من المطيبين. انتهى.
وقال بشر بن آدم: حدثنا صالح بن موسى، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان حلف المطيبين بين خمسة رهط من بطون قريش: بني هاشم، وتيم، وزهرة، وأسد بن عبد العزى، والحارث بن عبد مناة"، قال: "وغمسوا أيديهم في طيب كانوا هؤلاء الخمسة رهط".
وفي بعض طرق حديث حلف الفضول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت، تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها". الحديث.
وهو مخرج في "مسند الحارث بن [أبي] أسامة".
وأخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث مسروق بن المرزبان، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن سماك، عن
#429#
عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما سرني أن لي حمر النعم، وأني نقضت الحلف الذي في دار الندوة".
وقال عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني القاضي: حدثنا عبد الله بن شبيب أبو سعيد، حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثني عمر بن أبي بكر الرملي، حدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان، عن أبيه، عن عبد الله بن عروة بن الزبير، سمعت حكيم بن حزام رضي الله عنه -وهو: جد عبد الله بن عروة أبو أمه- يقول: انصرفت قريش من الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة، وكان "الفجار" في شوال، وكان حلف الفضول أكرم حلف كان قط وأعظمه شرفا، وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وذلك أن الرجل من العرب أو العجم ممن كان يقدم مكة بتجارته ربما ظلموا، وكان آخر من ظلم بها رجل من بني زيد بن مذحج، فقدم سلعته فباعها من "العاص بن وائل السهمي"، وكان شريفا عظيم القدر، فظلمه ثمنه، فناشده الزبيدي في حقه قبله، فأبى، فأتى الزبيدي الأحلاف: "عبد الدار" و"مخزوما" و"جمحا" و"سهما" و"عدي بن كعب"، فأبوا أن يعينوه على "العاص بن وائل"، وزبروه، فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على "أبي
#430#
قبيس" قبل طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحِجر والحَجر
هل مخفر من بني سهم بخفرته ... فعادل أم حلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فقام في ذلك "الزبير بن عبد المطلب" وقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت "هاشم" و"زهرة" و"تيم بن مرة" في "دار ابن جدعان"، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة وما أرسى "حراء" و"ثبير" مكانهما، وعلى التأسي في المعاش فسمت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شهدت حلفا في دار ابن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه اليوم لأجبت هاشما وزهرة وتيما".
#431#
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:
إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... أن لا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتر فيهم سالم
وهذا أحد الأقوال في سبب تسميته بـ "حلف الفضول".
وحكى الزبير بن بكار ذلك أيضا، وحكى أنه إنما سمي "حلف الفضول" لأنهم تحالفوا على أن لا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه. وسيأتي - إن شاء الله تعالى - الرواية بذلك قريبا.
وقيل: إنما سمي بذلك لأنه لما تداعى له من ذكر من قبائل قريش كره ذلك المطيبون والأحلاف بأسرهم، وسموه "حلف الفضول" عيبا له، وقالوا: هذا من الفضول.
وقيل: بل كان هذا الحلف على مثال حلف تقدم إليه نفر من "جرهم" كما حكاه ابن قتيبة فقال: كان سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف "جرهم" في الزمن الأول، فتحالف منهم ثلاثة هم ومن معهم، أحدهم: "الفضل بن فضالة"، والثاني: "الفضل بن وداعة"، والثالث: "فضيل بن الحارث".
#432#
وذكر نحوه أبو عبيد الهروي وقال: فـ"الفضل" واحد "الفضول" كما يقال "سعد" و"سعود" انتهى.
وسماهم الزبير بن بكار: "الفضل بن سراعة" و"الفضل بن وداعة" و"الفضل بن قضاعة".
وقيل: هم "الفضل" و"فضال" و"فضيل"، فسمي حلف قريش الأخير "حلف الفضول" مثل الأول.
#433#
&خروجه صلى الله عليه وسلم في تجارة لـ"خديجة" وتزويجه بها بعد ذلك وذكر أولاده منها والاختلاف في ذلك&
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة لأربع عشرة ليلة بقيت من "ذي الحجة" -وقيل غير ذلك- خرج في تجارة للطاهرة "أم هند خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي" الأسدية القرشية رضي الله عنها قبل أن يتزوجها، مع غلامها "ميسرة" إلى الشام، وكانت استأجرته على أربع بكرات، واستأجرت معه رجلا آخر من قريش، فخرج حتى بلغ سوق بصرى. وقيل: سوق حباشة بـ "تهامة".
قال الواقدي: أخبرنا معمر بن راشد، عن الزهري، عن عروة قال: كان حكيم بن حزام رجلا تاجرا لا يدع سوقا بـ "مكة" ولا "تهامة" إلا حضرها، وكان يقول: كان بـ "تهامة" أسواق أعظمها سوق حباشة، وهي على ثمانية مراحل من مكة "طريق الجند"، فكنت أحضرها، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرها، فاشتريت بها بزا، فقدمت به مكة، فذلك حين أرسلت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تدعوه إلى أن يخرج لها إلى "سوق حباشة"، وبعثت معه غلامها "ميسرة".
قال: فخرجا فابتاعا بزا من بز الجند وغيره، ومما فيها من التجارة، فرجعا به إلى مكة، فربحا ربحا حسنا، وكانت سوقا تقوم في كل سنة في شهر رجب ثمانية أيام.
#434#
وقال أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال: فلما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده، وليس له كبير مال، استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، وهو سوق بـ "تهامة"، واستأجرت معه رجلا من قريش، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عنها: "ما رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة رضي الله عنها، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا".
وروى أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي في كتابه "ما روى أهل الكوفة مخالفا لأهل المدينة" فقال: حدثنا أصبغ بن فرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده، وليس له كبير مال، استأجرته خديجة إلى سوق حباشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلما رجعنا من سوق حباشة قلت لصاحبي: انطلق بنا نتحدث عن خديجة. قال: فجئناها، فبينما نحن عندها دخلت علينا
#435#
منتشية من مولدات قريش، فقالت: محمد، هذا والذي يحلف به أن جاء خاطبا، فعلت، فانطلقت فتزوجتها".
وقال أبو يوسف عقب هذا: و"علي" يومئذ ابن تسع سنين.
قال الذهبي -فيما وجدته بخطه-: هذا لا يصح، وهو باطل بيقين؛ لأن "عليا" ما كان ولد بعد. انتهى.
قلت: وسيأتي -إن شاء الله تعالى- من حديث الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران: أن تزويجه صلى الله عليه وسلم بـ "خديجة" كان قبل أن يولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة في "التاريخ" فقال: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن معاذ الصنعاني، عن معمر بن راشد. ح.
وروى عبد الرزاق بن همام في كتابه "المغازي" -واللفظ له- عن معمر، عن الزهري قال: فلما استوى -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- وبلغ أشده، وليس له كثير مال استأجرته خديجة ابنة خويلد رضي الله عنها إلى سوق حباشة، وهو سوق بـ "تهامة"، واستأجرت معه رجلا آخر من قريش،
#436#
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عنها: "ما رأيت من صاحبة أجير خيرا من خديجة؛ ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبؤه لنا".
قال: "فلما رجعت من سوق حباشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لصاحبي: انطلق بنا عند خديجة. قال: فجئناها، فبينما نحن عندها إذ دخلت علينا منتشية من مولدات قريش. -و"المنتشية": الناهد التي تشتهي الرجال- فقالت: أمحمد هذا والذي يحلف به أن جاء لخاطبا؟ فقلت: كلا.
فلما خرجنا أنا وصاحبي قال لي: أمن خطبة خديجة تستحيي، فوالله ما من قرشية إلا تراك لها كفؤا.
قال: فرجعت أنا وصاحبي إليها مرة أخرى، فدخلت علينا تلك المنتشية فقالت: أمحمد هذا والذي يحلف به أن جاء لخاطبا".
قال: "فقلت على حياء: أجل".
قال: فلم تعصنا خديجة ولا أختها، فانطلقت إلى أبيها "خويلد بن أسد" وهو ثمل من الشراب، فقالت: هذا ابن أخيك محمد بن عبد الله يخطب خديجة، وقد رضيت خديجة.
فدعاه فسأله عن ذلك، فخطب إليه فأنكحه.
قال: "فخلقت خديجة أباها، وحلت عليه حلة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح صحا الشيخ من سكره قال: ما هذا الخلوق؟ وما هذه الحلة؟
#437#
قالت أخت خديجة: هذه الحلة كساكها ابن أخيك محمد بن عبد الله، أنكحته خديجة وقد بنى بها. فأنكر الشيخ ذلك، ثم صار إلى أن سلم واستحيى.
وطفقت رجاز من رجاز قريش تقول:
لا تزهدي خديج في محمد ... جلد يضيء كضياء الفرقد
ورواه موسى بن المساور الضبي، عن عبد الله بن معاذ الصنعاني بنحوه.
وحدث بنحوه الزبير بن بكار في كتابه في "ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"، عن محمد بن الحسن -وهو: ابن زبالة- قال: حدثني غير واحد من أهل العلم منهم: عبد العزيز بن محمد، عن هشام بن عروة وأسامة بن حفص، عن يونس، عن ابن شهاب. وعبد الرزاق بن همام، عن معمر، عن ابن شهاب وعبد الله بن وهب عن الليث بن سعد، وبعضهم يزيد على بعض، وإلى كل قد أسندت حديثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استوى وبلغ أشده، وساق الحديث مطولا، وفيه وفيما قبله: "إذ دخلت علينا منتشية من مولدات قريش".
وفسرت في رواية عبد الرزاق في "المغازي" بـ: الناهد التي تشتهي الرجال.
#438#
ورويت هذه اللفظة في بعض طرق الحديث: "مستنشية".
قال أبو عبيد الهروي: قال الأزهري: هو اسم تلك الكاهنة، لا ينون.
وقال غيره: المستنشية: الكاهنة؛ لأنها كانت تستنشي الأخبار، أي: كانت تبحث عنها.
وقال أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري -رحمه الله-: أخبرنا عبد الله بن بيان الأنباري، حدثنا محمد بن يعقوب الرازي، حدثنا محمد بن سلم بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا محمد بن بكار بن أبي ميمونة، حدثنا عبد الله بن معبة -وأثنى عليه خيرا-، حدثنا أبو معشر. قال أبو بكر ابن الأنباري: وكتبت من كتاب أبي برزة الحاسب وصرت إليه، فلم يقرأه علي ليمين لحقته في أن لا يحدث ما حيي، حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل، قال: سمعت أبي، حدثنا عبيد بن حكيم كلاهما: عن ابن جريج، عن الزهري رفع الحديث: أن خزيمة بن حكيم السلمي ثم البهزي رضي الله عنه
#439#
كانت بينه وبين خديجة بنت خويلد رضي الله عنهما قرابة، وأنه قدم عليها، وكان إذا قدم عليها أصابته بخير، فوجهته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلام لها يقال له: "ميسرة"، في تجارة إلى "بصرى" من أرض الشام، فأحب "خزيمة" رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا شديدا، وكان لا يفارقه في نومه ولا في يقظته، فساروا حتى إذا كانوا بين "الشام" و"الحجاز" قام على "ميسرة" بعيران لخديجة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الركب، فخاف "ميسرة" على نفسه وعلى البعيرين، فانطلق يسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى البعيرين، فوضع يده على أخفافهما وعوذهما، فانطلق البعيران يسعيان في أوائل الركب لهما رغاء، فلما رأى "خزيمة" ذلك علم أن له شأنا عظيما، فحرص على لزومه ومحافظته، فساروا حتى إذا دخلوا الشام نزلوا براهب من رهبان الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، ونزل الناس متفرقين، وكانت الشجرة التي نزل تحتها شجرة يابسة قحلة قد تساقط ورقها ونخر عودها.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن تحتها أنورت وأشرقت، واعشوشبت ما حولها، وأينع ثمرها، وتدلت أغصانها وترفرفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بعين الراهب، فلم يتمالك أن انحدر من صومعته، فقال: سألتك باللات والعزى ما اسمك؟
فقال: "إليك عني ثكلتك أمك، فما تكلمت العرب بكلمة أثقل علي من هذه الكلمة".
وكان ذلك مكرا من الراهب وكان معه حين نزل من صومعته رق أبيض، فجعل ينظر فيه مرة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى، ثم أكب ينظر فيه مليا، فقال: هو هو ومنزل الإنجيل.
فلما سمع بذلك "خزيمة" ظن أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه وسلم مكرا،
#440#
فضرب بيده إلى قائمة سيفه، فانتزعه، وجعل يصيح بأعلى صوته: يا لغالب، يا لغالب.
فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون: ما الذي راعك؟ ما الذي أفزعك؟
فلما نظر الراهب إلى ذلك أسرع إلى صومعته، فدخلها وأغلق عليه بابها، ثم أشرف عليه فقال: يا قوم، ما الذي راعكم مني؟ فوالذي رفع السموات بغير عمد ما نزل بي ركب هو أحب إلي منكم، وإني لأجد في هذه الصحيفة: أن النازل تحت هذه الشجرة، وأومأ بيده إلى الشجرة التي تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو رسول رب العالمين، يبعث بالسيف المسلول وبالذبح الأكبر، وهو خاتم النبيين، فمن أطاعه نجا، ومن عصاه غوى.
ثم أقبل على "خزيمة" فقال: ما تكون من هذا الرجل أرجلا من قومه. يعني: قال: لا، ولكن خادم له. وحدثه بحديث البعيرين، فقال له الراهب: أيها الرجل، إنه النبي الذي يبعث في آخر الزمان، وإني مفوض إليك أمرا ومستكتمك خبرا، وعاهد إليك عهدا.
قال: وما هو؟ فإني سامع لقولك وكاتم لسرك ومطيع لأمرك.
فقال: إني أجد في هذه الصحيفة: أنه يظهر على البلاد، وينصر على العباد، ولا ترد له راية، ولا تدرك له غاية، وإن له أعداء أكثرهم اليهود أعداء الله، فاحذرهم عليه.
فأسر "خزيمة" ذلك في نفسه، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إني لأرى فيك شيئا ما رأيته في أحد من الناس، وإني لأحسبك النبي الذي يذكر أنه يخرج من "تهامة"، وإنك لصريح في ميلادك ولأمين في أنفس قومك، وإني لأرى عليك من الناس محبة،
#441#
وإني مصدقك في قولك، وناصرك على عدوك. فانطلقوا يؤمون الشام، فقضوا بها حوائجهم ثم انصرفوا.
ورجع "خزيمة" إلى بلاده وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعت بخروجك أتيتك. فأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان فتح مكة، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: "مرحبا بالمهاجر الأول، ما الذي أبطأ بك يا خزيمة؟ أين ما وعدتني أنك تأتيني إذا سمعت بخروجي؟"
فقال خزيمة: والله يا رسول الله، لقد أتيتك وعذري عدد أصابعي، فما نهنهني عنك ألا أكون أول من دان بدينك، وأجاب دعوتك، وأقر برسالتك؛ لأني مقر بالقرآن، كافر بالطغيان، بريء من الأوثان، مؤمن بالرحمن عز وجل، ولكنها يا رسول الله أصابتنا سنوات شداد تركت المخ رارا والمطي هارا، غاضت لها الدرة، ونقصت لها الثرة، وعاد لها النقاد مجرنثما، والذيخ محرنجما، والفريش مسحنككا، والعضاه مستحلكا، ألبست الأرض
#442#
الوديس، واجتاحت جميم اليبيس، وأفنت أصول الوشيج، حتى آل السلامى، وأخلف الخزامى، وأينعت العثمة، وسقطت البرمة، وبضت الحنمة، وتفطر اللحاء، وحمل الراعي العجالة، واكتفى من حمله بالقيلة، أتيتك مسرعا غير مبدل لقولي، ولا ناكث لبيعتي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله -تبارك وتعالى- يعرض على عبده كل يوم نصيحة، فإن قبلها سعد وإن تركها شقي، وإن الله عز وجل يبسط لمسيء الليل بالنهار ليتوب؛ فإن تاب تاب الله عليه، ولمسيء النهار بالليل ليتوب، فإن تاب تاب الله عليه، إن الحق ثقيل، كثقله يوم القيامة، وإن الباطل خفيف كخفته يوم القيامة، وإن الجنة محظور عليها بالمكاره، وإن النار محظور عليها بالشهوات، أنعم صباحا تربت يداك".
#443#
قال خزيمة: يا رسول الله، حدثني عن ظلمة الليل وضوء النهار، وعن حر الماء في الشتاء وبرده في الصيف، وعن مخرج السحاب، وعن موضع الماء، وعن قرار ماء الرجل وماء المرأة، وعن موضع النفس من الجسد، وما شراب المولود في بطن أمه؟ وعن مخرج الجراد وعن البلد الأمين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ظلمة الليل وضوء النهار، فإن الله تعالى خلق خلقا من غثاء الماء، باطنه أسود، وظاهره أبيض، طرف له بالمشرق وطرف له بالمغرب، تمدده الملائكة، فإذا أشرق الصبح طردت الملائكة الظلمة، وسلخ الجلباب حتى يجعلوه في المغرب في طرف الهواء، وإذا أظلم الليل طردت الملائكة الضوء حتى يجعلوه في المشرق في الهواء، وهما يتراوحان لا يبليان ولا يتغيران.
وأما حر الماء في الشتاء وبرده في الصيف: فإن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها ، فإذا طال ليلها في الشتاء طال لبثها تحت الأرض، فيسخن الماء لذلك، وإذا كان الصيف مرت مسرعة، لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل، فيبيت الماء باردا.
وأما مخرج السحاب: فإنه ينشأ من طرف الخافقين بين السماء والأرض، فيطل عليه العنان المكفوف حوله الملائكة الصفوف، يلجمه الجنوب والصبا، ويخرقه الشمال والدبور.
وأما موضع النفس من الجسد: فإن القلب معلق بالنياط، والنياط عرق يسقي العروق، فإذا هلك القلب انقطع الدم.
وأما قرار مني الرجل: فإنه يخرج ماؤه من الإحليل، وهو عرق يجري من ظهره، حتى يستقر قراره في بيضته اليسرى.
#444#
وأما المرأة: فإنه يلقى ولا يتحرك حتى تدنو عسيلتها.
وأما شراب المولود في بطن أمه: فإنه يكون منيا أربعين، ومشيجا أربعين، ثم علقة أربعين، ثم مضغة أربعين، ثم يكون العظم صكيكا، ثم جنينا، ثم يستهل وينفخ فيه الروح، فإذا أراد الله أن يخرجه قبل تمامه أخرجه، وإن أراد أن يؤخره في الرحم أخره، أمر الله نافذ، وقوله صادق، ينحلب عليه عروق الرحم، وفيها يكون اللبن.
وأما مخرج الجراد: فمن بطن حوت في البحر يقال له: الإيوان.
وأما البلد الأمين: فتلك مكة، مهاجر الغيث والبرق والرعد إليها، لا يدخلها الدجال، وآية ذلك إذا منع الحمى وفشا الربا، وظهر الزنا، ونقص المكيال والميزان، وقام الصغير إلى الكبير".
حديث غريب عجيب.
وقد رواه أبو بكر أحمد بن عبد الكريم بن يعقوب الحلبي المؤدب، عن أبي عمير عدي بن أحمد بن عبد الباقي الأذني، حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن المفضل الحراني، حدثنا أبي، فذكره بنحوه وفي آخره أبيات لخزيمة في مقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي:
إني أتيتك يا بن آمنة الذي ... في الكتب يأتينا نبيا مرسلا
فشهدت أنك أحمد ونبيه ... خير البرية حافيا ومنعلا
#445#
أوصى به عيسى ابن مريم بعده ... كانت نبوته لزاما فيصلا
وقد حدث به أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، عن الطبراني، حدثنا محمد بن يعقوب الخطيب الأهوازي، حدثنا محمد بن عبد الرحمن -هو: ابن عبد الصمد السلمي، يكنى: أبا بكر- حدثنا أبو عمران الحراني يوسف بن يعقوب، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن "خزيمة بن ثابت" -وليس بالأنصاري- [كان في عير لخديجة رضي الله عنها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم][10] كان معه في تلك العير، وذكر الحديث مطولا بنحوه.
تابعه القاضي أبو بكر أحمد بن محمد بن خرزاذ الأهوازي عن محمد بن يعقوب.
وروى آخر الحديث دون أوله أحمد بن محمد بن عبد الله البزاز عن عبد الله بن أحمد بن موسى، حدثنا محمد بن عبد الرحمن السلمي.
ورواه بطوله أحمد بن سيار المروزي، حدثنا أحمد بن النعمان بن الوجيه بن النعمان أبو الحسن، حدثني أبي، حدثني رجل من بني سليم، عن أخيه، عن منصور بن المعتمر، عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي، عن خزيمة بن حكيم السلمي البهزي -وكان صهرا
#446#
لخديجة رضي الله عنها-، وذكر الحديث.
وفيه اضطراب غير ما ذكرنا.
ولم يذكره الطبراني في "معجمه"، ولا أبو عبد الله ابن منده، ولا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه "معرفة الصحابة"، لكن أشار إليه، فقال أبو نعيم في كتابه: "خزيمة بن حكيم السلمي النهدي": ذكره بعض المتأخرين وزعم أنه كان صهر خديجة بنت خويلد، خرج تاجرا إلى "بصرى" مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن حديثه عند الوجيه بن النعمان، عن منصور، عن قبيصة بن إسحاق، عن خزيمة بن حكيم. لم يزد أبو نعيم على هذا.
وأراد -والله أعلم- بقوله: "بعض المتأخرين" أبا عبد الله بن منده؛ فإنه قال: روى حديثه ابن النعمان، عن أبيه، عن جده: الوجيه، عن منصور، عن قبيصة بن إسحاق.
وقول ابن منده: "النهدي" عده بعضهم تصحيفا، وهو كذلك؛ لأن البهزيين من "بني سليم".
وسفر النبي صلى الله عليه وسلم في تجارة خديجة روي من غير وجه؛ منها: ما قال
#447#
أبو بكر ابن أبي شيبة: حدثني عمر بن أبي بكر العدوي، حدثني موسى بن شيبة الحزامي، حدثتني عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت: سمعت نفيسة بنت منية -أخت يعلى بن منية رضي الله عنها- تقول: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا "الأمين" مما تكاملت فيه من خصال الخير قال له أبو طالب: يا ابن أخي، إني رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وقد ألحت علينا سنون، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك يتجرون لها في مالها، ويصيبون منافع، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها لاسترعت إليك وفضلتك على غيرك؛ لما يبلغها عنك من طهارتك، وإني لأكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد بدا من ذلك.
وكانت خديجة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث إلى الشام فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش تجارا، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعلها ترسل إلي في ذلك".
فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا.
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد
#448#
هذا. فأرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك.
ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك.
فخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام قالت: وكل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم بصرى من الشام فنزل في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان يقال له: "نسطورا"، إذ طلع الراهب إلى "ميسرة" وكان يعرفه.
فقال: يا ميسرة، من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟
فقال ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم.
فقال نسطورا: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ثم قال له: أفي عينيه حمرة؟
قال: نعم، لا تفارقه.
فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، فيا ليتني أدركه حين يؤمر بالخروج، فوعى ذلك ميسرة.
ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى، فباع سلعته التي خرج بها واشترى، وكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال له الرجل: احلف باللات والعزى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله، ما حلفت بهما قط".
فقال له الرجل: القول قولك.
#449#
ثم قال الرجل لميسرة خاليا به: يا ميسرة، هذا والله نبي، والذي نفسي بيده إنه لهو، تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم، فوعى ذلك ميسرة، ثم انصرف أهل العير جميعا.
وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر ينظر إلى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره.
قال: وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فلما رجعوا وكانوا بـ "مر الظهران" تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في الظهيرة، وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة في الظهيرة، وهو على بعيره والملكان يظلانه، فأرته خديجة نساء لها، فعجبن، فلما دخل ميسرة عليها أخبرت بما رأت.
فقال لها ميسرة: لقد رأيت هذا منذ خرجنا. وأخبرها بقول الراهب وما قال الرجل الذي خالفه في البيع.
فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ضعف ما كانت سمت له، فلما استقر عندها هذا، وكانت امرأة حازمة شريفة، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم مالا، وكل قومها حريص على نكاحها، لو قدروا على ذلك لبذلوا لها الأموال.
قالت: نفيسة: فأرسلتني خديجة دسيسا إليه، فأتيته فقلت: يا محمد، ما يمنعك أن تزوج؟
#450#
قال: "ما بيدي ما أتزوج به" فقلت له: كفيت ذلك ودعيت إلى الكفاية والجمال والشرف والمال، ألا تجيب؟
قال: "بلى".
قال: "فمن؟".
قالت: قلت: خديجة بنت خويلد.
قال: "فكيف لي بذلك؟".
قالت: أنا لك بذلك.
قال: "فأنا أفعل".
قال: فدخلت نفيسة فأخبرت بذلك خديجة، فأرسلت إليه: أن ائت ساعة كذا وكذا.
وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد، فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمومته، فزوجه أحدهم، فقال عمرو بن أسد: هذا البضع لا يقرع أنفه.
وكان تزويج "خديجة" رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الشام، وهو ابن خمس وعشرين سنة، فولدت له: "القاسم" و"الطاهر" و"زينب"
#451#
و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة" رضي الله عنهم.
وحدث به محمد بن سعد في "الطبقات" عن الواقدي، حدثني موسى بن شيبة، فذكره، وزاد فيه بعد قوله: "وهو ابن خمس وعشرين سنة" قال: وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة، ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة.
وقد روي: أن "ورقة بن نوفل" خاطب "خديجة" بهذه الأبيات في ذلك، فقال فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق:
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عني بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... فخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح
#452#
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح ،
فخبرنا عن كل خير بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان: هود وصالح
وموسى وإبراهيم حين يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن ارضك في الأرض الفسيحة سائح
#453#
وقد روي هذا الشعر على غير هذا بنحوه، بزيادة في رواية سلمة عن ابن إسحاق؛ وهي:
فمتبع دين الذي أسس الهدى ... وكان له فضل على الناس راجح
وأسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح
منيفا على تشييد كل مشيد ... على بابه ذي العروتين الصفائح
مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح
حراجيج حدبا قد كللن من السرى ... تعلق في أرساغهن السرائح
قال ابن سعد في "طبقاته الكبرى": وقد أسلمت "نفيسة بنت منية"، وهي التي كانت سعت فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة بنت خويلد، حتى تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف لها ذلك.
وقال أبو الحسين محمد بن غسان بن جبلة العتكي: حدثنا أبو عبد الله محمد بن الحسن العتكي، حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد، حدثنا
#454#
أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان سبب تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد: أنه أقبل "ميسرة" غلام خديجة من سفره ومعه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل تحت شجرة.
قال: فرآه الراهب فقال: من هذا السيد الذي معك؟
قال: من أهلي.
قال: إنه ليس من أهلك بيقين، وإنه نبي الله، ما جلس هذا المجلس بعد "عيسى ابن مريم" أحد غيره.
قال: فأقبل إلى خديجة فأخبرها بما قال الراهب، وقال لها: إني كنت آكل معه حتى يشبع، ويبقى الطعام.
فدعت خديجة بقناع عليه رطب، ودعت أختها "هالة" وهي: أم أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، ودعت النبي صلى الله عليه وسلم، فأكلوا حتى شبعوا، فلم ينقص شيئا.
فقالت له خديجة: اخطبني إلى عمي: عمرو بن أسد - وكان شيخا كبيرا، ولم يكن لـ "أسد" يومئذ ولد غيره- فانطلق هو و"حمزة" معه إليها، فذبحت شاة وجعلت طعاما، ثم بعثت إلى "عمرو" فأكل، ثم سقته، فلما أخذ فيه الشراب قالت خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم: قل لعمك أبي طالب يخطبني إليه في هذا المجلس.
فأتاه أبو طالب فخطب إليه خديجة على النبي صلى الله عليه وسلم، فزوجه، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي، فلما ذهب عنه السكر سمع أصواتا فقال: ما هذا؟ فأخبر، فقال: خدعتني.
فقالت: يا هذا، هو الله كفؤك؛ فأتم له ذلك. ففعل.
#455#
وهذا لا يثبت، وما رواه الكلبي عن أبي صالح لا شيء.
وخرج الطبراني في "معجمه الكبير" من حديث حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس رضي الله عنهما -فيما يحسب ابن سلمة-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وكان أبوها يرغب أن يزوجه ، فصنعت طعاما وشرابا، ودعت أباها وأناسا من قريش، فطعموا وشربوا، فقالت خديجة لأبيها: إن محمد بن عبد الله يخطبني، قم فزوجه. فزوجها إياه، فخلقته وألبسته حلة، وكذلك كانوا يفعلون بالآباء إذا زوجوا بناتهم، فلما سري عنه السكر نظر فإذا هو مخلق وعليه حلة، قال: ما شأني؟ فقالت: زوجتني من "محمد". فقال: أنا زوجتك؟! .. .. الحديث، وفيه: فلم تزل به حتى رضي.
وخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" فقال: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد .. .. فذكره.
وقال الطبراني في "معجمه": حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثني أبي، عن الأعمش، عن أبي خالد الوالبي، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه -أو: رجل من أصحاب النبي
#456#
صلى الله عليه وسلم- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنما فاستعلى الغنم، فكان في الإبل هو وشريك له، فاكتريا أخت خديجة، فلما قضوا السفر بقي لهم عليها شيء، فجعل شريكه يأتيهم فيتقاضاهم ويقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: انطلق. فيقول: "اذهب أنت فإني أستحيي".
فقالت مرة وأتاهم: فأين محمد لا يجيء معك. قال: قد قلت له، فزعم أنه يستحيي.
فقالت: ما رأيت رجلا أشد حياء منه، ولا أعف، ولا، ولا.
فوقع في نفس أختها خديجة، فبعثت إليه، فقالت: ائت أبي فاخطبني إليه.
فقال: "أبوك رجل كثير المال، وهو لا يفعل".
قالت: انطلق فالقه وكلمه ثم أنا أكفيك، وائت عند سكره.
ففعل، فأتاه، فزوجه، فلما أصبح جلس في المجلس، فقيل له: قد أحسنت، زوجت محمدا صلى الله عليه وسلم قال: أو قد فعلت؟
قالوا: نعم.
فقام، فدخل عليها فقال: إن الناس يقولون: إني قد زوجت محمدا، وما فعلت؟!
قالت: بلى، فلا تسفهن رأيك، فإن محمدا كذا وكذا. فلم تزل به حتى رضي، ثم بعثت إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوقيتين من فضة أو ذهب، وقالت: اشتر حلة فاهدها له وكبشا وكذا وكذا. ففعل.
وقال يعقوب بن سفيان في "تاريخه": حدثنا إبراهيم بن المنذر،
#457#
حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي، حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه، عن مقسم، عن القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، أن عبد الله بن الحارث حدثه: أن عمار بن ياسر رضي الله عنهما كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت له تربا، وكنت له إلفا وخدنا، وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، حتى إذا كنا بـ "الحزورة" أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟
قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته.
فقال: "بلى، لعمري".
فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا.
فغدونا عليهم، قال: فوجدناهم قد ذبحوا بقرة، وألبسوا خديجة حلة، وصفرت لحيته، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقي خمرا، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه، وسأله أن يزوجه، فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاما، فأكلنا منه، ونام أبوها، ثم استيقظ صاحيا فقال: ما هذه الحلة؟ وهذه النقيعة؟ وهذا الطعام.
فقالت له ابنته التي كانت كلمت عمارا: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك حين زوجته خديجة.
#458#
فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء الحجر، وخرجت بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاؤه فكلموه.
فقال: أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته؟
فبرز له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجتك فسبيل ذلك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته.
في هذه الأخبار أن أباها زوجها، وهو قول الزهري وابن إسحاق وطائفة، وقد تقدم أن عمها "عمرو بن أسد" زوجها، وهو المشهور.
وروى يعقوب بن سفيان في "التاريخ": عن إبراهيم بن المنذر، عن عمر بن أبي بكر المؤملي أنه قال: والمجتمع: أن عمها "عمرو بن أسد" الذي زوجها. انتهى.
وكان أبو خديجة "خويلد" إذ ذاك هلك فيما قاله أبو العباس محمد بن يزيد المبرد، وموت أبيها كان يوم حرب الفجار - فيما بلغنا عن الواقدي وغيره.
قال محمد بن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر بن عبد الله بن مسلم، عن أبيه، عن محمد بن جبير بن مطعم. ح.
قال: وحدثنا ابن أبي الزناد، عن هشام، عن عروة، عن عائشة.
قال: وحدثنا ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن [ابن] عباس رضي الله عنهما: أن عم خديجة "عمرو بن أسد" زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أباها مات "يوم الفجار".
#459#
قال محمد بن عمر: وهذا المجتمع عليه عند أصحابنا، ليس بينهم فيه اختلاف. انتهى.
و"الفجار" كان مرارا كما ذكرناه، فـ "الفجار الأول" كان في سنة عشر من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحرب فيه ثلاث مرار، ولم يحضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر ابن الجوزي أن القتال حصل في كل مرة بين القوم.
وذكر أبو محمد ابن قتيبة في "المعارف" أنه لم يكن بينهم قتال.
و"الفجار الثاني" ذكرناه قبل، أنه كان في سنة أربع عشرة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: في سنة عشرين.
فظهر بهذا أن أبا خديجة لم يكن حيا حين تزوجت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن ابن إسحاق وغيره: أن أخاها "عمرو بن خويلد" أنكحها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
$[خطبة أبي طالب عند تزويج خديجة للنبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقد جاء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء لتزويج خديجة دخل في عمومته وبني هاشم، فقام أبو طالب فقال: "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل، وضئضئ معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا،
#460#
وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا "محمد بن عبد الله" لا يوزن به رجل إلا رجح به برا وفضلا وكرما وعقلا ومجدا ونبلا، وإن كان في المال قل فإن المال زائل، وأمر حائل، وعارية مسترجعة، و"محمد" قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة وبذلك لها من الصداق ما هو آجله وعاجله من مالي، وهو -والله- بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل"، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكره بنحوه أبو الحسين ابن فارس في "مختصر السيرة".
وذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقها عشرين بكرة.
وقيل: أصدقها اثنتي عشرة أوقية . وقيل: ونشا.
$[ما روي في كم عمر النبي صلى الله عليه وسلم عند زواجه خديجة]:$
وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وهو المشهور وهو قول أبي عمرو بن العلاء وغيره.
#461#
وقال أبو عمر ابن عبد البر: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام في تجارة لخديجة سنة خمس وعشرين، وتزوج خديجة بعد ذلك بشهرين وخمسة وعشرين يوما في عقب صفر سنة ست وعشرين، وذلك بعد خمس وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام من يوم الفيل.
وقيل: لما تزوج بها كان ابن إحدى وعشرين سنة. قاله الزهري.
وجاء عن ابن جريج: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وهو ابن سبع وثلاثين سنة.
$[ما روي في كم عمر خديجة عند زواجها النبي صلى الله عليه وسلم]:$
وقال أبو عمر ابن عبد البر: وقال أبو بكر ابن عثمان وغيره: كان يومئذ ابن ثلاثين سنة. قال: وخديجة بنت أربعين سنة. انتهى.
وهذا هو المشهور في سن خديجة يومئذ؛ لأنه نقل فيما قدمناه أن مولدها كان قبل "الفيل" بخمس عشرة سنة.
وقال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن الأسدي، عن أهله قال: سألوا حكيم بن حزام رضي الله عنه: أيهما كان أسن: رسول الله صلى الله عليه وسلم أو "خديجة"؟ فقال: كانت خديجة أسن منه بخمس عشرة سنة، لقد حرمت على عمتي الصلاة قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
#462#
قال أبو عبد الله محمد بن سعيد: قول حكيم: "حرمت عليها الصلاة" يعني: حاضت. ولكنه تكلم بما يتكلم به أهل الإسلام.
وقال ابن سعد: قال محمد بن عمر: نحن نقول ومن عندنا من أهل العلم: أن خديجة ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة وإنما كانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة.
أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المنذر بن عبد الله الحزامي، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى الزبير، سمعت حكيم بن حزام يقول: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وهي ابنة أربعين سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس وعشرين سنة، وكانت أسن مني بسنتين، ولدت قبل "الفيل" بخمس عشرة سنة، وولدت أنا قبل الفيل بثلاث عشرة سنة.
وقيل: كان سنها لما تزوجها خمسا وأربعين سنة.
وقيل: ثلاثين سنة.
وقيل: ثمان وعشرين سنة.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا هشام بن محمد بن السائب، عن أبيه، عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت خديجة يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة ثمان وعشرين سنة، ومهرها اثنتي عشرة أوقية، وكذلك كانت مهور نسائه صلى الله عليه وسلم.
#463#
وكانت قد ذكرت "خديجة" إلى "ورقة بن نوفل" فلم يقض بينهما نكح، فتزوجها "عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم".
و"عابد" هذا بالموحدة والدال المهملة، ومن كان من ولد "عمر بن مخزوم" كذلك، وأما من كان من ولد "عمران بن مخزوم" كذلك، وأما من كان من ولد "عمران بن مخزوم" فهو "عائذ" بالهمز والذال المعجمة.
ذكره الزبير بن بكار.
وولدت "خديجة" لـ "عتيق" هذا جارية اسمها: "هند"، وقال ابن سعد -عن "عتيق"-: وهو: ابن عمها، فولدت له "محمدا"، ويقال: لبني محمد هذا بنو الطاهرة؛ لمكان "خديجة"، وكان له بقية وعقب فانقرضوا. انتهى.
ثم خلف عليها "أبو هالة هند بن النباش بن زرادة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم" حليف بني عبد الدار بن قصي.
وقيل: اسمه: "زرارة".
#464#
وسماه الزبير بن بكار: "مالك بن نباش بن زرارة".
وقال في جده "عدي".
فذكر أبو نصر ابن ماكولا: أن أحمد بن سعيد الدمشقي زعم: أنه "غدي" بضم الغين المعجمة، وأن الزبير صحفه وقال: "عدي".
فولدت "خديجة" لأبي هالة -فيما ذكره ابن حزم-: "هندا"، وبه كانت تكنى خديجة.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال يونس: وولدت له أيضا: "الحارث" و"زينب".
وذكر أبو عمر ابن عبد البر في أولاد أبي هالة: "الطاهر بن [أبي] هالة"، وقال: أخو "هند" و"هالة" بنو أبي هالة الأسدي التميمي، حليف بني عبد الدار بن قصي، أمه "خديجة" زوج النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملا على بعض اليمن. انتهى.
وقيل: إن "عتيقا" خلف عليها بعد "أبي هالة" على ما ذكره ابن سعد وغيره، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت منه بأولاده كلهم إلا "إبراهيم".
#465#
قال الواقدي: وكانت "سلمى" مولاة "صفية بنت عبد المطلب" تقبل "خديجة" في أولادها، قالت: فكانت تعق عن كل غلام شاتين وعن الجارية شاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تسترضع لهم، وتعد ذلك قبل ولادها. انتهى.
[ذكر ما روي في أولاد النبي صلى الله عليه وسلم]:
فأولاد النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها ستة، ولدتهم قبل الإسلام، إلا القاسم فيما قاله أبو عبيدة وغيره.
وروي عن "نفيسة" أخت "يعلى" قالت: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم "خديجة" مرجعه من الشام وهو ابن خمس وعشرين سنة، فولدت له: "القاسم" و"الطاهر" و"زينب" و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة".
قاله البخاري في "تاريخه الصغير".
#466#
وقد قدمناه مطولا.
وقال البخاري في "تاريخه الأوسط": حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني أخي، عن سليمان، عن هشام بن عروة قال: ولد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من "خديجة" بمكة: "عبد الله" و"القاسم" وماتا قبل الإسلام.
وقال الطبراني في "معجمه الأوسط": حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبيد بن عقيل، حدثنا عبد السلام بن راشد الرفاء، حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عثمان، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن خديجة ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ستة: "عبد الله" و"القاسم" و"زينب" و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة"، وولدت له "مارية": "إبراهيم".
وخرجه أيضا في "معجمه الكبير" فقال: حدثنا عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل، حدثنا أبي، حدثنا عبد السلام بن راشد، فذكره.
#467#
وذكر بعضهم: أن "القاسم" بكر النبي صلى الله عليه وسلم وبه كان يكنى.
وقيل: ولد "القاسم" قبل النبوة بمكة، ومات بها وهو ابن سنتين. قاله الزهري.
وقال مجاهد: مات وله سبعة أيام. وخطأ ذلك "الغلابي" وقال: الصواب: أنه عاش سبعة عشر شهرا.
وقال قتادة: عاش "القاسم" حتى مشى.
وحدث أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، عن يونس بن بكير، عن أبي عبد الله الجعفي، عن جابر، عن محمد بن علي قال: كان "القاسم" ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ أن يركب الدابة، ويسير على النجيبة،
#468#
فلما قبضه الله عز وجل قال عمرو بن العاص: لقد أصبح محمد صلى الله عليه وسلم أبتر من ابنه. فأنزل الله عز وجل: {إنا أعطيناك الكوثر} عوضا يا محمد عن مصيبتك بـ "القاسم" {فصل لربك وانحر} السورة.
هكذا في هذه الرواية! والمشهور أن القائل للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك هو العاص بن وائل السهمي أحد المستهزئين الذين أهلكهم الله عز وجل.
وذكر الزبير بن بكار: أن "القاسم" مات بمكة، وهو أول ميت مات من أولاد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، ثم "عبد الله" مات أيضا بمكة.
وذكر أبو الحسن علي بن الجنيد الرازي في "تاريخه": وهو جزء لطيف أن "القاسم" ولد بعد البنات، و"عبد الله" ولد في الإسلام؛ ولهذا تسمى "الطيب" و"الطاهر"، وقيل: هما غيره، والأول أصح.
#469#
وقال أبو بكر البرقي: ويقال: إن "الطيب" هو "الطاهر" وهو "عبد الله"، وفرق قوم بينهما، ويقال إن "الطيب" و"المطيب" ولدا في بطن، و "الطاهر" و"المطهر" ولدا في بطن.
قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "الوفا":الصحيح: أن هذه الألقاب لـ "عبد الله"؛ لأنه ولد في الإسلام.
وقال في كتابه "منتخل المنتخب" فيما وجدته بخطه في "ترجمة عبد الله": وهو "الطيب" و"الطاهر" لقبان له.
وذكره الزبير بن بكار، وهو قول الزهري.
وقال علي بن الجنيد في "تاريخه" في ترجمة "خديجة": وولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناته الأربع: "زينب" و"رقية" و"أم كلثوم" و"فاطمة"، وولدت بعد البنات: "القاسم" و"الطاهر" و"إبراهيم" و"الطيب"، فذهب الغلمة وهم يرضعون.
كذا قال ابن الجنيد، والصحيح: أن "إبراهيم" من "مارية القبطية" كما في "الصحيح"، ولم تلد له "خديجة" رضي الله عنها ولدا اسمه "إبراهيم"، ولم أر أحدا ذكره إلا ابن الجنيد، كما ذكرناه عن "تاريخه"، ثم ذكر ابن الجنيد بعد ذلك "مارية القبطية"، ثم قال: ولدت له "إبراهيم" فمات.
#470#
وقوله: "فذهب الغلمة وهم يرضعون" في ذلك خلاف ذكر بعضه.
وقد جاء: أن "خديجة" رضي الله عنها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي بعد موت "القاسم" فقالت: يا رسول الله، درت لبينة "القاسم"، فلو كان عاش حتى يستكمل رضاعه لهون علي. فقال: "إن شئت أسمعتك صوته في الجنة؟"، فقالت: بلى؛ أصدق الله ورسوله.
خرجه الفريابي في "مسنده".
وروينا من طريق أحمد بن محمد بن سلم الكاتب، حدثنا حفص الربالي، حدثنا أبو زياد سهل بن زياد، حدثنا الأزرق بن قيس، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن خديجة ابنة خويلد: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أين أطفالي منك؟ قال: "في الجنة"، قالت: بغير عمل؟ قال: "قد علم الله ما كانوا عاملين"، قالت: فأين أطفالي من أزواجي من المشركين؟ فقال: "في النار"، قالت: بغير عمل؟ قال: "قد علم الله ما كانوا عاملين".
#471#
وهو في "سنن أبي داود" بنحوه.
وذكره بنحوه مختصرا أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه "أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال فيه عن أولادها من النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "وإن شئت دعوت الله فأراكهم وأراك منزلهم وأسمعك أصواتهم" أو نحو هذا، فقالت: بل أصدق الله ورسوله.
وقال محمد بن أحمد بن البراء العبدي في كتابه "الروضة الصغيرة" وأبو عبد الرحمن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في "مسند أبيه" واللفظ له إسنادا ومتنا حدثني عثمان بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن محمد بن عثمان، عن زاذان، عن علي رضي الله عنه قال: سألت خديجة رضي الله عنها النبي عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما في النار".
قال: فلما رأى الكراهية في وجهها قال: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما"، قالت: يا رسول الله، فولدي منك؟ قال: "في الجنة". قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم}.
"محمد بن عثمان" الراوي عن "زاذان": قال الذهبي عنه في "الميزان": لا ندري من هو؟! فتشت عليه في أماكن، وله خبر منكر.
#472#
ثم ذكر الحديث الذي ذكرناه من رواية عبد الله بن أحمد.
وأخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الفارقي، ومحمد بن محمد البالسي، وأبو بكر بن إبراهيم بن العز المقدسي، وأبو الحسن علي وزينب ولد الفخر عثمان الحلبي، وزينب بنت الإمام عبد الله الحراني، وفاطمة وعائشة: بنتا محمد بن عبد الهادي، وغيرهم: بقراءتي عليهم، سوى الأول: فقراءة عليه، وأنا أسمع، قالوا: أخبرنا أحمد بن أبي طالب البناني قراءة عليه، قال علي وبنت الحراني: ونحن حاضران، وقال الآخرون: ونحن نسمع.
#473#
زاد أبو هريرة فقال: وأخبرنا عيسى بن عبد الرحمن الدلال، وسليمان بن حمزة الحاكم وأبو بكر بن أحمد الضرير وإسماعيل بن يوسف السويدي وزينب بنت شكر، قراءة على الأول وأنا شاهد، وأجازه لي الباقون، قالوا سوى أبي بكر: أخبرنا عبد الله بن عمر الحريمي، وقال الحاكم أيضا وأبو بكر الضرير: أخبرنا الحسين بن المبارك البغدادي، قال الحاكم: حضورا، وقال الضرير: سماعا، قالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا محمد بن [أبي] مسعود، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا عبد الله بن محمد أبو القاسم، حدثنا العلاء بن موسى، حدثنا الهيثم بن
#474#
عدي قال: وحدثنا هشام بن عروة، عن أبيه قال: فولدت له صلى الله عليه وسلم -يعني: خديجة-: "عبد العزى" و"عبد مناف" و"القاسم". قال: قلت لهشام: فأين "الطيب" و"الطاهر"؟ قال: هذا ما وضعتم أنتم يا أهل العراق، وأما أشياخنا فقالوا: "عبد العزى" و"عبد مناف" و"القاسم". وذكر بقيته.
قال ابن الجوزي في كتابه "تلقيح فهوم أهل الأثر": "الهيثم": كذاب لا يلتفت إلى قوله، قال لنا شيخنا ابن ناصر: لم يسم رسول الله صلى الله عليه وسلم "عبد مناف" ولا "عبد العزى".
قال أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري -رحمه الله وإيانا- فيما وجدته بخطه: لقد صدق الحافظ ابن ناصر، وكان من الصدق والحفظ
#475#
بمكان رفيع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسم "عبد مناف" ولا "عبد العزى" وفي حديث الراهب الذي نزل به في سفره لما رأى علامات النبوة فيه قال له: يا غلام، باللات والعزى، أسألك ألا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى، فوالله ما بغضت شيئا بغضهما"، قال: فبالله، ألا أخبرتني عما أسألك عنه. قال: "سلني عما بدا لك". انتهى.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في ترجمة خديجة رضي الله عنها: وولدت له في الجاهلية: "القاسم"، و"عبد مناف"، و"الطيب" وهو "عبد الله" مات رضيعا، و"الطاهر"، فذلك أربع بنات وأربعة بنين، والدليل على ذلك: أن "عبد مناف" لو كان ولد في الإسلام لم يسمه عبد مناف.
وقال أبو محمد ابن حزم: وكان له صلى الله عليه وسلم من الولد "القاسم" وبه يكنى، عاش أياما يسيرة، وولد له قبل النبوة ولدان آخران اختلف في اسم أحدهما: فلا تخرج الرواية في ذلك عن "عبد الله" و"القاسم" و"الطيب" و"المطيب"، و"زينب" و"رقية" و"فاطمة" و"أم كلثوم"، وهؤلاء كلهم ولدوا بمكة من خديجة رضي الله عنها.
#476#
وقال الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي: والصحيح في البنين: أنهم ثلاثة، وأول من ولد له "القاسم" ثم "زينب" ثم "رقية" ثم "فاطمة" ثم "أم كلثوم"، ثم في الإسلام: "عبد الله"، ثم "إبراهيم" بالمدينة.
قال: وكلهم ماتوا قبله صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها؛ فإنها عاشت بعده ستة أشهر. انتهى.
وخرج الترمذي في "جامعه" عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي في قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} قال: ما كان ليعيش له فيكم ولد ذكر.
#477#
&تزويجه صلى الله عليه وسلم بناته رضي الله تعالى عنهن&
والبنات الأربع زوجهن كلهن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أيوب بن عتبة، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يزوج شيئا من بناته جلس إلى خدرها فقال: "إن فلانا يذكر فلانة" يسميها ويسمي الرجل الذي يذكرها، فإن هي سكتت زوجها، وإن كرهت نقرت الستر، فإذا نقرته لم يزوجها.
أما فاطمة رضي الله عنها فكنيتها: "أم أبيها" فيما ذكر عن جعفر بن محمد.
وولدت وقريش تبني البيت، وذلك قبل النبوة بخمس سنين، ذكره ابن سعد في "الطبقات"، وذكر نحوه علي بن محمد المدائني.
وروي عن أبي جعفر قال: دخل العباس على علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنها وهي تقول: أنا أسن منك، فقال العباس رضي الله عنه: أما أنت يا فاطمة، ولدت وقريش تبني البيت، والنبي ابن خمس وثلاثين سنة، وأما أنت يا علي، فولدت قبل ذلك بسنوات.
وقيل: ولدت "فاطمة" رضي الله عنها سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم. قاله عبيد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي.
#478#
$[تزويج علي رضي الله عنه بفاطمة رضي الله عنها]$
تزوجها "علي" رضي الله عنهما على صداق مختلف فيه:
فروى يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم قال: كان صداق بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه خمسمائة درهم، اثنتي عشرة أوقية ونصفا.
وحدث يونس بن بكير في "المغازي" عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي رضي الله عنه قال: خطبت "فاطمة" إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لي مولاة لي: هل علمت أن "فاطمة" قد خطبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قالت : فقد خطبت فما يمنعك أن تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيزوجك؟ فقلت: وعندي شيء أتزوج؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجك. فوالله ما زالت ترجيني حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم هيبة وجلال، فلما قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألك حاجة؟" فسكت، فقال: "لعلك جئت تخطب فاطمة؟" فقلت: نعم. "هل عندك من شيء تستحلها به؟" فقلت: لا والله يا رسول الله. فقال: "ما فعلت الدرع الذي سلحتكها؟"،
#479#
فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ما ثمنها أربعة دراهم. فقلت: عندي. فقال: "قد زوجتكها، فابعث بها إليها فاستحلها به"، فإن كانت لصداق بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء في رواية ستأتي قريبا - إن شاء الله تعالى- أن الذي حرضه على خطبة فاطمة: سعد بن معاذ رضي الله عنه.
وحدث سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجل سمع عليا رضي الله عنه يقول: أردت أن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، فقلت: والله ما لي من شيء، وكيف؟ قال: ثم ذكرت صلته وعائدته، فخطبتها إليه، فقال: "وهل عندك شيء؟" قلت: لا. قال: "وأين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا؟" قلت: هي عندي. قال: "فأعطها إياها".
حدث به أحمد بن حنبل في "مسنده" عن سفيان نحوه.
وقال أبو داود في "سننه": حدثنا كثير بن عبيد الحمصي، حدثنا أبو حيوة، عن شعيب -هو: ابن أبي حمزة-، حدثني غيلان بن أنس، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أن عليا لما تزوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يدخل بها، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعطيها شيئا، فقال: يا رسول الله، ليس لي شيء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطها درعك"، فأعطاها إياه ثم دخل بها.
#480#
[حدثنا كثير بن عبيد]، حدثنا أبو حيوة، عن شعيب، عن غيلان، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
وقال إسحاق بن إسماعيل الطالقاني: حدثنا عبدة، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما تزوج علي رضي الله عنه فاطمة رضي الله عنها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا"، قال: ما عندي شيء. قال: "أين درعك الحطمية؟".
ورواه يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن أيوب بنحوه، وزاد في آخره: قال عكرمة: كان ثمنها -يعني: الدرع- أربعة دراهم.
تابعه حماد بن زيد، عن أيوب.
ورواه يحيى بن أبي كثير وغيره عن عكرمة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "درعك الحطمية" قال شمر: هي من الدروع العريضة الثقيلة، هي التي تكسر السيوف.
#481#
ويقال: منسوبة إلى بطن من "عبد القيس" يقال لهم: "حطمة بن محارب" كانوا يعملون الدروع.
قال ابن عيينة: وهي شر الدروع.
قال أبو عبيد الهروي: وقيده أبو جعفر بن حبيب النحوي في كتابه "المؤتلف والمختلف" بفتح الحاء وتسكين الطاء: "حطمة بن محارب [بن عمرو] بن وديعة بن نكير".
قال القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني في "تهذيب كتاب ابن حبيب": يقال: "حطمة بن محارب" يعني: بضم الحاء وفتح الطاء، ويقول: إنه الذي نسبت إليه الدروع الحطمية.
قاله ابن الكلبي.
وقال الدارقطني وقد حكى قول ابن حبيب في "حطمة بن محارب" الذي تنسب إليه الدروع الحطمية: ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي
#482#
رضي الله عنه: "أين درعك الحطمية؟".
وقال ابن دريد: "الحطم": رجل من عبد القيس تنسب إليه الدروع الحطمية. عرفه ابن الكلبي، وقال الأصمعي:لا أدري إلى ما نسبت؟!
قال القاضي أبو الوليد: وأرى قول ابن دريد وهما، وأن الصواب ما ذكرته عن ابن الكلبي، وكذلك رأيته في "النسب" له؛ قال: ولد "محارب بن عمرو": "حطمة"، إليه تنسب الدروع الحطمية. انتهى.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه في "الدروع": البيضة: "درع حطمية" مضمومة ومفتوحة، وهي شر الدروع عندهم، وعندهم الثقيلة الغليظة الحلق، يقال لها: "حطمية" و"حطمية".
وقال حماد بن إدريس: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، سمعت عكرمة يقول: استحل علي فاطمة رضي الله عنهما ببدن من حديد، البدن: شبه درع، إلا أنه قصير بقدر ما يكون على الجسد، قصير الكمين.
قاله القاسم بن ثابت في "الدلائل".
وقال جعفر بن محمد عن أبيه قال: أصدق علي فاطمة درعا من حديد وجرد برد.
#483#
وروى وكيع بن الجراح، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر: أن عليا تزوج فاطمة على إهاب كبش وجرد حبرة.
تابعه زهير وإسرائيل عن جابر نحوه.
وقال أحمد بن عبد الجبار العطاردي: حدثنا يونس -يعني: ابن بكير-، عن عباد بن منصور، عن عطاء بن أبي رباح قال: لما خطب علي فاطمة رضي الله عنهما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن عليا قد ذكرك"، فسكتت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها: وكان تزويج فاطمة بعلي رضي الله عنهما في "رجب" بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بخمسة أشهر، وبنى بها مرجعه من "بدر"، وكان عمرها حين بنى بها علي رضي الله عنهما ثماني عشرة سنة.
وروي عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا حين دخل بفاطمة كان فراشهما إهاب كبش، إذا أرادا أن يناما قلباه على صوفه، ووسادتهما من أدم حشوها ليف.
وقال أبو العباس أحمد بن علي بن مسلم الأبار في "معجمه": حدثنا الزهري، حدثنا الفريابي -وهو عبيد الله بن محمد المقدمي حدثنا عبد الله بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر
#484#
رضي الله عنه قال: شهدت عرس علي وفاطمة رضي الله عنهما، فما رأيت عرسا قط أحسن منه، حشونا البيت كثيبا ترابا طيبا، وأكلنا زبيبا وتمرا، وكان فراشهما ليلة عرسهما إهاب كبش.
وروي عن مجالد، عن الشعبي قال: قال علي رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة وما لي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها.
ويروى عن هشيم، عن مجالد، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي نحوه.
وخرجه ابن ماجه من حديث [محمد بن] فضيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لقد أهديت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي، فما كان فراشنا ليلة أهديت إلي إلا مسك كبش.
قال أبو الحسن الدارقطني في كتابه "العلل": وخالفه يحيى بن يمان فرواه عن مجالد عن الشعبي عن علي، ولم يذكر الحارث في قوله، أشبه بالصواب، يعني: المرسل، ويشبه أن يكون هذا عن مجالد. انتهى.
#485#
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا أبو أسامة، أخبرنا زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام في خميل وقربة ووسادة أدم حشوها ليف الإذخر.
وحدث به النسائي في "سننه" عن نصير بن الفرج، عن أبي أسامة، عن زائدة.
وحدث به الإمام أحمد أيضا في "المسند" عن معاوية بن عمرو وأبي سعيد مولى بني هاشم قالا: حدثنا زائدة، فذكره.
قال أحمد: و"الخميل":القطيفة المخملة.
قلت: و"أبو سعيد" هذا هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد، مولى بني هاشم.
وحدث به أحمد أيضا عن عفان، حدثنا حماد، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة عليها السلام بعث معها بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحاءين وسقاء وجرتين.
#486#
وخرجه ابن ماجه عن واصل بن عبد الأعلى، عن محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب بنحوه.
وقال موسى بن إسماعيل: حدثنا دارم بن عبد الرحمن بن ثعلبة الحنفي، حدثنا رجل أخواله الأنصار، أخبرتني جدتي: أنها كانت مع النسوة اللاتي أهدين فاطمة إلى علي رضي الله عنهما، قالت: أهديت في بردين من برود الأول عليها دملوجان من فضة مصفران بزعفران، فدخلنا بيت علي رضي الله عنه، فإذا إهاب شاة على دكان، ووسادة فيها ليف، وقربة ومنخل ومنشفة وقدح.
رواه ابن سعد، عن موسى بن إسماعيل.
وروي أيضا عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي يزيد المديني، وأظنه ذكره عن عكرمة قال: لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فاطمة رضي الله عنهما كان فيما جهزت به سرير مشروط ووسادة من أدم حشوها ليف، وتور من أدم، وقربة.
قال: وجاؤوا ببطحاء فطرحوها في البيت.
قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: "إذا أتيت بها فلا تقربنها حتى آتيك".
قال: وكانت اليهود يؤخذون الرجل عن امرأته. قال: فلما أتى بها قعد حييا في ناحية البيت. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتح، فخرجت إليه أم أيمن فقال: "أثم أخي؟" قالت: كيف يكون أخاك وقد
#487#
أنكحته ابنتك؟ قال: "فإنه كذلك".
ثم قال: "أأسماء بنت عميس؟" قالت: نعم.
قال: "جئت تكرمين ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" فقالت: نعم. فقال لها خيرا أو دعا لها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتي به إما في تور وإما في سراة.
قال: فمج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسه بيده، ثم دعا عليا فنضح عليه من ذلك الماء على كتفيه وصدره وذراعه، ثم دعا فاطمة فأقبلت تعثر في ثوبها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فعل بها مثل ذلك، ثم قال: "يا فاطمة، أما إني ما آليت أن أنكحتك خير أهلي".
ورواه أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي فقال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله البصري، حدثنا صالح بن حاتم بن وردان، حدثني أبي، حدثني أيوب، عن أبي يزيد المديني، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: كنت في زفاف بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة عليها السلام، فلما أصبحنا جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الباب فقال: "يا أم أيمن، ادعي لي أخي"، قالت: هو أخوك وتنكحه ابنتك؟ قال: "نعم يا أم أيمن" قالت: فجاء علي رضي الله عنه، فنضح النبي صلى الله عليه وسلم [عليه] من الماء، ودعا له، ثم قال: "ادعوا لي فاطمة". قالت: فجاءت تعثر من الحياء، فقال لها رسول الله
#488#
صلى الله عليه وسلم: "اسكني؛ فقد أنحتك أحب أهل بيتي إلي" ونضح النبي صلى الله عليه وسلم عليها من الماء ودعا لها.
قالت: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى سوادا بين يديه فقال: "من هذا؟"، فقلت: أنا. قال: "أسماء؟"، قلت: نعم. قال: "بنت عميس؟" قلت: نعم. قال: "جئت في زفاف بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تكرمة له؟" قلت: نعم. قالت: فدعا لي.
ورواه مطولا أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في "تاريخه" فقال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن شبويه بالكوفة سنة تسع عشرة ومائتين، قال: قلت لعبد العزيز: أخبركم يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، عن حنظلة بن سبرة بن المسيب، عن أبيه، عن جده -سقط من كتابي "عن" فقط- ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت فاطمة عليها السلام تذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يذكرها أحد إلا صد عنه، حتى يئسوا منه، فلقي سعد بن معاذ علي رضي الله عنهما فقال: إني والله ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبسها إلا عليك.
فقال له: بم ترى ذلك؟ فوالله ما أنا بواحد من الرجلين: ما أنا
#489#
بصاحب دنيا فيلتمس ما عندي وقد علم ما لي صفراء ولا بيضاء، وما أنا بالكافر الذي يترقرق لي بهاء عن دينه -يعني: يتألفه بها عن دينه-، إني لأول من أسلم.
فقال سعد رضي الله عنه: فإني أعزم عليك لتفرجنها عني، فإن لي في ذلك فرجا.
قال: أقول ماذا؟ قال: تقول: جئت خاطبا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنة محمد. فانطلق علي رضي الله عنه، فعرض للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ثقيل حصر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا" كلمة ضعيفة.
ثم رجع إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: ما قلت؟ قال: قلت الذي أمرتني به، غير أنه رحب بي كلمة ضعيفة.
فقال سعد: أنكحك والذي بعثه بالحق، إنه لا خلف عنده ولا كذب، أعزم عليك لتأتينه غدا فلتقولن: يا نبي الله، متى تبنيني بأهلي؟ قال علي: هذا أشد من الأول، ولا أقول يا رسول الله، حاجتي؟! قال: قل كما أمرتك.
قال: فانطلق علي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، متى تبنيني بأهلي؟ قال: "الليلة إن شاء الله"، ثم دعا "بلالا" فقال: "يا بلال، قد زوجت ابنتي بابن عمي، فأنا أحب أن تكون من سنة أمتي الطعام عند النكاح، ائت الغنم فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة، فاجعل لي قصعة لعلي أن أجمع عليها المهاجرين والأنصار، فإذا فرغت منها فأذني بها" فانطلق ففعل ما أمره به، ثم أتاه بقصعة فوضعها بين يديه، فطعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رأسها، ثم قال: "أدخل الناس رفقة رفقة ولا يعادون إلى غيرها"، فجعل الناس يردون، كلما فرغت رفقة وردت رفقة أخرى، حتى فرغ الناس، ثم عمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فضل منها فتفل فيه وبرك وقال:
#490#
يا بلال، احملها إلى أمهاتك وقل لهن: كلن وأطعمن من غشيكن".
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قام حتى دخل على النساء فقال: "إني قد زوجت ابنتي ابن عمي، وقد علمتن منزلتها مني، وأنا دافعها، إلا إن شاء الله، فدونكن ابنتكن"، فقمن إليها فغلفنها من طيبهن وحليهن، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل فلما رآه النساء وثبن، وبينهن وبين النبي صلى الله عليه وسلم سترة، وتخلفت أسماء بنت عميس، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "كما أنت، على رسلك، من أنت؟" قالت: أنا التي أحرس ابنتك، فإن الفتاة ليلة يبنى بها لا بد من امرأة تكون قريبا منها، إن عرضت لها حاجة أو أرادت شيئا أومأت بذلك إليها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أسأل الله أن يحرسك من بين يديك ومن/ خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، من الشيطان الرجيم".
ثم صرخ بفاطمة عليها السلام فأقبلت، فلما رأت عليا جالسا إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم حضرت وبكت، فأشفق النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون بكاؤها أن عليا لا مال له، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟ ما ألوتك في نفسي، لقد أصبت لك خير أهلي، وايم الذي نفسي بيده لقد زوجتك به سعيدا في الدنيا، وإنه في الآخرة لمن الصالحين".
قال أبو بكر: ذهب علي حرف لا أعرفه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسماء، ائتني بالمخضب فاملئيه ماء"، فأتت أسماء بالمخضب فملأته ماء، ثم مج النبي صلى الله عليه وسلم فيه وغسل فيه قدميه،
#491#
ثم دعا فاطمة عليها السلام فأخذ كفا من ماء فضرب بها على رأسها وكفا بين ثديها، ثم رش جلده وجلدها، ثم التزمها ثم قال: "اللهم إنما هما مني وأنا منهما، اللهم كما أذهبت عني الرجس وطهرتني فطهرهما".
ثم دعا بمخضب آخر، ثم دعا عليا رضي الله عنه، فصنع به كما صنع بها، ودعا له كما دعا لها، ثم قال: "قوما إلى بيتكما جمع الله بينكما، وبارك" - أراه قال: فيكما- "وأصلح بالكما"، ثم قام فأغلق عليهما بابه بيده.
قال ابن عباس: فأخبرتني أسماء بنت عميس: أنها رمقت النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يدعو لهما خاصة، لا يشركهما في دعائه أحد، حتى توارى في حجره.
وجاء عن عبد الرزاق: أن أسماء بنت عميس قالت: لما أهديت فاطمة إلى علي لم يجد في بيته إلا رملا مبسوطا ووسادة حشوها ليف.
وذكر الحديث بنحوه، وهو غير صحيح، فإن "أسماء بنت عميس" كانت حينئذ بالحبشة.
وقد رويت قصة عرس فاطمة عليها السلام من طرق أخر، ومن رواية كذابين ورافضة، أضربنا عنها، ولله الحمد.
وكذلك أضربنا عن حديث الخطبة عند التزويج التي أولها: "الحمد لله المحمود بنعمته".
وكذلك الخطبة المنسوبة إلى جبريل في ذلك أيضا، وما قيل إنه
#492#
جرى في زفافها؛ لكونه موضوعا لا يحل ذكره إلا للبيان، والله أعلم.
وقال ابن سعد: أخبرنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء بن السائب، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج فاطمة -عليها السلام- بعث معها بخملة ووسادة أدم حشوها ليف ورحاءين وسقاء وجرتين.
قال: فقال علي لفاطمة رضي الله عنهما ذات يوم: والله، لقد سنوت، حتى قد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباك بسبي؛ فاذهبي فاستخدميه.
فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما جاء بك، أي بنية؟" قالت: جئت لأسلم عليك. واستحت أن تسأله ورجعت.
فقال: ما فعلت؟ قالت: استحيت أن أسأله شيئا، فأتياه جميعا، فقال علي: والله يا رسول الله، لقد سنوت حتى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاء الله بسبي وسعة، فأخدمنا.
قال: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق أثمانهم"، فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفهما، إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مكانكما؛
#493#
ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟" فقالا: بلى. فقال: "كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا،، وتكبران عشرا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين".
فقال: والله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له ابن الكواء: ولا ليلة "صفين"؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ولا ليلة "صفين".
تابعه أحمد في "مسنده" عن عفان بطوله.
#494#
$مرض "فاطمة" عليها السلام ووفاتها، والاختلاف في مكان قبرها، وقدر عمرها$
ولدت فاطمة لعلي رضي الله عنهما: "حسنا" و"حسينا" و"محسنا" مات صغيرا، وولدت أيضا: "أم كلثوم" و"زينب".
ومرضت فاطمة رضي الله عنها أياما وتوفيت.
قال ابن سعد: أخبرنا عبد الله بن نمير، حدثنا إسماعيل، عن عامر قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه إلى فاطمة رضي الله عنها حين مرضت، فاستأذن، فقال علي رضي الله عنه: هذا "أبو بكر" على الباب، فإن شئت أن تأذني له. فقالت: وذلك أحب إليك؟ قال: نعم. فدخل عليها واعتذر لها وكلمها، فرضيت عنه.
وتابعه أبو حمزة محمد بن ميمون السكري، فرواه عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: لما مرضت "فاطمة" عليها السلام أتاها "أبو بكر" رضي الله عنه فاستأذن، فقال علي رضي الله عنه: هذا "أبو بكر" يستأذن عليك. فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم. فأذنت له، فدخل عليها يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ورسوله ومرضاتكم أهل البيت. ثم ترضاها حتى رضيت.
#495#
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن علي بن فلان بن أبي رافع، عن أبيه، عن سلمى قال: مرضت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا، فلما كان اليوم الذي توفيت فيه خرجت علي، فقالت: يا أمه، اسكبي لي غسلا، فسكبت لها، فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، ثم قالت: ائتني بثيابي الجدد. فأتيتها بها، فلبستها، ثم قالت: اجعلي فراشي وسط البيت، فجعلته، فاضطجعت عليه، واستقبلت القبلة ثم قالت: يا أمه، إني مقبوضة الساعة، وقد اغتسلت، فلا يكشفن لي أحد كنفا، قالت: فماتت، فجاء علي رضي الله عنه فأخبرته، فقال: لا والله، لا يكشف لها أحد كنفا، فاحتملها، فدفنها بغسلها.
تابعه أبو النضر هاشم بن القاسم، عن إبراهيم بن سعد.
ورواه عاصم بن علي ونوح بن يزيد والحكم بن أسلم، عن إبراهيم بن سعد أيضا، إلا أن في روايتهم: عنه: "عن محمد بن إسحاق عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن أمه سلمى قالت: اشتكت فاطمة
#496#
عليها السلام .. الحديث.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن فاطمة اغتسلت، فذكره مرسلا.
وخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق عاصم بن علي، قال: وهذا الحديث لا يصح. انتهى.
وقال محمد بن سعد أيضا: أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا عبد العزيز بن حازم، عن محمد بن موسى: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه غسل فاطمة عليها السلام.
#497#
وسيأتي إن شاء الله تعالى في "ترجمة: زينب بنت جحش" رواية مصرحة بأن "عليا" و"أسماء بنت عميس" غسلاها بوصية منها لأسماء.
وروى من حديث عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: صلى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل في حفرتها هو و"علي" و"الفضل بن عباس" رضي الله عنهم.
وروى الواقدي عن قيس بن الربيع، عن مجالد، عن الشعبي قال: صلى عليها أبو بكر رضي الله عنه.
وحدث به أحمد بن كامل القاضي، عن محمد بن عثمان، حدثنا عون بن سلام، حدثنا سوار بن مصعب، عن مجالد، عن الشعبي: أن فاطمة عليها السلام لما ماتت دفنها "علي" ليلا، فأخذ بضبعي أبي بكر رضي الله عنهما فقدمه. يعني: للصلاة عليها.
وجاء عن ابن مجيب محمد بن مجيب الصائغ، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: لما ماتت فاطمة
#498#
عليها السلام بين المغرب والعشاء قال: فشهدها نفر من المهاجرين فيهم: "أبو بكر" و"عمر" و"عثمان" و"طلحة" و"الزبير" و"عبد الرحمن بن عوف" رضي الله عنهم.
قال: فقال علي رضي الله عنه: يا أبا بكر، صل عليها. فقال أبو بكر: ما كنت لأصلي عليها وأنت شاهد.
قال: فقال علي رضي الله عنه: والله، لا يصلي عليها أحد غيرك.
قال: فتقدم فصلى عليها.
وجاء من طريق أبي محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي المصيصي - وهو واه، عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: توفيت فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا، فجاء "أبو بكر" و"عمر" و"عثمان" و"طلحة" و"الزبير" و"سعد" وجماعة كثيرة سماهم مالك رضي الله عنهم، فقال أبو بكر لعلي رضي الله عنهما: تقدم فصل عليها.
قال: لا والله، لا تقدمت وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فتقدم أبو بكر فصلى عليها فكبر أربعا ودفنها ليلا.
ورواه عن مالك: "كثير بن الوليد" وهو مجهول.
وروى شبابة بن سوار، حدثنا عبد الأعلى بن [أبي] المساور،
#499#
عن حماد، عن إبراهيم قال: صلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر عليها أربعا.
وجاء عن الزهري عن عروة: أن عليا صلى على فاطمة عليها السلام.
وروي عن علي بن حسين قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما: متى دفنتم "فاطمة"؟ قال: دفناها بليل، بعد هدأة. قال: فمن صلى عليها؟ قال: "علي" رضي الله عنهما.
وقال الواقدي: صلى عليها "العباس بن عبد المطلب"، فنزل في حفرتها هو و"علي" و"الفضل بن العباس" رضي الله عنهم.
وقال أيضا: سألت عبد الرحمن بن أبي الموالي قال: قلت: إن الناس يقولون: إن قبر فاطمة عليها السلام عند المسجد الذي يصلون إليه على جنائزهم بـ "البقيع". قال: والله ما ذاك إلا مسجد "رقية" -يعني: امرأة عمر- وما دفنت "فاطمة" إلا في "زاوية دار عقيل" مما يلي دار الجحشيين، مستقبل "خوخة بني نبيه" من بني عبد الدار بـ "البقيع"، وبين قبرها وبين الطريق سبعة أذرع.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن
#500#
إسماعيل، عن فائد مولى عبادل: أن عبيد الله بن علي أخبره وغيره ممن مضى من أهل بيته: أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أصابه بطن، فلما حزبه وعرف بنفسه الموت أرسل إلى "عائشة" أن تأذن أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: نعم ما كان بقي إلا موضع قبر واحد. فلما سمعت بذلك بنو أمية أسلوا السلاح هم وبنو هاشم للقتال، وقالت بنو أمية: لا والله لا يدفن أبدا. فبلغ "الحسن بن علي" فأرسل إلى أهله: أما إذا كان هذا فلا حاجة لي به، ادفنوني بالمقبرة إلى جنب أمي "فاطمة". فدفن إلى جنب "فاطمة".
قال فائد: فأخبرني مولاي ومن سميت من أهلي ممن مضى منهم: أن قبر "فاطمة" يواجه الخوخة التي في دار "نبيه بن وهب" طريق الناس بين قبر "فاطمة" وبين "خوخة نبيه"، أظن الطريق سبعة أذرع.
#501#
وقال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثني عبد الله بن حسن قال: وجدت "المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" واقفا ينتظرني بـ "البقيع" نصف النهار في حر شديد، [فقلت]: ما يوقفك يا أبا هشام ههنا؟ قال: انتظرتك، بلغني أن فاطمة رضي الله عنها دفنت في هذا البيت من "دار عقيل" مما يلي الجحشيين، فأحب أن تبتاعه [لي] بما بلغ؛ أدفن فيه. فقال عبد الله: والله لأفعلن. قال: فجهد بالعقيليين، فأبوا.
قال عبد الله بن جعفر: وما رأيت أحدا يشك في ذلك الموضع.
وبلغنا: أن "أبا العباس المزني" كان إذا زار "البقيع" وقف أمام قبلة "العباس" رضي الله عنه، وسلم على "فاطمة" رضي الله عنها.
ويذكر: أنه كشف له عن قبرها ثمة.
قال عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله عن جعفر بن محمد: قبر فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتها الذي أدخله "عمر بن عبد العزيز" رحمه الله في المسجد.
#502#
وروينا من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط أبي جعفر الأشجعي، حدثني أبي، عن أبيه، عن جده قال: لما توفيت فاطمة رضي الله عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ علي بن أبي طالب يقول:
لكل اجتماع من حبيبين فرقة ... وإن مقامي بعدكم لقريب
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على أن لا يدوم حبيب
توفيت "فاطمة" عليها السلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر. قالته: "عائشة" و"عروة" و"خلف"، وهو المشهور الصحيح.
قال الواقدي: وهو الثابت عندنا.
وقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني بعض المدنيين عن ابن جريج ومعمر، عن الزهري، عن عروة -قال معمر، عن عائشة-: توفيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر.
رواه الحميدي، عن سفيان، عن عمرو، عن ابن شهاب.
#503#
وروي أيضا عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر.
ونقل عن أبي جعفر أيضا: ستة أشهر.
وروى أبو بشر محمد بن أحمد الدولابي في كتابه "الذرية الطاهرة" فقال: حدثني عبيد الله بن سعيد، حدثني أبي، حدثني أبو عون بن عمر بن تميم الأنصاري، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرو الأنصاري، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: توفيت فاطمة رضي الله عنها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وتسعين ليلة في سنة إحدى عشرة.
وقيل: توفيت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثمانية أشهر.
رواه جرير عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث من قوله.
وقيل: بعده بشهرين.
وقيل: بسبعين يوما.
واختلف في سنها يوم توفيت، فقيل: توفيت فاطمة رضي الله عنها ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهي ابنة تسع وعشرين أو نحوها.
#504#
وقال الحافظ أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين في كتابه "دلائل النبوة": قال لنا ابن منيع: قال لنا أبو بكر ابن أبي شيبة: بلغني أن فاطمة عليها السلام توفيت وهي ابنة تسع وعشرين سنة.
وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: توفيت وهي ابنة ثمان وعشرين سنة.
وقال سعيد بن عفير: وهي بنت سبع وعشرين سنة.
وحدث الزبير بن بكار، عن محمد بن الحسن، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة: أن عبد الله بن حسن دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي، فقال هشام لعبد الله بن حسن: يا أبا محمد، كم بلغت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -ورضي عنها- من السن؟ قال: بلغت ثلاثين. فقال الكلبي: ما تقول؟ قال: بلغت خمسا وثلاثين سنة. فقال هشام لعبد الله: ألا تسمع ما يقول الكلبي وقد عني بهذا الأمر؟! فقال عبد الله بن حسن: يا أمير المؤمنين، سلني عن أمي فأنا أعلم بها، وسل الكلبي عن أمه فهو أعلم بها.
وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام": والصحيح: أن عمرها أربع وعشرون سنة - رضي الله عنها وأرضاها-.
#505#
وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله فيما وجدته في كتاب "منتخل المنتخب": وكانت "فاطمة" في السن صغرى وفي القدر الكبرى، ولم يرو عنه الحديث من بناته سواها.
قلت: ومن بنيه.
قال: فإنها روت عنه صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا، أخرج لها منها حديث واحد في الصحيحين.
وذكر الزبير بن بكار وعمه مصعب بن عبد الله: أن أصغر بناته "رقية" رضي الله عنها.
قال أبو عمر ابن عبد البر: وقد اضطرب "مصعب" و"الزبير" في بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيهن أصغر وأكبر- اضطربا يوجب أن لا يلتفت إليهما في ذلك، والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار في ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "زينب" الأولى، ثم الثانية: "رقية"، ثم الثالثة: "أم كلثوم"، ثم الرابعة: "فاطمة"، رضي الله تعالى عنهن، والله أعلم. انتهى قول أبي عمر.
وقال محمد بن يونس الكديمي: حدثنا حماد بن عيسى الجهني حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "سلام عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا، فعن قليل ينهد ركناك، والله خليفتي عليك".
قال: فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي رضي الله عنه: هذا أحد الركنين الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ماتت فاطمة عليها السلام قال علي رضي الله عنه: هذا
#506#
الركن [الآخر] الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتفرد به حماد بن عيسى غريق الجحفة، وقد ضعفوه.
قال مسدد: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن محمد بن جحادة، عن حميد الشامي، عن سليمان المنبهي، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله "فاطمة"، وأول من يدخل عليها إذا قدم "فاطمة"، الحديث.
وهو مما أنكر على حميد الشامي، ذكره ابن عدي وقال: لم أعلم غيره. انتهى.
وقال أبو الحسن محمد بن حامد السري خال ولد السني في كتابه "السنة": حدثني محمد بن محمد بن يحيى بن سعيد، حدثني زيد بن الحباب، أخبرني حسين بن واقد، حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من مغازيه قبل فاطمة -رضوان الله عليها-.
#507#
وحدث روح بن القاسم، عن عمرو بن دينار: قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت قط أحدا أفضل من فاطمة رضي الله عنها غير أبيها، وكان بينهما شيء، فقالت: يا رسول الله، سلها؛ فإنها لا تكذب.
وقال أبو القاسم الطبراني في كتابه "العشرة": حدثنا أبو مسلم الكشي، حدثنا عبد الحميد بن بحر الزاهراني الكوفي، حدثنا خالد بن عبد الله، عن بيان، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع؛ غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتمر ، وعليها ريطتان خضراوان".
ورويناه في الأول من "مسند أبي سعيد الهيثم بن كليب الشاشي" قال: وحدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله العبسي، حدثنا العباس بن الوليد، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن بيان، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة
#508#
نادى مناد من وراء العرش: غضوا أبصاركم؛ فإن هذه فاطمة تريد أن تمر على الصراط".
وقال أبو العباس أحمد بن مسلم الأبار الحافظ في "جمعه حديث الزهري": حدثنا عبد الله بن أبي بكر المقدمي، حدثنا الفضل بن عبد الوهاب، عن خالد الطحان، عن بيان، عن الشعبي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا أهل الجمع، غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وعليها ريطتان بيضاوان".
وقال أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي: حدثتنا سمانة بنت حمدان بن موسى بن زادي الأنبارية - وجدها: الوضاح بن حسان-، قالت: حدثني أبي، حدثنا عمرو بن زياد الثوباني، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا
#509#
كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: أيها الناس غضوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة إلى الجنة".
وله شاهد فيما رواه قيس بن الربيع، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا بمعناه.
وجاء عن علي بن موسى الرضي، عن آبائه.
قال أبو الحسن علي بن الخضري سليمان بن سعيد السلمي في كتابه "شرف النبي صلى الله عليه وسلم": أخبرنا أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي الحافظ، حدثنا محمد بن سليمان البندار، حدثنا أحمد بن إبراهيم الغلفي، حدثنا محمد بن عبد الله القرشي، حدثنا إسحاق بن الأشقر، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا عبد الله بن المثنى، عن عمه: ثمامة بن عبد الله بن أنس، عن أم سليم رضي الله عنها قالت: لم ير لفاطمة رضي الله عنها دم حيض ولا نفاس.
#510#
وقد جمع الحاكم أبو عبد الله في مناقب فاطمة عليها السلام وفي فضلها مصنفا.
ونسل النبي صلى الله عليه وسلم منها دون غيرها من أولاده.
وقال أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن بن النجار فيما أملاه في جمادى الأول سنة أربع وأربعين وثلاث مائة، حدثنا جعفر -يعني: ابن محمد بن شاكر الصائغ-، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا قيس بن الربيع. ح.
قال: وحدثنا أبو قلابة الرقاشي: حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا قيس بن الربيع، حدثنا عبد الله بن عمران، عن ابن جدعان -يعني: علي بن زيد-، عن سعيد بن المسيب، عن علي ابن أبي طالب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي شيء خير للمرأة؟"، فلم يجبه أحد. قال: فرجعت فذكرت ذلك لفاطمة قالت: فما أجابه إنسان؟! قلت: لا. قالت: ليس شيء خير للمرأة من أن لا ترى الرجل ولا يراها. قال: فأخبرته صلى الله عليه وسلم بما قالت، فقال: "إنها بضعة مني" أو قال: "مضغة مني".
واللفظ لـ"جعفر" عن "أبي غسان".
#511#
وأنشد الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في المجلس الرابع والأربعين بعد الثلاث مائة من إملائه ووجدته بخطه:
لفاطمة البتول الطهر فضل ... تحققه الرجال أولو العقول
أتتنا فيه أخبار صحاح ... تلقتها الأئمة بالقبول
ولو لم يأتنا في ذاك نقل ... كفاها كونها بنت الرسول
وزوج الهاشمي وأم سبطي ... رسول الله ذي العطف الوصول
فأظهر حبها تؤجر عليه ... ويخبر منك عن طيب الأصول
فإن محبها في الحشر ناج ... ستوصله إلى أوفى وصول
وليس يسر للزهراء بغضا ... سوى رجل دعي أو جهول
فرضوان المهيمن كل وقت ... ورحمته على روح البتول
#512#
$"زينب" رضي الله عنها، وتزويجها بابن خالتها "أبي العاص"، وإسلامه رضي الله عنه فيما بعد، ورجوعها إليه بعد إسلامه، وذكر وفاتها رضي الله عنها$
وأما "زينب" فكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، لا خلاف علمته في ذلك إلا ما لا يصح ولا يلتفت إليه، وإنما الاختلاف بين "القاسم" و"زينب" أيهما ولد له صلى الله عليه وسلم أولا؟
فقالت طائفة من أهل العلم بالنسب: أول ولد ولد له صلى الله عليه وسلم : "القاسم" ثم "زينب".
وقال ابن الكلبي: "زينب" ثم "القاسم". قاله أبو عمر ابن عبد البر.
ولفظ "زينب" مختلف في اشتقاقه، وقال بعضهم: "زينب": زين أب، أي: زين أبيها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم محبا لابنته "زينب"، وزوجها من ابن خالتها: أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى -وقيل: "ربيعة" بدل "عبد العزى"- ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.
وأمه: "هالة بنت خويلد بن أسد".
#513#
ولدت له زينب: "عليا"، مات مراهقا، و"أمامة" وهي التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يونس وعفان، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له قلادة من جزع فقال: "لأدفعنها إلى أحب أهلي إلي"، فقال النساء: ذهبت بها بنت أبي قحافة. فعلقها في عنق أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"أم محمد" هذه: هي امرأة والد الراوي عنها علي بن زيد بن جدعان، قيل : اسمها "أمينة"، وقيل: "أمية"، بنت عبد الله، والله أعلم.
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": أخبرني مصعب بن عبد الله قال: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند "أبي العاص"، فولدت له: "عليا" انقرض وكان غلاما، زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه يوم فتح مكة، فدخل مكة، وهو رديف النبي صلى الله عليه وسلم.
و"أمامة بنت أبي العاص"، تزوجها "علي" رضي الله عنهما، فهلكت ولم تلد، فليس لـ"زينب" عقب.
قلت: تزوج "علي" رضي الله عنه "أمامة" بعد وفاة خالتها "فاطمة"، أوصته بذلك "فاطمة" رضي الله عنها فيما قاله مصعب الزبيري.
#514#
وبعد موت "علي" تزوجها "المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب" بوصية من "علي" رضي الله عنه، ولم تلد أيضا للمغيرة شيئا، فيما قاله الزبير بن بكار.
ولدت "زينب" سنة ثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت قبل زوجها "أبي العاص"، وأبى حينئذ أن يسلم، وكان فيمن شهد "بدرا" مع المشركين، فأسر يومئذ.
قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المنذر بن سعد مولى لبني أسد بن عبد العزى، عن عيسى بن معمر، عن عباد بن عبد الله بن الزبيري. ح.
وقال يونس بن بكير: عن ابن إسحاق، حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، -واللفظ لابن سعد- عن عائشة رضي الله عنها: أن "أبا العاص بن الربيع"، كان فيمن شهد بدرا مع المشركين، فأسره عبد
#515#
الله في فداء أسراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع، وبعثت معه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي يومئذ بمكة قلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد، أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص بن الربيع حتى بنى بها، فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها، ورق لها، وذكر "خديجة"، فترحم عليها، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردون إليها متاعها فعلتم"، قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على "زينب" قلادتها، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص بن الربيع أن يخلي سبيلها إليه، ففعل.
وقال: قال "محمد بن عمر": وهذا أثبت عندنا من رواية من روى أن زينب هاجرت مع أبيها صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذه الرواية فيها انقطاع، جاءت عن "الشعبي" من قوله، وعن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحت "أبي العاص بن الربيع"، فهاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم زوجها فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فردها عليه.
قال قتادة: ثم أنزلت سورة براءة بعد ذلك، فإذا أسلمت المرأة قبل زوجها فلا سبيل له عليها إلا بخطبة، وإسلامها تطليقة بائنة.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل الشيباني
#516#
في كتابه "الآحاد والمثاني" في ذكر أبي العاص بن الربيع: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أيوب، عن سليمان بن بلال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجها "أبو العاص بن الربيع" كافر، ثم لحق "أبو العاص بن الربيع" بالشام، فأسر المسلمون "أبا العاص"، فقالت زينب رضي الله عنها: قد أجرت أبا العاص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت".
وهذه القصة التي رواها ابن أبي عاصم حدث بها أبو عبد الله الواقدي مطولة فقال: حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه قال: خرج "أبو العاص بن الربيع" إلى الشام في عير لقريش، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك العير قد أقبلت من الشام، فبعث "زيد بن حارثة" في سبعين ومائة راكبا، فلقوا العير بناحية "العيص" في جمادى الأول سنة ست من الهجرة، فأخذوها وما فيها من الأنفال، وأسروا ناسا ممن كان في العير، منهم: "أبو العاص بن الربيع"، فلم يعد أن جاء المدينة فدخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها بسحر وهي امرأته، فاستجار بها، فأجارته، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها: إني قد أجرت "العاص بن الربيع" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟" قالوا: نعم. قال: "فوالذي نفس محمد بيده،
#517#
ما علمت بشيء مما كان، حتى سمعت الذي سمعتم، المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت" فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب رضي الله عنها، فسألته أن يرد على "أبي العاص" ما أخذ منه، ففعل، وأمرها أن لا يقربها فإنها لا تحل له ما دام مشركا، ورجع "أبو العاص" إلى مكة، فأدى إلى كل ذي حق حقه، ثم أسلم ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا في المحرم سنة سبع من الهجرة، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها بذلك النكاح الأول.
وقال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على "أبي العاص بن الربيع"، وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، لم يحدث شهادة ولا صداقا.
ورواه أبو داود في "سننه" من حديث سلمة بن الفضل ومحمد بن سلمة ويزيد بن هارون، عن ابن إسحاق.
وهو في "سنن ابن ماجه" ليزيد بن هارون.
ورواه ابن سعد، عن يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته إلى أبي العاص بعد سنتين بنكاحها الأول، ولم يحدث صداقا.
#518#
وحدث به الترمذي في "جامعه" عن هناد، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بمعناه، وفيه: بعد ست سنين، قال الترمذي: ليس بإسناده بأس، ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله جاء هذا من قبل "داود بن حصين" من قبل حفظه، وسمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث، وحديث الحجاج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على "أبي العاص بن الربيع" بمهر جديد ونكاح جديد.
فقال يزيد: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب.
قلت: وحديث "عمرو بن شعيب" خرجه ابن سعد في "الطبقات" فقال: أخبرنا أبو معاوية الضرير ويزيد بن هارون، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بنكاح جديد.
وقال يزيد بن هارون: ومهر جديد.
وخرجه الدارقطني في "سننه" من حديث يوسف بن موسى وأيوب بن حسان الواسطي وأبي هشام، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد "زينب" ابنته رضي الله عنها على "أبي العاص بن الربيع" بنكاح جديد.
#519#
قال الدارقطني: هذا لا يثبت، و"حجاج" لا يحتج به، والصواب: حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول، وكذلك رواه مالك عن الزهري في قصة "صفوان بن أمية".
وحدث به الترمذي في "جامعه" عن أحمد بن منيع وهناد، قالا: حدثنا أبو معاوية، فذكره.
ورواه ابن ماجه عن أبي كريب، عن أبي معاوية بنحوه.
وخرج البيهقي حديث "حجاج" هذا: من طريق الشافعي، حدثنا أبو يوسف، حدثنا الحجاج بن أرطاة، فذكره بنحوه.
ثم قال: فقد قال أبو الحسن الدارقطني رحمه الله فيما أخبرني أبو عبد الرحمن عنه: "هذا لا يثبت، وحجاج لا يحتج به، والصواب: حديث ابن عباس"؛ يريد: ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرني عبد الله بن الحسين القاضي، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب رضي الله عنها على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يحدث شيئا.
وفيما حكى أبو عيسى الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري
#520#
أنه قال: حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب.
قال البيهقي: وبلغني أن "الحجاج بن أرطاة" لم يسمعه من "عمرو"، و"الحجاج" مشهور بالتدليس.
ثم قال: ومن ادعى النسخ في حديث أبي العاص من غير حجة لم يقبل منه، وحين أسر يوم "بدر" لم يسلم، وإنما أسلم بعدما أخذت سرية زيد بن حارثة ما معه، قال: فأتى المدينة فأجارته "زينب"، فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جوارها، ودخل عليها فقال: "أي بنية، أكرمي مثواه، ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له"، فكان هذا بعد نزول آية الامتحان في الهدنة، ثم إنه رجع بما كان عنده من بضائع أهل مكة إلى مكة، ثم أسلم وخرج إلى المدينة، فكيف يصح ما روى هذا المدعي عن الزهري: أنه أخذ أسيرا يوم بدر، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه ابنته، وكان هذا قبل نزول الفرائض.
قال البيهقي: وإنما الحديث في قصة بدر: أنه أطلقه وشرط عليه. يعني: أن يخلي سبيل ابنته رضي الله عنها.
وذلك أن ابنته كانت بمكة، فلما أسر "أبو العاص" يوم بدر أطلقه على أن يرسل إليه ابنته رضي الله عنها، ففعل ذلك، ثم أسلم بعده بزمان.
هذا هو المعروف عند أهل المغازي، والله أعلم.
#521#
وما رواه في ذلك عن الزهري وقتادة منقطع.
وقال البيهقي أيضا: فإن زعم قائل: أن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ردها عليه بعد ست سنين، وفي رواية: سنتين. والعدة لا تبقى في الغالب إلى هذه المدة.
قلت: النكاح كان باقيا إلى وقت نزول الآية في "الممتحنة"، ولم يؤثر إسلامها وبقاؤها على الكفر فيه، فلما نزلت الآية وذلك بعد "صلح الحديبية" توقف نكاحها -والله أعلم- على انقضاء العدة، ثم كان إسلام "أبي العاص" بعد ذلك بزمان يسير، بحيث يمكن أن تكون عدتها لم تنقض في الغالب، فيشبه أن يكون الرد بالنكاح الأول كان لأجل ذلك، والله اعلم. انتهى.
وحديث التوقيت بالسنتين حدث به الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل في كتابه "الآحاد والمثاني"، فقال في ترجمة أبي العاص بن الربيع: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة والمقدمي، قالا: حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب رضي الله عنها إلى "أبي العاص" بنكاحها الأول بعد سنتين. قاله المقدمي، ولم يقله أبو بكر.
تابعهما: محمد بن سعد كاتب الواقدي عن يزيد بن هارون، وقد تقدم.
#522#
وكان "أبو العاص" رضي الله عنه محبا لزوجته "زينب" رضي الله عنها.
حدث هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن معروف بن خربوذ المكي قال: خرج "أبو العاص بن الربيع" في بعض أسفاره إلى الشام، فذكر امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأنشأ:
ذكرت زينب لما وركت إرما ... فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة ... وكل بعل سيثني بالذي علما
رواه ابن سعد عن ابن الكلبي.
وخرجه أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في كتابه "الغزل" فقال: حدثنا إبراهيم بن جميل الأندلسي، حدثنا عمر بن شبه، حدثني أحمد بن معاوية، حدثني هشام بن محمد، حدثني معروف بن خربوذ المكي قال: خرج "أبو العاص بن الربيع" إلى بعض ما يسافر فيه إلى الشام، فاشتاق إلى "زينب" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال .. وذكر البيتين، إلا أنه قال:
بنت الرسول جزاها الله صالحة
وذكر القصة أبو عبيد الله المرزباني في "معجم الشعراء" في ترجمة أبي العاص بن الربيع، وقال: اسمه "القاسم"، وهو الثبت، وقيل: "لقيط"، ويقال: "مهشم"، وكان يقال له: "جرو البطحاء". كذا ذكر المرزباني.
#523#
ومن الخلاف في اسمه: ما قيل فيه: "ياسر"، وقيل: "هاشم".
توفي "أبو العاص" في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة رضي الله عنه.
وقال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني ابن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: توفيت "زينب" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها في أول سنة ثمان من الهجرة.
واللائي غسلن زينب رضي الله عنها: "أم أيمن" و"سودة بنت زمعة" و"أم سلمة". قاله: "أبو رافع" و"أم عطية نسيبة بنت كعب الأنصارية".
قال ابن سعد: أخبرنا أبو معاوية الضرير، حدثنا عاصم الأحول، عن حفصة، عن أم عطية قالت: لما ماتت "زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الخامسة كافورا أو شيئا من كافور، وإذا غسلتنها فأعلمنني". فلما غسلناها أعلمناه صلى الله عليه وسلم، فأعطانا حقوه، فقال: "أشعرنها إياه".
"الحقو": الإزار في أحد معانيه، وهو بفتح أوله، وذكر النووي رحمه الله أنه يكسر أيضا. قاله أبو عبيد الهروي، وجمعه: "أحق" و"أحقاء" و"حقى".
وحديث أبي معاوية هذا: خرجه مسلم في "صحيحه" فقال: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة وعمرو الناقد، جميعا عن أبي معاوية. قال
#524#
عمرو: حدثنا محمد بن خازم أبو معاوية، حدثنا عاصم الأحول، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية رضي الله عنها قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وترا: ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الخامسة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنها فأعلمنني"، قالت: فأعلمناه فأعطانا حقوه وقال: "أشعرنها إياه".
رواه عن "أم الهذيل حفصة بنت سيرين": أخوها محمد بن سيرين، وأيوب بن أبي تميمة السختياني وخالد الحذاء وهشام بن حسان، وله طرق.
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسن بناته.
وكان سبب وفاتها: أنها لما أخرجت من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركها "هبار بن الأسود" ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما قيل، فسقطت على صخرة فأسقطت حملها إذ كانت حاملة، فأهراقت الدم، فلم يزل بها وجعها حتى ماتت رضوان الله عليها.
الرجل الذي لم يسم هنا هو: "نافع بن عبد قيس الفهري".
و"هبار": أسلم، وقتل "يوم أجنادين"، ولم يترك عقبا.
#525#
وجاء من طريق سعد بن الصلت، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج بجنازتها، وخرجنا معه، فرأيناه كئيبا حزينا، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قبرها فخرج ملتمع اللون، وسألناه عن ذلك، فقال: "إنها كانت امرأة مسقاما، فذكرت شدة الموت وضغطة القبر، فدعوت الله أن يخفف عنها".
خرجه الحاكم في "مستدركه".
وفيه اضطراب، اختلف فيه على الأعمش، وذكره ابن الجوزي في كتابه "الموضوعات" وقال: هذا حديث لا يصح من جميع طرقه.
#526#
$"رقية" وتزويجها بـ "عثمان" رضي الله عنهما، وهجرتها معه، ووفاتها رضي الله عنها$
وأما "رقية" رضوان الله عليها: فولدت سنة ثلاث وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن سعد في "الطبقات": كان تزوجها "عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب" قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى: {تبت يدا أبي لهب وتب} قال أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته، ففارقها ولم يكن دخل بها.
وأسلمت حين أسلمت أمها "خديجة بنت خويلد" رضي الله عنها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، وهاجرت معه إلى أرض "الحبشة" الهجرتين جميعا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لأول من هاجر إلى الله تبارك وتعالى بعد لوط عليه السلام"، وفي غير قول ابن سعد: بعد "لوط": و"إبراهيم".
وكانت في الهجرة الأولى قد أسقطت من "عثمان" سقطا، ثم ولدت له بعد ذلك ابنا فسماه: "عبد الله"، وكان "عثمان" يكنى به في الإسلام، وبلغ ست سنين فنقره ديك في وجهه فطم وجهه فمات -في غير قول ابن سعد- في جمادى الأول سنة أربع.
#527#
قال ابن سعد: ولم تلد شيئا بعد ذلك، وهاجرت إلى المدينة مع زوجها "عثمان" حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى "بدر"، فخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر في شهر رمضان على رأس سبعة عشر شهرا من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم "زيد بن حارثة" من بدر بشيرا، فدخل المدينة حين سوي التراب على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عفان بن مسلم، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما ماتت "رقية" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحقي بسلفنا عثمان بن مظعون"، فبكت النساء على "رقية" رضي الله عنها فجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضربهن بسوطه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: "دعهن يا عمر يبكين"، ثم قال: "ابكين وإياكن ونعيق الشيطان؛ فإنه مهما يكن من القلب والعين فإنه من الله تعالى والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان". فقعدت فاطمة رضي الله عنها على شفير القبر إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت تبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدمع من عينيها بطرف ثوبه.
#528#
قال محمد بن سعد: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر، فقال: الثبت عندنا من جميع الرواية: أن "رقية" رضي الله عنها توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بـ"بدر"، ولم يشهد دفنها، ولعل هذا الحديث في غيرها من بنات النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي شهد دفنهن، فإن كان في "رقية" وكان ثبتا فلعله صلى الله عليه وسلم أتى قبرها بعدما قدم المدينة، وبكى النساء عليها بعد ذلك. انتهى.
وجاء الحديث مطلقا فيما خرجه أبو عبد الرحمن السلمي محمد بن الحسين في كتابه "المواعظ" من طريق أبي العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا أبو يحيى، حدثنا عبيد الله بن محمد، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بكت "فاطمة" عليها السلام على شفير قبر أختها، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى، دموعها بثوبه.
وجاء عن الشعبي، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: أن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفيت، وكان يحملون النساء والرجال على الأسرة سواء، فقلت: يا رسول الله، إني كنت بالحبشة، وهم نصارى أهل الكتاب، وهم يجعلون للمرأة نعشا فوقه أضلاع، يكرهون أن يوصف شيء من
#529#
خلقها، أفلا أجعل لابنتك نعشا مثله؟ فقال: "اجعليه"، فهي أول من جعل لها النعش في الإسلام، لـ"رقية" ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حديث فرد.
وفي أول امرأة جعل لها النعش في الإسلام خلاف يأتي ذكره -إن شاء الله تعالى- في ترجمة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها.
وقال محمد بن عبد الرحمن بن طلحة القرشي: حدثنا عثمان بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما عزي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنته "رقية" قال: "الحمد لله، دفن البنات من المكرمات".
وخرجه الحافظ أبو نعيم في "الحلية" من حديث عراك بن خالد بن يزيد بن صبيح المري، عن عثمان بن عطاء به.
#530#
وقال: تفرد به عراك بن خالد. انتهى.
وليس كذلك، بل تابعه عليه محمد بن عبد الرحمن بن طلحة القرشي كما ذكرناه، لكنها متابعة لا تساوي شيئا؛ لأن "محمد بن طلحة" أحد السراق، وقد حكم أبو أحمد ابن عدي انه سرق هذا الحديث من عراك بن خالد، فهو حديثه، انفرد به كما حكم به الحافظ أبو نعيم.
وقد حدث الحافظ أبو بكر عبد الله ابن أبي داود، عن محمد بن معمر، حدثنا حميد بن حماد، حدثنا مسعر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موت البنات من المكرمات" إسناده واه، انفرد به محمد بن معمر عن حميد.
#531#
والحديث من أصله لا يعتد به، ذكرته ليعرف، وكان الحافظ أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي يحلف بالله أنه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا شيئا قط، سمعه ابن الجوزي يحلف بذلك.
ولما خلف النبي صلى الله عيه وسلم على ابنته "رقية" عليها السلام "عثمان بن عفان" رضي الله عنه، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وحصل الفتح، وقسمت الغنائم: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لـ "عثمان" بسهمه منها وأجره؛ ولهذا ذكره أهل السير فيمن شهد بدرا من المسلمين.
وكذلك تخلف جماعة عن بدر لأعذار حصلت لهم، فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم وأجورهم، فمن المهاجرين:
عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتقدم ذكر تخلفه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم يتحسسان خبر العير، فقدما المدينة يوم وقعة بدر، فاستقبلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربان وهو منحدر من بدر يريد المدينة، فضرب لهما بسهمها وأجرهما.
وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على ما ذكره الحاكم أبو عبد الله في "المستدرك" في ترجمته فقال: حدثني علي بن حمشاذ العدل، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله،
#532#
حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ "جعفر بن أبي طالب" يوم بدر سهمه وأجره.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
قال الحاكم: ومن الأنصار:
بشير -وقيل: رفاعة- بن عبد المنذر بن زهير أبو لبابة، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى بدر فرده النبي صلى الله عليه وسلم من "بئر أبي عنبة" وهي على ميل من المدينة مرده واليا على المدينة وضرب له بسهمه وأجره.
وعاصم بن عدي بن الجد بن العجلاني بن ضبيعة، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار، واستخلفه على أهل "قباء" و"العالية"، وضرب له بسهمه وأجره. فيما زاده الواقدي.
والحارث بن حاطب بن عمرو الأنصاري، رده النبي صلى الله عليه وسلم من "الروحاء" إلى "بني عمرو بن عوف" لشيء بلغه عنهم، وضرب له بسهمه وبأجره. فيما قاله الواقدي.
والحارث بن الصمة أبو سعد الأنصاري، كسر بـ "الروحاء" فرجع، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، فيما ذكره الواقدي وغيره.
#533#
وخوات بن جبير بن النعمان أبو صالح الأنصاري الأوسي، خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فأصابه حجر بـ"الصفراء" فكسر، فرده النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وضرب له بسهمه وبأجره، فيما ذكره ابن الجوزي وغيره.
وسعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة أبو سهل الساعدي، تجهز لـ "بدر" فمات، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، قيل: مات بـ"الروحاء"، وقيل: قبره بالمدينة عند "دار قارظ".
وثم اثنان غير من ذكرنا مختلف فيهما.
أحدهما: أبو ثابت سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف الخزرجي، كان يتهيأ للخروج إلى "بدر" ويأتي دور الأنصار يحضهم على الخروج، فنهش قبل أن يخرج، فأقام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن كان سعد لم يشهدها لقد كان حريصا".
ذكره ابن سعد وقال: وروى بعضهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه وأجره، وليس ذلك بمجمع عليه ولا ثبت، ولم يذكره أحد ممن يروي المغازي في تسمية من شهد بدرا، ولكنه قد شهد "أحدا" و"الخندق" والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أبو الصياح بن ثابت بن النعمان بن أمية الأنصاري، خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى "بدر"، فأصابت ساقه نصل حجر فرجع، فضرب له سهمه وأجره.
#534#
والثالث: صبيح، مولى أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، قال ابن إسحاق: وزعموا أن صبيحا تجهز للخروج إلى "بدر" مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرض، فحمل على بعيره أبا سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ثم شهد "صبيح" بعد ذلك المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا ذكره ابن إسحاق، لم يزد عليه، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب له بسهمه وأجره، لكنه قيل، والله أعلم.
وقد نظمت أسماء العشرة المذكورة والثلاثة المختلف فيهم في أبيات لتحفظ، فقلت:
لقد غاب عن بدر وحاز من أجرها ... وسهمانها قوم كرام المناقب
هم عشرة: عثمان حارث صمة ... سعيد وخوات وطلحة غالب
وسعد أبو سهل بشير وعاصم ... هو ابن عدي جعفر وابن حاطب
وعد أبو الصياح وابن عبادة ... كذا وصبيح عز نقلا لطالب
#535#
$"أم كلثوم"، وتزويجها "عثمان"، ووفاتها رضي الله عنها$
وأما "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها فاسمها: "آمنة" فيما قاله مصعب بن عبد الله الزبيري.
وقال ابن سعد في "الطبقات": تزوجها "عتيبة بن أبي لهب بن عبد المطلب" قبل النبوة، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل: {تبت يدا أبي لهب وتب} قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته. ففارقها ولم يكن دخل بها، فلم تزل بمكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلمت حين أسلمت أمها "خديجة"، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع عيال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلم تزل بها حتى توفيت "رقية" ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خلف عثمان بن عفان رضي الله عنه على "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت بكرا، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وأدخلت عليه في السنة المذكورة في "جمادى الآخر"، فلم تزل عنده إلى أن ماتت، ولم تلد له شيئا، وماتت في شعبان سنة تسع من الهجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كن عشرا لزوجتهن عثمان رضي الله عنه".
#536#
وجاء عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا لفظه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان"، زاد عروة: يعني: "رقية" و"أم كلثوم".
وفي "المستدرك" من حديث ابن لهيعة، حدثني عقيل بن خالد، عن الزهري ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عثمان بن عفان وهو مغموم، فقال: "ما شأنك يا عثمان؟" قال: بأبي أنت يا رسول الله وأمي، هل دخل على الناس ما دخل علي، توفيت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي رحمها الله، وانقطع الصهر فيما بيني وبينك إلى آخر الأبد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتقول ذلك يا عثمان وهذا جبريل عليه السلام يأمرني عن أمر الله أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عدتها"، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها.
وأخرجه الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني في "تجمعة حديث مالك بن أنس" من طريق حبيب كاتب مالك عن الزهري
#537#
بنحوه، لكنه أدخله في قسم المناكير، وهو كذلك.
وقال أبو حسان الحسن بن عثمان: أخبرني شعيب بن صفوان الثقفي، عن محمد بن عجلان قال: لما توفيت "رقية" بكى "عثمان" وهو على شفير القبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك؟" قال: انقطاع صهري منك يا رسول الله. قال: "فإنك صهري إلى يوم القيامة"، فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا نزل عليه الوحي كأنه يحمل ثقيلا، فقال: "الحمد لله الذي صدق مقالتي، إن جبريل أتاني فقال: إن الله عز وجل يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على صداق أختها، وعلى أن تصحبها صحبتها"، فأملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على شفير القبر.
وقال أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عطية بن زياد بن الحداد: حدثنا زكريا أبو يحيى السجزي -ويعرف بـ"خياط السنة" -حدثنا أبو مروان العثماني محمد بن عثمان، حدثنا أبي، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي "عثمان" وهو عند باب المسجد فقال: "يا عثمان، هذا جبريل يخبرني أن الله تبارك وتعالى زوجك أم كلثوم على مثل
#538#
صداق رقية، وعلى مثل صحبتها".
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمر بن عبد الله العنسي، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن فاطمة الخزاعية، عن أسماء بنت عميس قالت: أنا غسلت "أم كلثوم" بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفية بنت عبد المطلب، وجعلت عليها نعشا، أمرت بجرائد رطبة فواريتها.
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني مالك ابن أبي الرجال، عن أبيه، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن قالت: غسلها نساء الأنصار، فيهن أم عطية، ونزل في حفرتها أبو طلحة.
وروينا من طريق سلمة بن الفضل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم، عن داود بن عروة بن مسعود الثقفي: أن
#539#
ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل "أم كلثوم" بنت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأول ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من كفنها: الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت في الثوب الأكبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الباب يناولنا.
ورويناه في "سنن أبي داود" من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، حدثني نوح بن حكيم الثقفي وكان قارئا للقرآن، عن رجل من بني عروة بن مسعود يقال له: داود قد ولدته أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن ليلى بنت قانف، فذكره بنحوه.
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال: صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس على حفرتها، ونزل في حفرتها: علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.
#540#
وقال: أخبرنا محمد بن عمر، حدثني فليح بن سليمان، عن هلال بن أسامة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم جالسا على قبرها، فرأيت عيناه تدمعان فقال: "فيكم أحد لم يقارف الليلة؟" فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. قال: "انزل".
تابعه يونس بن محمد وابن المبارك وغيرهما، عن فليح.
وهلال بن أسامة هذا ينسب إلى جده، وهو: هلال بن علي بن أسامة بن أبي ميمونة، ويقال: ابن أبي هلال، الفهري القرشي المدني، مات في آخر خلافة هشام.
قاله الواقدي: وحديثه هذا خرجه البخاري في "صحيحه" عن محمد بن سنان، عن فليح. وعن عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر، عن فليح.
وعلقه عن ابن المبارك، حدثنا فليح، فذكره بنحوه.
وقد قيل: إن التي جلس النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها ودمعت عيناه هي: ابنته
#541#
"رقية" رضي الله عنها، ففي "مستدرك الحاكم" من حديث عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: لما ماتت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة"، فلم يدخل عثمان القبر.
صححه الحاكم وقال: على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وحدث به يعقوب بن سفيان أبو يوسف في "تاريخه" عن محفوظ بن أبي توبة عن عفان بنحوه.
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث خطأ من حماد بن سلمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشهد دفن "رقية" ابنته، ولا كان ذلك القول منه في "رقية"، وإنما كان ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم في ابنته "أم كلثوم" رضي الله عنها. انتهى.
وما ذكرناه من أن أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة ستة: ذكران، وأربع بنات، هو الصحيح - إن شاء الله تعالى.
وإبراهيم من مارية القبطية، وسيأتي خبره إن شاء الله تعالى عند ذكر أمه.
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سقط من عائشة سماه عبد الله ولم يثبت.
#542#
&مناقب "خديجة" وفضلها رضي الله عنها&
و"خديجة" رضي الله عنها أول زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وأول من آمن به مطلقا، وقيل: أول الناس إسلاما: أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما، واختلفوا أيهما أسبق؟
شهدت "خديجة" انشقاق القمر بمكة، وكانت وزير صدق، وقد أشار إليها آدم عليه السلام فيما ذكره الزبيري بن بكار في كتاب "أنساب قريش" عن عبد الرحمن بن زيد قال: قال آدم عليه السلام: مما فضل به علي ابني صاحب البعير: أن زوجة كانت له عونا على تبليغ أمر الله، وأن زوجي كانت عونا على المعصية.
وخرج الخطيب في "تاريخه" من طريق محمد بن الوليد بن أبان -وهو: القلانسي البغدادي مولى بني هاشم- حدثنا إبراهيم بن صرمة، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فضلت على آدم بخصلتين: كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه فأسلم، وكن أزواجا عونا لي، وكان شيطان آدم كافرا، وكانت زوجته عونا له على خطيئته".
#543#
القلانسي رمي بالوضع.
ويروى الحديث من طريق آخر: ولفظه: "إن آدم عليه السلام قال: إني لسيد البشر يوم القيامة، إلا رجلا من ذريتي فضل علي باثنتين: كانت زوجته عونا له، وكانت زوجتي عونا علي. وأعانه الله على شيطانه فأسلم، وكفر شيطاني".
وثبت في "الصحيحين" من حديث محمد بن فضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.
إنما يعني به: قصب اللؤلؤ فيما قاله الترمذي في "جامعه".
و"القصب" من الجوهر في اللغة: ما كان مستطيلا أجوف.
وقال أبو عبيد الهروي: قال أهل العلم واللغة: "القصب" في هذا الحديث: لؤلؤ مجوف واسع كالقصر المنيف. وهكذا نقله الخطابي.
ووقع في رواية ابن وهب: قال: قلت: يا رسول الله، وما بيت من قصب؟ قال: "بيت من لؤلؤة مجوفة".
#544#
وفي رواية: "مجوبة" بدل "مجوفة".
ووقع في كتاب الخطابي: "مجوبة" وزان: مصونة.
وخرج الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث أبي اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان بن عمرو، عن مهاجر بن ميمون، عن فاطمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أمنا "خديجة"؟ قال: "في بيت من قصب، لا لغو فيه ولا نصب، بين مريم وآيسة امرأة فرعون"، قالت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا، بل من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت".
لا يروى هذا الحديث عن فاطمة إلا بهذا الإسناد، تفرد به صفوان بن عمرو. قاله الطبراني.
وقال أبو الحسن محمد بن حامد بن السري خال ولد السني في كتابه "السنة": حدثا الحسن بن عرفة، حدثنا شبابة بن سوار، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه قال: قالت فاطمة رضي الله عنها: والله يا رسول الله، لا ينفعني عيش حتى تسأل جبريل عليه السلام: أين أمي؟ فسأله، قال: هي بين مريم وسارة في الجنة.
وقال أبو الربيع الزهراني: حدثنا جعفر بن سليمان، سمعت ثابتا يقول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما جالسا ومعه جبريل عليه السلام يحدثه إذ
#545#
جاءت "خديجة" تمشي في درع وهي لا ترى جبريل عليه السلام، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد، هذه "خديجة" مقبلة فبشرها أن الله تعالى قد بنى لها في الجنة بيتا من قصب، لا تسمع فيه صخبا ولا نصبا.
قال ثابت: والله الذي لا إله هو من الدر والياقوت.
وقال أبو الوليد الأزرقي: حدثنا جدي أحمد بن محمد، أخبرنا عبد الجبار بن الورد المكي، سمعت ابن أبي مليكة يقول: جاءت خديجة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحيس وهو في "حراء"، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، هذه خديجة قد جاءت تحمل حيسا معها، والله تعالى يأمرك أن تقرئها السلام وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فلما أن رقيت "خديجة" رضي الله عنها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا خديجة، إن جبريل عليه السلام جاءني، والله تعالى يقرئك السلام ويبشرك ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"، فقالت خديجة رضي الله عنها: الله السلام، ومن الله السلام وعلى جبريل السلام.
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه "أمارات النبوة": حدثنا عبد الوهاب بن عبد الرحيم الأشجعي -من أهل "جرير"-، حدثنا مروان بن معاوية، عن وائل بن داود، حدثنا
#546#
عبد[الله] البهي قال: أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم "خديجة" رضي الله عنها من عنب الجنة.
وقال الحسين بن إسماعيل المحاملي: حدثنا سلم بن جنادة، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت تأتي النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فيكرمها، فقلت له؛ فقال: "هذه كانت تأتينا زمان خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
وروينا من حديث أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، حدثنا صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "من أنت؟"
قالت: أنا جثامة المزنية.
فقال: "بل أنت: حسانة المزنية كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟" قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قالت عائشة - رضي الله عنها: فلما خرجت فقلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! قال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
#547#
أخرجه أحمد بن حنبل في "مسنده" من طريق الكديمي عن أبي عاصم، وقال فيه: "بل أنت حضانة".
وأخرجه أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب" من طريق محمد بن يونس الكديمي، عن الضحاك بن مخلد: نحوه، وقال: "بل أنت حسانة".
هذه الرواية أولى بالصواب من رواية من روى ذلك في "الحولاء بنت تويت"، والله أعلم، والحديث عند أبي عاصم، واختلف عليه فيه. انتهى.
#548#
وقد خرجه الحاكم في "مستدركه" وقال: صحيح على شرط الشيخين، وليس له علة.
قلت: هو من أفراد الكديمي، وهي علته، والله أعلم.
وقل أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي: حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالشيء يقول: "اذهبوا به إلى بيت فلانة؛ فإنها كانت صديقة لخديجة. اذهبوا به إلى فلانة؛ فإنها كانت تحب خديجة".
وخرج الترمذي من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: ما غرت على أحد من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذلك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وإن كان ليذبح الشاة فيتبع بها صدائق خديجة فيهديها لهن.
وصح عن علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت "هالة بنت خويلد" أخت "خديجة" على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
#549#
فعرف استئذان خديجة؛ فارتاع لذلك فقال: "اللهم هالة"، قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها؟!
وروينا من حديث أبي عبد الله أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، قال: حدثنا عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثني أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوما من الأيام، فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزا فقد أبدلك الله خيرا منها؟ فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ثم قال: "لا، والله ما أبدلني الله خيرا منها؛ آمنت إذ كفر الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء". قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت في نفسي: لا أذكرها بسيئة أبدا.
ورويناه من طريق علي بن المديني، عن حماد بن سلمة عن مجالد بنحوه، وفي آخره: فقلت: والله لا أعاتبك فيها بعد اليوم.
ووجدت بخط الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده في كتابه "مسانيد عبد العزيز بن سياه وغيره": أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوهاب النصري، حدثنا موسى بن أيوب، قال:
#550#
حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن وائل بن داود، عن عبد الله البهي قال: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، وذكرها يوما فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن. فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضبا أسقط في خلدي، فقلت في نفسي: اللهم إنك إن أذهبت غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عني لم أعد لذكرها بسوء أبدا ما بقيت./ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقيت قال: "كيف قلت؟! والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقت منها الولد حين حرمتموه"، قالت: فغدا وراح بها علي شهرا.
وحدث يونس بن بكير في "المغازي" عن عبد الواحد بن أيمن المخزومي، حدثني أبو نجيح أبو عبد الله بن أبي نجيح قال: أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا، وقال: فأخذ عظما منها فناوله الرسول بيده فقال: "اذهب به إلى فلانة"، فقالت له عائشة رضي الله عنها: لم؛ عمرت يداك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خديجة أوصتني بها"، فغارت عائشة رضي الله عنها وقالت: لكأنه ليس في الأرض امرأة إلا خديجة؟! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، فلبث ما شاء الله ثم رجع، فإذا أم رومان فقالت: يا رسول الله؛ إنها حديثة سن، وأنت أحق من تجاوز عنها. فأخذ صلى الله عليه وسلم بشدق عائشة رضي الله عنها وقال: "ألست القائلة: ليس في الأرض امرأة إلا خديجة؟! والله؛ لقد آمنت بي إذ كفر قومي، ورزقت منها الولد وحرمتموه".
#551#
$وفاة "خديجة" رضي الله عنها$
توفيت "خديجة" رضي الله عنها بمكة لعشر ليال خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح.
قال أبو بشر الدولابي: حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، حدثنا زهير بن العلاء، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قال: توفيت خديجة رضي الله عنها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وهي أول من آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: توفيت قبل الهجرة بخمس سنين. وقيل: بأربع سنين. بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام، وقيل بشهر وخمسة أيام.
وقيل: ماتت في حياة أبي طالب.
قال الواقدي: توفيت "خديجة" قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة.
قلت: المشهور: أنها ماتت بعد أبي طالب ودفنت بـ"الحجون" فيما قاله الواقدي وغيره.
وبـ"الحجون" قبر معروف مقصود بالزيارة إلى الآن، يقال: هو قبر خديجة رضي الله عنها.
قال ابن سعد في "الطبقات": أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا المنذر بن عبد الله الحزامي، عن موسى بن عقبة، عن أبي حبيبة مولى
#552#
الزبير، سمعت حكيم بن حزام رضي الله عنه يقول: توفيت "خديجة" رضي الله عنها في شهر رمضان سنة عشر من النبوة، وهي يومئذ بنت خمس وستين سنة، فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بـ "الحجون"، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها. قيل: ومتى ذلك يا أبا خالد؟ قال: قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها وبعد خروج بني هاشم من الشعب بيسير.
وقد جاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في تجارة لـ "خديجة" سفرتين غير السفرة الأولى:
قال أبو سعد أحمد بن محمد بن زياد بن الأعرابي البصري: حدثنا الهيثم بن سهل التستري، حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص".
وقد أخبرنا أبو هريرة عبد الرحمن بن الذهبي: أن يحيى بن سعيد أخبره، عن أبي الحسن علي بن مختار، أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي سماعا، أخبرنا محمد بن [عبد] السلام أبو
#553#
الفضل الأنصاري ببغداد، أخبرنا الحسن بن أحمد بن شاذان، أخبرنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن معاذ الهروي الرفاء، أخبرنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عاصم بن علي، حدثنا الربيع بن بدر، حدثني أبو الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: استأجرت "خديجة" رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش، كل سفرة بقلوص.
وخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، عن جابر، ولفظه: أجر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه من "خديجة بنت خويلد" رضي الله عنها سفرتين إلى جرش، كل سفرة بقلوص.
وصحح الحاكم إسناده، وأنى له الصحة؛ وراويه الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد أبو العلاء التميمي الملقب عليلة، وقد ضعفه غير واحد من الحفاظ كقتيبة بن سعيد، ويحيى بن معين، وأبي داود، والنسائي، وابن عدي.
قال ابن القيم في "الهدي": و"كأن الحاكم [ظنه] الربيع بن بدر مولى طلحة بن عبيد الله".
كذا وجدته في نسخة بـ"الهدي"- لكنها غير معتمدة- مولى طلحة بن
#554#
عبيد الله مصغرا، وصوابه: طلحة بن عبد الله؛ لأن مولى الربيع هذا طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، سمع: أبا هريرة وعبد الله بن عمرو، وروى عن: عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
وجرش: بضم أوله وفتح ثانيه، بلد بـ"اليمن" أو مخلاف منها.
وجرش بالفتح: بلد بالشام.
والقلوص: من الإبل بمنزلة الجارية من النساء، وهي الشابة.
وجاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك في تجارة:
قال أبو أحمد الزبيري: حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن السائب بن عبد الله رضي الله عنه قال: جيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، جاء بي عثمان بن عفان وزهير بن أبي أمية، قال: فاستأذنوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأثنوا علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلماني به، فقد كان شريكي في الجاهلية" قال: قلت: صدقت يا رسول الله، كنت شريكي، فنعم الشريك أنت، كنت لا تماري ولا تداري. فقال النبي صلى اله عليه وسلم: "يا سائب، انظر الأخلاق التي كنت تصنعها في الجاهلية فاصنعها في الإسلام: أحسن إلى اليتيم، وأقر الضيف، وأكرم الجار".
#555#
وحدث به أبو داود في "مسنده" عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يثنون علي ويذكروني، وذكر الحديث بنحوه.
أخرجه النسائي في "عمل اليوم الليلة" من حديث أبي هشام المغيرة بن سلمة المخزومي، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب، فذكره بنحوه، ولم يذكر "قائد السائب".
تابعه عفان بن مسلم عن وهيب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والسائب هو: ابن أبي السائب، واسمه: صيفي بن عابد بن عبد الله بن ميمون بن عمر بن مخزوم العابدي المكي، وهو: أبو عبد الله ابن السائب قارئ مكة.
وقد روي أن هذه القصة كانت يوم فتح مكة.
قال الإمام أحمد في "مسنده": حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب: أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح جاءه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري".
#556#
تابعه الحسن بن المثنى، عن عفان، وزاد بعد قوله: "ولا يماري": "يا سائب، قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تقبل منك، وكان ذلك سلفا وصلة، وإنها تقبل منك اليوم".
وحدث به ابن سعد في "الطبقات" عن عفان.
وقال أبو بكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه": حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن قائد السائب، عن السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
يعني: نحو ما رواه أيضا عن أبيه قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن مجاهد: أن قيس بن السائب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شريكي في الجاهلية، فكان خير شريك، كان لا يشاري ولا يماري.
وأخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط" من حديث سعيد بن سليمان، عن منصور بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن مجاهد، عن مولاه عبد الله بن السائب قال: كنت شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فلما قدمت المدينة قال: "تعرفني؟" قلت: نعم، كنت نعم الشريك، لا تماري ولا تداري.
ذكر الطبراني أنه لم يروه عن منصور إلا سعيد بن سليمان.
#557#
وحدث به أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "ذم الغيبة" عن سعيد بن سليمان بنحوه.
تابعه أبو بكر بن أبي خيثمة فرواه في "التاريخ" عن سعدويه بنحوه.
وقد اختلف إبراهيم بن ميسرة وإبراهيم بن مهاجر والأعمش عن مجاهد:
فقال إبراهيم بن ميسرة: عن قيس بن السائب.
وقال إبراهيم بن مهاجر: عن قائد السائب.
وقال الأعمش: عبد الله بن السائب.
قلت: وقد قدمنا رواية إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن السائب بن عبد الله. ورواية عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب. وهو المشهور في اسمه كما تقدم نسبه. والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يداري" روي بغير همز، أي: لا يخاتل ولا يخدع، درأ الصيد يدريه إذا ختله ولا ينه لئلا ينفر، ومنه مدارة الناس أي: ملاينتهم وترك مقاطعتهم ومخاشنتهم.
وروي: "ولا يدارئ" مهموزا أي: لا يدفع ذا الحق عن حقه، مأخوذ من درأته أدرأه: دفعته.
وقيل: "لا يداري ولا يماري" أي: لا يشاغب ولا يخاصم.
وأما الرواية الأخرى: "كان لا يشاري" أي: يلاحي، وقيل: هو "يشار" من الشر، فقلبت إحدى الرائين ياء فقيل: يشاري.
[1] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[2] [[من طبعة دار الكتب العلمية]].
[3] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[4] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي مكانها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل، ولعل مكانه: وخرج]]
[5] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي مكانها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل، ولعل مكانه: وحدث]]
[6] [[من طبعة دار الكتب العلمية، وفي مكانها من طبعة دار الفلاح فراغ، وقال المحقق: بياض بالأصل، ولعل مكانه: وحدث]]
[7] [[يوجد سقط في طبعة دار الفلاح، وهو موجود في طبعة دار الكتب العلمية 2/ 1044 - 1082]]
[8] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[9] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
[10] [[من طبعة دار الكتب العلمية]]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق